هز ويستفيلد منكبيه النحيلين بتفلسف، وكان قد جلس إلى الطاولة وأشعل لفافة من السيجار البورمي الأسود كريه الرائحة.
وقال: «أعتقد أننا لا بد أن نتقبل الأمر. فالسكان المحليون الحثالة يدخلون كل النوادي الآن، حتى نادي بيجو كما أخبرت. فهذا هو النهج الذي سيتخذه هذا البلد كما ترى. إننا آخر ناد صمد ضدهم في بورما.» «هذا صحيح؛ بل وسوف نداوم على صمودنا بلا شك. فسوف أظل أقاوم حتى الموت قبل أن أرى زنجيا هنا.» وأخرج إليس عقب قلم رصاص. وأعاد تثبيت الإعلان على اللوحة تلفه هالة غريبة من النكاية التي يستطيع بعض الرجال أن يبدوها في أقل حركاتهم، وخط بالقلم أمام توقيع السيد ماكجريجور حرفي «أ. ل.» (أي أحمق لعين) بخط صغير ومنمق. «هذا رأيي في فكرته. سأخبره به حين يأتي. ما رأيك أنت يا فلوري؟»
لم يكن فلوري قد نبس ببنت شفة طوال هذا الوقت. رغم أنه لم يكن بطبعه رجلا هادئا على الإطلاق، فقلما كان يجد الكثير لقوله في محادثات النادي. كان قد جلس إلى الطاولة وجعل يقرأ مقال جي كيه تشسترتون في مجلة «لندن نيوز»، بينما يربت على رأس فلو بيده اليسرى. غير أن إليس كان واحدا من أولئك الناس الذين يلحون على الآخرين ليرددوا آراءهم. أعاد سؤاله، فرفع فلوري ناظريه، والتقت عيناهما. فجأة صار الجلد حول أنف إليس شاحبا جدا حتى كاد يكون رماديا، وكانت هذه من علامات غضبه. وبدون أي مقدمات انفجر في سيل من التوبيخ الذي كان سيصيب الآخرين بالدهشة، لو لم يكونوا معتادين على سماع شيء مثله كل صباح. «يا إلهي، وأنا كنت أظن أنه في مسألة كهذه، حين يكون السؤال متعلقا بإبعاد أولئك الخنازير العفنين السود عن المكان الوحيد الذي يتسنى لنا فيه الاستمتاع بوقتنا، أنك ستتحلى باللياقة لتأييدي. حتى إن كان ذلك الدكتور الزنجي الأكرش القذر التافه الحقير أفضل أصدقائك. لا يعنيني إن كنت تؤثر مرافقة حثالة البازار. إذا كان يسرك أن تذهب إلى منزل فيراسوامي وأن تحتسي الويسكي مع كل رفاقه الزنوج، فهذا شأنك. فلتفعل ما يحلو لك خارج النادي. لكن بحق الرب، الأمر يختلف حين تتحدث عن إحضار زنوج هنا. أعتقد أنك تود جعل الدكتور فيراسوامي عضوا في النادي، صحيح؟ ليقاطع حديثنا ويربت على الكل بيدين تتصببان عرقا ويطلق في وجوهنا أنفاسه القذرة المحملة برائحة الثوم. أقسم بالله إنه سيخرج يتبعه حذائي إن رأيت خطمه الأسود داخل ذلك الباب. الكريه، الأكرش، الحقير!» ... إلخ.
استمر الأمر عدة دقائق، وكان مبهرا في غرابة؛ لأنه كان صادقا تماما. فقد كان إليس يكره الشرقيين حقا؛ يكرههم بمشاعر بغض حادة لا تهدأ كأنهم شيء خبيث أو غير نظيف. رغم إقامته وعمله مساعدا في شركة أخشاب مما يجعله على تواصل دائم مع البورميين، فهو لم يألف رؤية وجه أسود قط. وكانت أي إشارة لمشاعر ود ناحية شخص شرقي تبدو له انحرافا فظيعا. كان رجلا ذكيا، وموظفا كفئا في شركته، لكنه كان واحدا من أولئك الرجال الإنجليز - السواد الأعظم للأسف - الذين يجب ألا يسمح لهم بأن تطأ قدمهم الشرق.
