أنشأت تقول مرة أخرى: «يجب حقا ...»
ثم توقفت، ناظرة إلى عتبة الباب؛ حيث كانت ما هلا ماي خارجة إلى الشرفة.
تقدمت ما هلا ماي واضعة يدها على ردفها. كانت قد أتت من داخل المنزل، بهدوء يؤكد حقها في الوجود هناك. ووقفت الفتاتان وجها لوجه، لا يفصلهما سوى ست أقدام.
كان التناقض بينهما لا يدانيه أي تناقض آخر غرابة؛ فإحداهما باهتة اللون مثل زهر التفاح، والأخرى داكنة ومبهرجة، ينعكس بريق شبه معدني على كعكة شعرها الأبنوسي وحرير إزارها البرتقالي الوردي. خطر لفلوري أنه لم يلحظ من قبل قط كم يبدو وجه ما هلا ماي داكنا، وكم هو غريب جسدها الضئيل المتيبس، المستقيم مثل جسد الجنود، الخالي من أي منحنيات ما عدا منحنى أردافها الشبيه بمنحنى المزهرية. وقف أمام سور الشرفة وراح يراقب الفتاتين، منسيا تماما. لم تستطع أي منهما أن ترفع عينيها عن الأخرى طيلة دقيقة تقريبا؛ لكن من الصعب أن نعرف أيا منهما وجدت المشهد أكثر شذوذا وإثارة للدهشة.
حولت ما هلا ماي وجهها صوب فلوري، وتساءلت بتجهم وقد ضمت حاجبيها الأسودين الرفيعين كخطي قلم رصاص، قائلة: «من هذه المرأة؟»
أجاب بلا اكتراث، كأنه يعطي أمرا لأحد الخدم: «انصرفي الآن. إن أثرت أي مشكلة سآتي لاحقا بخيزرانة وأبرحك ضربا حتى لا أترك ضلعا من ضلوعك سليما.»
ترددت ما هلا ماي وهزت منكبيها الصغيرين واختفت، فيما تساءلت الأخرى بفضول وهي تتبعها بعينين محدقتين: «هل كان ذلك رجلا أم امرأة؟»
فقال: «امرأة. زوجة أحد الخدم على ما أعتقد. جاءت لتسأل عن الغسيل، هذا جل ما في الأمر.» «هل هكذا تبدو النساء البورميات؟ إنهن كائنات صغيرة عجيبة! لقد رأيت الكثير منهن في طريقي إلى هنا بالقطار، لكنني في الحقيقة ظننتهن جميعا صبية. إنهن يبدون مثل نوع من الدمى الخشب الألمانية، أليس كذلك؟»
كانت قد شرعت في التحرك صوب سلم الشرفة، بعد أن فقدت اهتمامها بما هلا ماي التي كانت قد اختفت، ولم يوقفها؛ إذ شعر أن ما هلا ماي خليقة تماما بالعودة وإحداث فضيحة. بيد أن ذلك لم يكن ذا بال؛ إذ لم تكن أي من الفتاتين تعرف كلمة من لغة الأخرى. هكذا نادى على كو سلا، فجاء كو سلا راكضا معه مظلة كبيرة من الحرير المشمع ذات أضلاع من الخيزران، ليفتحها برزانة أسفل السلم ويرفعها فوق رأس الفتاة عند نزولها. وقد سار فلوري معهما حتى البوابة، حيث توقفا ليتصافحا، وهو متنح جانبا قليلا في أشعة الشمس القوية، مواريا وحمته. «سيرافقك صاحبي هذا إلى المنزل. كان كرما شديدا منك أن أتيت إلى هنا. لا يمكنني أن أصف لك كم أنا سعيد بمقابلتك. فسوف تحدثين فرقا كبيرا هنا في كياوكتادا.» «إلى اللقاء يا سيد ... يا للعجب! إنني لا أعرف اسمك حتى.» «فلوري، جون فلوري. وأنت ... الآنسة لاكرستين، أليس كذلك؟» «نعم، إليزابيث. إلى اللقاء يا سيد فلوري. وأشكرك شكرا جزيلا. فقد أنقذتني حقا من تلك الجاموسة الفظيعة.» «كان أمرا بسيطا. أرجو أن أراك هذا المساء في النادي؟ أعتقد أن عمك وزوجته سيأتيان. الوداع مؤقتا إذن.»
وقف عند البوابة، يشاهدهما يذهبان. إليزابيث! اسم جميل، نادر جدا هذه الأيام. تمنى لو كانت تكتبه بحرف الزاي. هرول كو سلا خلفها بخطوات طريفة مرتبكة، مادا المظلة فوق رأسها مع الابتعاد بجسمه عنها بقدر الإمكان. وهبت على التل ريح باردة؛ كانت واحدة من تلك الرياح العابرة التي تهب أحيانا في الجو البارد في بورما، آتية بغتة، لتملأ المرء عطشا وحنينا إلى حمامات السباحة المملوءة بمياه البحر الباردة وأحضان حوريات البحر والشلالات وكهوف الجليد. وقد أحدثت حفيفا بين الرءوس العريضة لأشجار البوانسيانا الملكية، وأثارت أجزاء الخطاب المجهول المصدر الذي كان فلوري قد ألقاه من فوق البوابة قبل نصف ساعة.
Page inconnue