وفي المساء ذهبت إلى دار الأوبرا حيث شاهدت رواية «فلادرماوس» - ومعناها الوطواط - ولقد بلغت قاعة الدار حد الكمال من الروعة والفخامة؛ فقد كسيت الأرض كلها بالقطيفة الحمراء الجميلة ... وظهرت في الفصل الأوسط من فصول الأوبرا راقصة عجيبة هي «ماركوفا» التي قيل لي عنها إنها أبرع راقصات العالم ... وإن براعة رقصها لم تكن تحتاج مني إلى شدة فهم في الفنون، فتستطيع كل عين أن ترى خفة هذه الراقصة العجيبة في رقصها، كأنها ريشة في مهب النسيم؛ إنها حقيقة جسم بغير ثقل ولا كثافة، إنها هواء طائر ... سبحانك ربي! ما هذا؟ أليس هناك قانون للجاذبية يتحكم في جسم هذه الراقصة كما يتحكم في سائر الأجسام؟!
وخرجت من دار الأوبرا قبيل منتصف الليل، وعدت في طريقي إلى الفندق، مصمما أن أتلكأ حتى ينتصف الليل وأنا في «برودواي» لأرى ماذا يحدث أول قدوم العام الجديد ... ولم ألبث أن رأيت نفسي في كتلة بشرية مصمتة لا أتحرك فيها بإرادتي، إنما هي التي تدفعني هنا أو هناك ... وبعد أن كافحت كفاحا مرا لأخرج من الزحام الذي خيل إلي أنه يمتد إلى ما لا نهاية، وصلت إلى حاشية الزحام ... تسعة وتسعون من كل مائة في هذه الزحمة رجال، وكانوا كلما رأوا في الجموع الحاشدة امرأة تزاحموا عليها ليظفروا منها بقبلة العام الجديد، على أن أهم ظاهرة رأيتها، بل الظاهرة التي لا ظاهرة سواها، هي الزمارات؛ فكل رجل في فمه زمارة يزمر بها، حتى أنتج ذلك الأمر خليطا صوتيا عاليا مزعجا، وكان بائعو الزمارات على أرصفة الشوارع يبيعون للناس في سيل لا ينقطع ... لكي أعطي صورة رقمية دقيقة، أقول إني لم أر في هذه الألوان المتزاحمة من قبل امرأة إلا ثلاثة؛ وانتصف الليل فلم تطفأ الأنوار كما توقعت، ولم يحدث التقبيل على النطاق الواسع الذي يحدث في لندن عند كنيسة القديس بولس إذا ما دقت ساعة الكنيسة الثانية عشرة ليدخل الناس في سنة جديدة.
إن من يأتي إلى أمريكا ثم يعود حاملا معه رأيا غير أن الأمريكيين من أشد الناس تحفظا في أخلاقهم وتزمتا في العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو كذاب يصر على أن يقول ما لم تر عيناه، جاء إلى أمريكا وملء رأسه إشاعة، وعاد دون أن يأذن لملاحظته الشخصية أن تصحح إشاعة خاطئة.
الفصل الرابع
عودة إلى الجنوب
الأحد 3 يناير
الشمس غاربة والجو رائع والسماء صافية؛ فأخذتني الآنسة «أ. ر» التي تعد عدتها للذهاب إلى مصر عاما دراسيا؛ حيث طفنا بسيارتها حول كولمبيا لنرى الطبيعة وهي في أروع حالاتها: غابة نشقها بالسيارة لنبلغ بحيرة ساعة الغروب، والغروب في كولمبيا جميل دائما؛ فهو قرمزي اللون على نحو نادر؛ ثم مررنا على بستان للزهور - هو الآن خال من زهوره لبرد الشتاء - ونزلنا ودخلنا البستان وصاحت الآنسة منادية، فخرج من بيت صغير هناك رجل كهل لكنه متورد الوجه، وصحته جيدة ونشاطه موفور، وهو مالك البستان يشرف فيه على إنبات زهور الكاميليا، وضع على كل شجرة ورقة كتب عليها ما يدله على حقيقة تلك الشجرة وتاريخها وما إلى ذلك ... الطريقة التي أبدت بها الآنسة «أ. ر» اهتمامها بالزهور، والتي يبدي بها الناس اهتمامهم بها تثير العجب حقا؛ فاهتمامهم خاص لا عام؛ أي أن الأمر ليس عندهم أمر «زهور» بصفة عامة - وهذه هي أعلى درجة يبلغها مصري يدعي أنه محب للطبيعة - بل اهتمامهم بزهرة معينة في ظروف معينة بالكاميليا مثلا أو بالأزاليا، كيف تكون في الشتاء، وكيف يحول البرد أحمرها إلى لون قرمزي وهكذا وهكذا، حتى ليكادوا يعطون كل زهرة اسما بمفردها، على نحو ما نطلق على كل طفل اسما خاصا إمعانا في التخصيص والتفرد؛ والحق أنه لا اهتمام بغير هذا التخصيص في العاطفة التي تربط بين الشخص وبين من يهتم به أو ما يهتم به، لا عجب أن ترى هنا في كولمبيا وحدها نحو مائة ناد للزهور، كل ناد يتخصص في شيء يحبه أعضاؤه ... والذي يهتم بزهرة معينة كالكاميليا مثلا، يغلب أن يكون على اتصال بمن يهتمون مثل اهتمامه حتى لو كانوا على بعد أميال منه، وتراه يعرف الفروق الدقيقة بين هذه الزهرة في حديقته وبينها في حديقة فلان في البلد الفلاني ... فلقد قلت لهذا الرجل الذي استقبلنا في بستانه وطاف بنا بين أشجاره: إنني رأيت زهورا رائعة كبيرة الحجم من زهور الكاميليا في بستان رجل اسمه القاضي «ه» في مدينة أوجستا، فوجدته يعرفه ويعرف بستانه، وراح يذكر أدق الفروق بين الكاميليا عنده وبينها عند القاضي «ه».
الإثنين 4 يناير
لبيت في المساء دعوة الدكتور «ب» الطبيب، وكنت واحدا من كثيرين مدعوين، لكني كنت موضع اهتمام خاص لمصريتي ... قالت لي زوجة الطبيب متفكهة إنني المصري الثاني الذي صادفته في حياتها، أما الأولى فكليوباتره! ... سئلت في هذا الجمع أسئلة عن مصر دالة على جهل السائلين بها جهلا غير مألوف: فهل مصر تقع في المنطقة الأفريقية التي بها ذباب تسي تسي؟ ...
جلست معي الآنسة «م» ابنة الطبيب، وهي في نحو الأربعين من عمرها، وتعمل في وظيفة حكومية في بولتيمور، كانت مثلا قويا واضحا لضرورة اتساق أجزاء الثياب والزينة مع الشخصية؛ فقد كانت تلبس قرطا كبيرا يملأ نصف صدغها، وبه أجزاء تتدلى منه لتشنشن مع حركة الوجه شنشنة توحي بأنوثة لابسته؛ لكن الآنسة «م» مسترجلة الوجه ناشفة النظرات، عريضة الصوت حادة اللفتات؛ وإذا فقد كان هذا القرط في أذنها صارخا يقول بأعلى صوت: ليس هذا مكاني. وكذلك كانت تلبس فستانا للسهرة لم يصنع إلا لسيدة فيها رخاوة الأنوثة ورقتها؛ فهو نشاز على رجل أو من تشبه الرجل، وكان خيرا لهذه الآنسة المسترجلة أن تلبس ثوبا بسيطا وتتحلى بحلي صغير الأجزاء بسيط كذلك.
Page inconnue