قال متحمسا: «يا له من عمل رائع يا سيدي! انظر كيف يصعدون جانب التل هاربين! لقد دحرناهم على أكمل وجه.»
نهج الطبيب وهو يقول ساخطا: «دحرناهم!» «مهلا عزيزي الدكتور! لم ألحظ أنك كنت هنا. أمن المعقول أنك كنت موجودا أثناء الشجار أيضا؟ أنت تخاطر بحياتك الغالية جدا! من كان يصدق شيئا كهذا؟»
قال فلوري بغضب: «أنت نفسك جئت متأخرا!» «حسنا، حسنا يا سيدي، يكفي أننا فرقناهم، وإن كانوا ...» أردف بقليل من التشفي؛ إذ كان قد لاحظ نبرة فلوري «متجهين صوب منازل الأوروبيين، كما ستلاحظ. أعتقد أنه قد يخطر لهم أن يقوموا بالقليل من أعمال النهب في طريقهم.»
إن الرجل لوقح وقاحة جديرة بالإعجاب. دس يو بو كين هراوته الكبيرة أسفل ذراعه وسار بجانب فلوري بأسلوب شبه متعال، بينما تخلف عنهما الطبيب، وقد تملكه الحرج على رغمه. توقف الرجال الثلاثة عند بوابة النادي. كان الظلام آنذاك حالكا فوق العادة، والقمر مختفيا. على ارتفاع منخفض انسابت غيوم سوداء، بالكاد مرئية، في اتجاه الشرق مثل قطيع من كلاب الصيد. وهبت ريح، تكاد تكون باردة، على جانب التل وكسحت سحابة من الغبار وبخار الماء الخفيف أمامها. وفجأة فاحت رائحة رطوبة قوية للغاية. تسارعت الريح، واهتزت الأشجار، ثم بدأ بعضها يصطدم ببعض بشدة، وأطلقت شجرة الياسمين الهندي سحابة من البراعم بالكاد مرئية. استدار الرجال الثلاثة وهرعوا بحثا عن ملجأ، فذهب الشرقيان إلى منزليهما، وذهب فلوري إلى النادي. إذ كانت السماء قد بدأت تمطر.
الفصل الثالث والعشرون
في اليوم التالي كانت البلدة أهدأ من مدن الكاتدرائيات في صباح يوم الإثنين. دائما ما يكون الحال كذلك بعد اندلاع شغب. باستثناء بضعة مساجين، كان كل شخص مشكوك في ضلوعه في الهجوم على النادي لديه حجة غياب قوية. بدت حديقة النادي كأنما اندفع فيها قطيع من ثيران البيسون، لكن البيوت لم تنهب، ولم يكن ثمة إصابات جديدة بين الأوروبيين، باستثناء أنه قد عثر على السيد لاكرستين بعد انتهاء كل شيء في حالة سكر شديد أسفل طاولة البلياردو؛ حيث أوى مع زجاجة ويسكي. جاء ويستفيلد وفيرال في الصباح الباكر، معهما قاتلا ماكسويل قيد الاعتقال؛ أو بالأحرى معهما شخصان سيعدمان سريعا على جريمة قتل ماكسويل. حين سمع ويستفيلد بخبر الشغب، أصابه غم لكنه سلم بالأمر؛ فقد تكرر الأمر، وقع شغب حقيقي، ولم يكن موجودا ليقمعه! بدا أنه قدره ألا يقتل أحدا أبدا. شيء محبط للغاية. كان تعليق فيرال الوحيد على الأمر أنها كانت «وقاحة شديدة» من جانب فلوري (وهو مدني) أن يعطي أوامر للشرطة العسكرية.
في الوقت ذاته، كانت الأمطار تنهمر بلا توقف. بمجرد أن استيقظ فلوري وسمع دبدبة المطر على السطح ارتدى ملابسه وهرع إلى الخارج، تتبعه فلو. وبعيدا عن مرأى المنازل خلع ملابسه وترك المطر ينضح جسده العاري. فوجئ حين وجد جسده مغطى بالكدمات من الليلة الفائتة؛ بيد أن المطر أزال في بحر ثلاث دقائق كل أثر لطفحه الجلدي. إن لماء الأمطار قوى علاجية رائعة. سار فلوري إلى منزل الدكتور فيراسوامي، يأتي من حذائه صوت طرطشة وتسيل على عنقه من آن لآخر دفقات ماء من حافة قبعته العريضة. كانت السماء رمادية، وراحت عواصف دوارة لا حصر لها تطارد كل منها الأخرى في أنحاء الميدان مثل كتائب الخيالة. مر به بورميون يرتدون قبعات خشبية ضخمة لكن رغم ذلك فقد تدفق الماء من أجسادهم مثل تماثيل الآلهة البرونزية القائمة في فساقي . وكانت هناك شبكة من الجداول التي راحت تجلي أحجار الطريق. كان الطبيب قد عاد إلى المنزل لتوه حين وصل فلوري، وأخذ ينفض مظلته المبتلة من على سور الشرفة. وقد حيا فلوري متحمسا وقال: «اصعد يا سيد فلوري، اصعد في الحال! لقد جئت في الوقت المناسب. كنت على وشك أن أفتح زجاجة أولد تومي جين. اصعد حتى نشرب نخبك، بصفتك منقذ كياوكتادا!»
