سرت في الشارع الرئيسي في هذا الحي الفرنسي - وهو شارع رويال - فرأيت على جانبيه الدكاكين السياحية؛ فليس ما يباع هنا سوى التحف والتماثيل والصور وقطع الأثاث القديم وهكذا، حتى المكتبات في هذا الشارع مهتمة بالكتب القديمة.
ومدينة نيوأورلينز بصفة عامة تفوح برائحة المواني الكبرى؛ فهي ليست نظيفة، وتشم فيها رائحة البحر المنعشة، يخترقها نهر مسسبي عند مصبه في خليج المكسيك، ومع ذلك فهي بعيدة عن الخليج نفسه بما يساوي ساعة ونصف ساعة بالسيارة؛ ونهر المسسبي عريض جدا عند مصبه، ويشبه أن يكون جزءا من البحر؛ والميناء مليئة بالبواخر الكبيرة، وقد علمت أنها الميناء الثانية في أمريكا كلها، تفوقها ميناء نيويورك وحدها، ووقوعها عند مصب المسسبي هو الذي أضفى عليها أهميتها؛ لأن المسسبي طريق رئيسي يصل البحر بداخل القارة إلى مسافة بعيدة.
بعد أن جلت وحدي جولة واسعة في أنحاء نيوأورلينز استنفدت ساعات الصباح كلها حتى وقت الغداء، تغديت ثم اتصلت فورا بالتلفون بالسيد «ف» الذي أعطاني عنوانه الدكتور «ب» وزوجته في كولمبيا، وأوصياني أن أتصل به؛ لأنه خير من يطلعني على خفايا نيوأورلينز وروحها المتميز، كما أنهما أرسلا خطابا إلى صديقهما هذا ينبئانه بموعد قدومي.
دعاني إلى منزله، ومنزله في الحي الفرنسي، فذهبت ... ضغطت على جرس الباب الخارجي - وعلى الباب صف طويل من الأجراس كتب أمام كل منها اسم ساكن من السكان - فجاءني رد الجرس صوتا يشبه صوت التلفون، فرجحت أن تكون هذه علامة تدلني على أن الباب الخارجي قد انفتح، فدفعت الباب ودخلت إلى حديقته الضيقة المرصوفة بالبلاط الكبير القديم، وسرعان ما خرج السيد «ف» يستقبلني، وسرعان ما عرفت أنه هو مالك البيت، وأنه قد قسمه شقات للإيجار، وسكن هو في الطابق الأرضي من البناء.
كانت المنازل في الحي الفرنسي قد آلت إلى ما يشبه الخراب؛ فصدر أمر من حكومة الولاية - ولاية لويزيانا - منذ عشرين عاما يحرم هدم المنازل الفرنسية الطراز؛ احتفاظا بهذا الطابع التاريخي للمدينة، الذي يجعل منها مدينة تختلف عن سائر المدن، فتجعلها بالتالي مقصدا للزائرين ... ومنذ صدر ذلك القانون، أخذ الحي الفرنسي في الانتقال من طور إلى طور؛ إذ تنبأ له ذوو البصيرة النافذة أنه سرعان ما يكون المكان الممتاز من أحياء المدينة كلها، وأقبل أصحاب الأموال يشترون بيوته ويجددونها بحيث يحتفظون لها بطرازها الفرنسي في كل شيء، وهو الآن حي الطبقة الممتازة بمالها أو بثقافتها.
ومضيفي السيد «ف» من هؤلاء الذين استغلوا أموالهم في تجديد منازل الحي الفرنسي؛ وإذا فالبناء فرنسي الطابع، أحاطه بحديقة صغيرة، نباتها كله أخضر، فليس فيها زهرة واحدة ذات لون آخر، واحتفظ على أرض الحديقة بالبلاط القديم، وبنى سور البيت من الطوب الأحمر الذي كان في البناء قبل تجديده، وأبقى في الأبواب والحواجز الحديدية نفس الأجزاء الحديدية التي كانت في البناء منذ العهد الفرنسي (كانت نيوأورلينز مدينة إسبانية قبل أن تكون فرنسية، ثم انتقلت من فرنسا إلى الولايات المتحدة عن طريق الشراء سنة 1803م)، وأنبأني السيد «ف» أنه جعل نبات حديقته أخضر كله؛ لأن الشمس لا تطل على الفناء المزروع إلا فترة قصيرة بحيث لا يمكن إنبات الزهور؛ وقد وضع هناك مجموعتين من مقاعد حول منضدتين، وطلاها جميعا باللون الأبيض، فجاء هذا البياض إلى جانب اخضرار النبات بالأثر المطلوب، وأصبح المنظر غاية في الروعة.
وبعد ذلك أدخلني شقته في الطابق الأرضي، فإذا هي غرفة واحدة ألحق في أحد أركانها دورة للمياه، وفي ركن آخر مطبخا لا يسع أكثر من شخص واحد واقف على قدميه؛ وفي الغرفة بعد ذلك كل ما يتطلبه الإنسان من سرير ومكتب ومنضدة وصوان ومكتبة.
وبعد قليل خرجنا معا لنطوف بالحي الفرنسي ... إن السيد «ف» هذا يعرف تاريخ كل عمود وكل نافذة وكل باب في الحي الفرنسي؛ فقد وقف بي عند عدة منازل مجددة ليشرح لي كيف كانت وكيف أصبحت، والقاعدة العامة في هذه المباني ألا ترى من خارج البيت إلا واجهة ذات شرفة، فإذا دخلت وجدت في الداخل فناء به حديقة جميلة؛ واللون الأخضر الغامق هو الغالب على جميع الحدائق المنزلية.
السيد «ف» من أهل الجنوب، أصله من ولاية ألاباما - التي تقع بين ولايتي جورجيا ولويزيانا - ولذلك تراه يتحمس للجنوب كأهل الجنوب جميعا ... قال لي في موضوع الكراهية الدفينة بين أهل الجنوب وأهل الشمال: إن سببها هو أن الشمال حين انتصر في الحرب الأهلية مع الجنوب اتخذ إزاء الجنوب موقف الظافر المنتصر، وضم الجنوب إليه كما يضم البلد الذي غزاه غزاة من الخارج، لا كما يضم جزء من البلاد إلى سائر الأجزاء، مع أن الجنوب كان أغنى من الشمال، وهو الآن ناهض نهضة سريعة، وله أمل كبير أنه سيستعيد تفوقه على الشمال.
مررنا ببناء كبير - هو الآن مدرسة - فقص علي السيد «ف» عن هذا البناء قصة لطيفة؛ فقد كان ديرا، وحدث أن كان الفرنسيون وهم ينشئون مستعمرتهم هنا أكثر رجالا من نسائهم؛ فأرسلوا إلى حكومتهم في فرنسا يطلبون النساء ليتزوج منهم رجال المستعمرة؛ حتى لا يندثر الفرنسيون هنا، فأرسلت الحكومة الفرنسية عددا من البنات استطاعت جمعهن وإغراءهن بالسفر، وأمدت كل واحدة منهن بثياب العرس، وأرسلتهن إلى نيوأورلينز، فلما جئن هنا نزلن في هذا الدير تحت حراسة الراهبات حتى يتم لقاؤهن مع الرجال، ويتم اختيار الأزواج للزوجات ... سمعت ذلك من السيد «ف» فقلت له: ما أجدر هذا بأديب يتناوله لينشئ على أساسه قصة جيدة!
Page inconnue