وثار جدل، ونسيت الفتاة الواقفة خلف المقعد أمر التهوية وشاركت في الجدل. بدا أن كلتيهما ظلتا زمنا طويلا تتوقان لرؤية مشد أصلي. فقد سمعتا العديد والعديد من الحكايات عنه؛ إنه يصنع من الصلب على نسق صديري ضيق، ويشد على المرأة بشدة حتى تبدو بلا صدر، بلا صدر على الإطلاق! ضغطت الفتاتان بأيديهما على ضلوعهما السمينة لتوضيح الأمر. وتساءلتا ما إذا كان فلوري سيتكرم بسؤال السيدة الإنجليزية. كان ثمة غرفة خلف المتجر حيث يمكنها الذهاب معهما لخلع ملابسها. كانتا تأملان بشدة أن تريا مشدا.
ثم توقف الحديث بغتة. كانت إليزابيث تجلس متسمرة، حاملة فنجان الشاي الصغير، الذي لم تستطع إجبار نفسها على تذوقه مرة أخرى، وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة تماما. غشي الشرقيين فتور؛ إذ أدركوا أن الفتاة الإنجليزية، التي لم تستطع المشاركة في حديثهم، لم تكن تشعر بارتياح. وبدأت أناقتها وجمالها الأجنبي، اللذين سحراهم قبل لحظة، يثيران فيهم الروع. وحتى فلوري كان مدركا للشعور نفسه. ثم جاءت واحدة من تلك اللحظات البغيضة التي تمر على المرء مع الشرقيين، حين يتحاشى كل فرد عيني فرد آخر، محاولا التفكير دون جدوى في شيء ليقوله. ثم جاء الطفل العاري، الذي كان يستكشف بعض السلال في خلفية المتجر، زاحفا إلى حيث كان الأوروبيان جالسين. وراح يتفحص أحذيتهما وجواربهما بفضول هائل، ثم رفع بصره فرأى وجهيهما الأبيضين فاستولى عليه الفزع. وند عنه عويل مستوحش، وبدأ يبول على الأرض.
رفعت السيدة الصينية العجوز ناظريها وطرقعت بلسانها واستأنفت لف السجائر. لم يعر أحد آخر الأمر أدنى اهتمامه. بدأت بركة تتكون على الأرض، فانتاب إليزابيث هلع بالغ حتى إنها وضعت فنجانها على عجل، وسكبت الشاي، ثم تشبثت بذراع فلوري. «ذلك الطفل! انظر ماذا يفعل! حقا ألا يستطيع أحد ... يا للفظاعة!» ظل الكل يحملق مندهشا، ثم أدركوا جميعا ما الأمر. ثار صخب وسرت طرقعة بالألسنة. لم يكن أحد قد أعار الطفل أي اهتمام؛ فقد كان الحدث عاديا ليسترعي الانتباه، لكنهم صاروا جميعا الآن يشعرون بخزي شديد. وطفق الكل ينحون باللائمة على الطفل. وسارت صيحات: «يا له من طفل مخز! يا له من طفل مقزز!» حملت العجوز الصينية الطفل، وهو ما زال يعوي، إلى الباب، ورفعته للخارج على السلم كأنها تعتصر إسفنجة استحمام. في اللحظة نفسها، كما بدا، كان فلوري وإليزابيث خارج المتجر؛ حيث كان يتبعها عائدين إلى الطريق بينما تابعهما لي ييك والآخرون في جزع.
هتفت إليزابيث قائلة: «إذا كان ذلك ما تدعونه شعبا متحضرا ...»
قال لها بوهن: «إنني آسف، لم أتوقع قط ...» «يا لهم من ناس مقرفين غاية القرف!»
كانت غاضبة بشدة. وقد امتقع وجهها بلون زهري رقيق عجيب، مثل برعم شقائق نعمان تفتح قبل أوانه بيوم. كان هذا أغمق لون في إمكانه الاستحالة له. مشى فلوري في أثرها متجاوزين البازار وعائدين للطريق الرئيسي، وقد مضيا خمسين ياردة قبل أن يقدم على الكلام مرة أخرى. «يؤسفني بشدة ما قد جرى! لكن لي ييك رجل محترم للغاية. وسيسوءه أن يشعر بأنه قد تسبب في مضايقتك. كان من الأفضل حقا أن نمكث بضع دقائق. فقط لنشكره على الشاي.» «نشكره! بعد ذلك!» «الصراحة أنك ما كان ينبغي أن تبالي بشيء كهذا. ليس في هذا البلد. فالنظرة العامة لهؤلاء الناس تختلف بشدة عن نظرتنا. لا بد للمرء أن يتأقلم. افترضي مثلا أنك كنت في العصور الوسطى ...» «أعتقد أنني أفضل ألا أناقش الأمر أكثر من ذلك.»
كانت هذه المرة الأولى التي تشاجرا فيها يقينا. وكان هو بائسا للغاية حتى ليسأل نفسه كيف ضايقها. لم يدرك أن هذه المحاولة الدائمة لإثارة اهتمامها بالأشياء الشرقية بدت لها تصرفا فاسدا لا يليق برجل مهذب، وسعيا حثيثا وراء ما هو حقير و«كريه». لم يكن قد تفهم حتى اليوم بأي عينين كانت ترى «أهل البلد». عرف فقط أنها مع كل محاولة لجعلها تشاركه حياته وأفكاره وإحساسه بالجمال، كانت تجفل مثل فرس مذعور.
سار الاثنان على الطريق، هو على يسارها متخلفا عنها بقليل. ظل يراقب وجنتها المعرضة، والشعيرات الذهبية على قفاها تحت حافة قبعتها. لشد ما أحبها، لشد ما أحبها! كما لو كان لم يحبها بحق قط حتى هذه اللحظة، وهو يسير خلفها في خزي، لا يجرؤ حتى على أن يطل بوجهه المشوه. أوشك أن يتكلم عدة مرات، لكنه منع نفسه. لم يكن صوته مستعدا تماما، ولم يدر ما الذي يسعه قوله من دون أن يجازف بمضايقتها بطريقة ما. وفي النهاية قال بفتور، بتظاهر كليل بأن ليس ثمة شيء: «الحر صار فظيعا، أليس كذلك؟»
لم تكن ملحوظة ذكية ودرجة الحرارة تسعون في الظل. لكنها فاجأته وأقبلت عليه بنوع من الحماس؛ إذ حولت وجهها إليه، وابتسمت له مرة أخرى. «إنه ملتهب للغاية!»
بذلك صارا في سلام. فقد أتت الملحوظة التافهة السخيفة معها بأجواء دردشة النادي المطمئنة، فهدأت من روعها كأنها سحر. جاءت فلو، التي كانت متخلفة عنهما، وهي تلهث ويسيل لعابها؛ وسريعا ما راحا يتحدثان، كدأبهما تماما، عن الكلاب. ظلا يتحدثان عن الكلاب طوال ما تبقى من الطريق إلى المنزل، دون توقف تقريبا. فالكلاب موضوع لا ينفد. الكلاب، الكلاب! هذا ما خطر لفلوري وهما يتسلقان جانب التل الحار، والشمس الصاعدة تلفح أكتافهما من خلال ملابسهما الخفيفة، مثل لفح النار. ألن يتحدثا قط عن أي شيء غير الكلاب؟ أو عيوب الكلاب أو الأسطوانات أو مضارب التنس؟ لكن كم كان حديثهما يسيرا، وكم كانا يستطيعان الحديث بود حين يبقيان على مثل هذه التفاهات!
Page inconnue