استغرقا في حديث طويل معا. كان الطبيب يداخله شعور المنتصر؛ فقد اتضح أن ما قد جرى الليلة السابقة قد حل مشكلاته بشبه معجزة. إذ أحبطت مؤامرات يو بو كين؛ ولم يعد الطبيب تحت رحمته، بل صار العكس. أخذ الطبيب يشرح لفلوري قائلا: «الأمر وما فيه يا صديقي أن هذا الشغب - أو بالأحرى تصرفك النبيل للغاية فيه - كان خارج تخطيط يو بو كين. كان قد أثار التمرد المزعوم وفاز بمجد الإطاحة به، وظن أن أي تمرد آخر سيضيف له المزيد من المجد. لقد بلغني أن فرحته حين سمع بمقتل ماكسويل، كانت حقا ...» - ضم الطبيب سبابته وإبهامه معا - «ما الكلمة التي في بالي؟» «فاضحة؟» «نعم؛ فاضحة. يقال إنه كاد يرقص فعلا - هل تتخيل منظرا مقززا كهذا؟ - وهتف: «أقل ما هنالك أنهم الآن سيأخذون التمرد الذي دبرته على محمل الجد!» ذلك هو اعتباره لحياة البشر. أما الآن فقد انتهى انتصاره. لقد تعثر التمرد في منتصف الطريق.» «كيف؟» «لأن الفضل في فض الشغب يرجع إليك وليس إليه، ألا ترى ذلك! ومن المعروف أنني صديقك؛ ومن ثم فإنني أستظل بظل مجدك، إذا جاز التعبير. ألست أنت بطل الساعة؟ ألم يستقبلك أصدقاؤك الأوروبيون بالترحاب حين عدت إلى النادي ليلة أمس؟» «الحق أنهم فعلوا، وقد كان الأمر جديدا تماما لي. حتى السيدة لاكرستين ظلت تحتضنني، وصارت تناديني: «عزيزي السيد فلوري.» وقد صبت جام غضبها على إليس؛ إذ لم تنس أنه نعتها بالشمطاء الكريهة، وطلب منها التوقف عن القبع مثل الخنزير.» «أحيانا ما يكون السيد إليس بالغ الحسم في تعبيراته. لقد لاحظت ذلك.» «العيب الوحيد في الأمر أنني طلبت من الشرطة إطلاق النار فوق رءوس الحشود بدلا من التصويب عليها مباشرة. ويبدو أن ذلك مخالف لكل لوائح الحكومة. وقد اغتاظ إليس قليلا من ذلك، وقال: «لماذا لم تصب بعضا من أولئك الأوغاد حين كان لديك فرصة؟» فأشرت إلى أن هذا كان سيؤدي إلى إصابة الشرطة الذين كانوا في خضم الجمهرة؛ لكن كما قال، ما هم سوى زنوج على أي حال. بيد أنهم غفروا لي كل خطاياي، وأدلى السيد ماكجريجور بشيء باللاتينية، مقتبسا من هوراس، على ما أعتقد.»
بعد ذلك بنصف ساعة سار فلوري وحيدا إلى النادي؛ إذ كان قد وعد بمقابلة السيد ماكجريجور وحسم مسألة انتخاب الطبيب. لكن لن يكون في الأمر صعوبة الآن. فسوف يطاوعه الآخرون حتى ينسى أمر الشغب الغبي؛ وبإمكانه الذهاب وإلقاء خطبة في مدح لينين، وسوف يتقبلونها. انهمرت عليه الأمطار الجميلة، فبللته من رأسه إلى أخمص قدميه، وملأت أنفه برائحة الأرض، التي طواها النسيان خلال شهور الجفاف المريرة. قطع فلوري الحديقة المدمرة؛ حيث انحنى البستاني وتناثر على ظهره العاري ماء المطر، وجعل يحفر حفرا من أجل زهور الزينيا. كانت كل الزهور تقريبا قد دهست حتى الموت. كانت إليزابيث هناك، في الشرفة الجانبية، كأنها كانت تنتظره. خلع هو قبعته، فانسكبت كمية من الماء من حافتها، وانعطف للانضمام إليها.
حياها رافعا صوته بسبب المطر الذي كان يحدث ضجيجا عند سقوطه على السطح المنخفض، وقال: «صباح الخير!» «صباح الخير! أليست الأمطار غزيرة؟ إنها تنهمر بشدة!» «هذه ليست أمطارا حقيقية. انتظري حتى يوليو. سيفيض خليج البنغال كله علينا، على دفعات.»
Page inconnue