راح يو بو كين يحدق في ضوء الشمس الشديد، من دون أن يطرف له جفن، كأنه تمثال ضخم من البورسلين. كان رجلا في الخمسين من عمره، سمينا للغاية حتى إنه لم ينهض من كرسيه دون مساعدة منذ سنوات، لكنه بدا متناسق القوام وحسن الهيئة في جسامته؛ فالبورميون لا يترهلون وينتفخون مثل الرجال البيض، وإنما يسمنون بتناسب، مثل الفاكهة حين تنضج. وكان وجهه عريضا وأصفر وخاليا تماما من التجاعيد، وكانت عيناه عسليتين. أما قدماه الغليظتان ذاتا القوسين المرتفعين والأصابع المتساوية الطول فكانتا حافيتين، وكذلك كان رأسه الحليق حاسرا، وقد ارتدى أحد تلك الأزر الآراكانية الزاهية ذات المربعات الخضراء والأرجوانية التي يرتديها البورميون في المناسبات غير الرسمية. كان يمضغ نبات التانبول من عبوة مدهونة بالورنيش على المنضدة بينما يتأمل حياته الماضية.
كانت حياة ناجحة متألقة. تعود أقدم ذكريات يو بو كين إلى الثمانينيات حين كان طفلا بكرش بارز عاريا واقفا يشاهد القوات البريطانية وهي تزحف إلى ماندالاي منتصرة. تذكر ما اكتنفه من رعب من تلك الصفوف من الرجال الضخام المتغذين على لحوم الأبقار، بوجوههم الحمراء وستراتهم الحمراء؛ والبنادق الطويلة فوق مناكبهم، والوقع الثقيل المتواتر لأحذيتهم ذات الرقاب العالية. كان قد أطلق ساقيه للريح بعد مشاهدتهم بضع دقائق، فقد أدرك بمخيلته الطفولية أن شعبه ليس كفئا لتلك السلالة من العمالقة. وهكذا سيطر عليه منذ طفولته طموح الانضمام إلى صف البريطانيين وأن يصير كائنا متطفلا عليهم.
في سن السابعة عشرة حاول الالتحاق بوظيفة حكومية، لكنه فشل في الحصول عليها، لكونه فقيرا وبلا صديق، وظل يعمل ثلاث سنوات في المتاهة النتنة لبازارات ماندالاي، كاتبا لتجار الأرز وسارقا أحيانا. وهو في العشرين جعلته ضربة حظ في عملية ابتزاز يمتلك أربعمائة روبية، فذهب في الحال إلى رانجون وسلك طريقه إلى وظيفة كاتب في الحكومة بالرشوة. وكانت الوظيفة مجزية رغم أن مرتبها كان زهيدا؛ في ذلك الوقت كانت دائرة الكتبة تكسب دخلا ثابتا عن طريق الاختلاس من مخازن الحكومة، وقد ألف بو كين تلقائيا هذا الأمر (كان حينذاك بو كين فحسب؛ إذ جاء لقب التعظيم، يو، بعد ذلك بسنوات). بيد أن موهبته كانت أكبر من أن يقضي حياته كاتبا، يسرق بائسا الآنات والبيسات. وذات يوم اكتشف أن الحكومة لديها قصور في صغار الموظفين، ولذلك ستجري بعض التعيينات من الكتبة. كان الخبر سيذاع بعد أسبوع، لكن من صفات بو كين المميزة أن المعلومات تصل إليه قبل أي شخص آخر بأسبوع. وفي الحال رأى فرصته وبلغ عن كل المتواطئين معه قبل أن يتنبهوا. أرسل أغلبهم إلى السجن، وجعل بو كين موظفا مساعدا لشئون البلدة مكافأة على أمانته، واستمر ترقيه منذ ذلك الحين. وهو الآن في السادسة والخمسين، قاضي مركز، ومن المحتمل أن يرقى أكثر من ذلك ويصير نائب المفوض بالوكالة، فيصير ندا لرجال الإنجليز بل قد يصيرون دونه.