جلس فلوري يهدهد رأس فلو في حجره، غير قادر على ملاقاة عيني إليس. وحتى في أفضل الظروف كانت وحمته تجعل من العسير عليه أن ينظر في وجه الناس مباشرة. وحين صار متأهبا للكلام، أحس بصوته مرتعشا - فقد كان من دأبه الارتعاش حين يتحتم عليه الحزم - وكذلك كانت ملامحه تختلج أحيانا دون سيطرة له عليها.
وأخيرا قال بعبوس وشيء من الوهن: «فلتهدأ، فلتهدأ. لا داعي لكل هذا الانفعال، فإنني لم أقترح قط ضم أي أعضاء من السكان المحليين هنا.» «ألم تفعل؟ لكننا جميعا نعرف جيدا جدا أنك تود ذلك. وإلا لماذا تذهب إذن إلى منزل ذلك الرجل اللزج الحقير كل صباح؟ وتجلس معه إلى المائدة كما لو كان رجلا أبيض، وترشف من الأكواب التي سال عليها اللعاب من شفتيه السوداوين القذرتين؛ شيء يثير في الرغبة في القيء.»
قال ويستفيلد: «اجلس يا عزيزي. انس الأمر واحتس شرابا. فهذا الأمر لا يستحق العراك. الحر شديد.»
قال إليس بهدوء أكثر قليلا، وهو يذرع المكان ذهابا وإيابا مرة أو مرتين: «يا إلهي، يا إلهي، لا أستطيع فهمكم يا رفاق، لا أستطيع حقا. ها هو ماكجريجور الأحمق العجوز يريد إحضار زنجي إلى النادي بلا سبب على الإطلاق، وكلكم تقبلون الأمر بلا كلمة. رباه، ما المفترض منا فعله في هذا البلد؟ إن لم نكن سنسيطر، فلم لا نرحل بحق الشيطان؟ المفترض أننا هنا من أجل حكم مجموعة من الخنازير السوداء الملعونة ظلوا عبيدا منذ بدء التاريخ، لكن بدلا من بسط سيطرتنا عليهم بالطريقة الوحيدة التي يفهمونها، نعاملهم على أنهم أكفاء لنا. وأنتم أيها الحمقى تسلمون بذلك. فها هو فلوري جعل أقرب أصدقائه رجلا أسود يدعو نفسه طبيبا لأنه أمضى عامين فيما يسمى جامعة هندية. وأنت يا ويستفيلد، شديد الزهو بشرطييك الجبناء متقاضي الرشوة معوجي السيقان. وها هو ماكسويل، يقضي وقته في ملاحقة البغايا الآسيويات من أصل أوروبي. نعم، يا ماكسويل؛ لقد سمعت عن علاقتك في ماندالاي مع عاهرة صغيرة كريهة الرائحة تدعى مولي بيريرا. أعتقد أنك كنت ستقدم على الزواج منها لو لم ينقلوك إلى هنا؟ يبدو أنكم جميعا تحبون الأوغاد السود القذرين. رباه، لا أعلم ماذا أصابنا جميعا. لا أعلم حقا.»
قال ويستفيلد: «على رسلك، لتأخذ شرابا آخر. يا أيها الساقي! القليل من الجعة قبل أن ينفد الثلج، هه؟ الجعة، أيها الساقي!»
أحضر الخادم بعض زجاجات من جعة ميونيخ. وبعد قليل جلس إليس إلى المائدة مع الآخرين، وأخذ بين يديه الصغيرتين إحدى الزجاجات الباردة. كانت جبهته تتصبب عرقا، وهو عابس لكن لم يعد غاضبا. كان مشاكسا وجامحا طوال الوقت، لكن سريعا ما كانت تنتهي نوبات غضبه العارم، دون الاعتذار عنها قط. كانت المشاجرات جزءا معتادا من روتين الحياة في النادي. تحسن حال السيد لاكرستين وراح يتفحص الصور في مجلة «لا في باريزيان.» جاوزت الساعة التاسعة، وقد صارت الحجرة التي عبقت برائحة الدخان الحاد لسيجار ويستفيلد، خانقة من شدة الحر، والتصقت القمصان بظهور أصحابها بأول قطرات عرق سالت في اليوم. أما الغلام الخفي عن الأنظار الذي كان يشد حبل مروحة السقف فقد غالبه النوم في وهج الشمس.
Page inconnue