وكانت أساليبه في عمله قاضيا بسيطة. فلم يكن يبيع الحكم في قضية ولو لأعلى الرشاوى؛ لأنه كان يعلم أن القاضي الذي يصدر أحكاما خاطئة يقبض عليه عاجلا أو آجلا. فكان يتبع أسلوبا آمنا كثيرا، بأن يأخذ رشاوى من الطرفين، ثم يصدر حكمه بناء على أسس قانونية صارمة. وقد أكسبه هذا صيتا محمودا بكونه نزيها. وإلى جانب أرباحه من المتقاضين، فرض يو بو كين جزية مستمرة، فيما يشبه نظام ضرائب خاصا، على كل القرى الخاضعة لسلطته. وحين كانت أي قرية تتخلف عن الوفاء بجزيتها كان يو بو كين يتخذ إجراءات تأديبية؛ بأن تهاجم عصابات من المجرمين القرية، ويلقى القبض على زعماء القرية بتهم باطلة، وهكذا دواليك؛ فكان سريعا ما يسدد المبلغ. كما أنه كان يتقاسم مكاسب السرقات الكبرى التي تقع في منطقته. وكان أغلب هذه الأشياء معروفا للجميع ما عدا رؤساء يو بو كين (إذ لا يوجد بين المسئولين البريطانيين من يصدق أي شيء ضد رجاله على الإطلاق) لكن دائما ما كانت المحاولات لفضحه تبوء بالفشل؛ فقد كان أنصاره، الذين ظلوا أوفياء لحصتهم في الغنيمة، كثيرين جدا. حين كان يوجه أي اتهام إلى يو بو كين، ما كان عليه سوى دحضه بصفوف من الشهود الزور، متبعا ذلك باتهامات مضادة تخلفه في وضع أقوى من ذي قبل. وعلى ذلك كاد أن يكون حصينا؛ لأنه كان شديد الدقة في حكمه على الرجال، فلا يخطئ في اختيار أدواته، وكذلك لأنه كان شديد الانهماك في الحيل فلا يفوته شيء قط إهمالا أو جهلا. كان من الممكن القول بيقين شبه تام بأنه لن يكشف أبدا، وأنه سيمضي من نجاح إلى نجاح ، وأنه سوف يموت أخيرا ملؤه الشرف، بثروة تقدر بمئات آلاف الروبيات.
وحتى بعد وفاته سيظل فلاحه متصلا. تفيد العقيدة البوذية بأن أولئك الذي ارتكبوا إثما في حياتهم ستحل روحهم في البعث التالي في جسد فأر أو ضفدع أو حيوان وضيع آخر. وكان يو بو كين بوذيا صالحا وانتوى أن يتلافى هذا الخطر. فكان سيكرس سنواته الأخيرة لأعمال الخير التي ستحشد له حسنات كافية لترجح كفتها على باقي حياته. ربما ستأخذ أعماله الطيبة صورة بناء معابد بوذية؛ أربعة، خمسة، ستة معابد - سيخبره الكهنة بالعدد - بمنحوتات حجرية ومظلات مطلية بالذهب وأجراس ترن مع الريح، وفي كل رنة صلاة. وبهذا سوف يعود إلى الأرض في هيئة ذكر من البشر - فالنساء في نفس المستوى تقريبا مع الفئران والضفادع - أو في أفضل الظروف في هيئة حيوان مبجل كالفيل مثلا.
تدفقت كل هذه الأفكار سريعا في ذهن يو بو كين وبالصور في أغلب الأحيان. كان عقله ذكيا لكن بدائيا تماما، فلم يعمل إلا من أجل غاية محددة؛ أما التأمل المحض فكان أمره عسيرا عليه. كان في ذلك الوقت قد وصل إلى النقطة التي كانت أفكاره متجهة إليها. وضع يديه الصغيرتين بعض الشيء المثلثتي الشكل على ذراعي مقعده، واستدار إلى الخلف قليلا ونادى بصوت به أزيز: «با تايك! يا با تايك!»
ظهر با تايك، خادم يو بو كين، من خلال ستار الخرز الخاص بالشرفة، وكان رجلا ضئيل الحجم مجدورا ترتسم على وجهه أمارات الجبن وشيء من الجوع. لم يكن يو بو كين يدفع له أجرا، فقد كان لصا مدانا يمكنه بكلمة منه أن يرسله إلى السجن. تقدم با تايك وهو يضم يديه جاثيا على ركبتيه، وقد هبط بشدة حتى إنه أعطى الانطباع بأنه كان راجعا إلى الوراء.
قال با تايك: «سيدي المعظم.» «هل هناك أحد منتظر ليقابلني يا با تايك؟»
عد با تايك الزوار على أصابعه قائلا: «هناك زعيم قرية تيبينجي الذي جاء بهدايا يا سيادة القاضي؛ واثنان من القرويين لديهما قضية اعتداء ستحكم فيها سيادتك، وقد جاءا بهدايا أيضا؛ وكو با سين، رئيس الكتبة في مكتب نائب المفوض يود أن يرى سيادتك؛ وهناك علي شاه، رجل الشرطة، ورجل عصابة لا أعرف اسمه. أعتقد أنهما تعاركا بشأن بعض الأساور الذهبية التي سرقاها؛ وهناك أيضا فتاة من القرية معها طفل.»
سأله يو بو كين: «ماذا تريد؟» «تقول إن الطفل ابنك يا سيدي المعظم.» «حسنا، وكم أحضر زعيم القرية؟»
Page inconnue