دخلنا في قلب المطار الحربي حيث يسكنان؛ فهناك مجموعات من المنازل لرجال المطار، والكابتن «ش» وزوجته يسكنان منزلا ذا غرفتين هما غاية في الأناقة والبساطة وحسن الذوق، ويسكن بجوارهما شاب وزوجته وطفلتهما، الشاب هو الآخر كابتن في الطيران، غير أن اختصاصه هناك هو التنبؤات الجوية، ولم نكد نصل حتى جاء هذان الزوجان؛ فهما كذلك مدعوان معي على الغداء في منزل «س».
تركنا الزوجتين تعدان الطعام، وذهب ثلاثتنا للطواف بالمطار، وكان أول مكان زرناه هناك هو المكان الذي يعمل فيه الكابتن «ك» في التنبؤات الجوية: صفوف من الآلات شبيهة كلها بالآلات الكاتبة، تدق كما تدق الآلات الكاتبة، تدق وحدها بطريقة آلية، وتنظر في المكتوب فتجد أن الآلات ترصد حالة الجو في أنحاء الولايات المتحدة كلها في تلك اللحظة؛ فالحرارة الآن في نيويورك كذا، وفي ميشجان كذا ... إلخ، وكل آلة مختصة بشيء ترصده: هذه للحرارة وتلك للضغط الجوي وثالثة لاتجاه الريح، ومن هذه الورقات التي تخرجها الآلات ترسم الخرائط فورا، لتعرض على نحو يمكنك في نصف دقيقة أن تنبئ عن الجو في أي مكان من الولايات المتحدة كلها.
وأخذنا للكابتن «ك» بعد ذلك إلى حيث صفوف الطائرات رابضة، وأطلعني على الطائرات النفاثة والطائرات ذوات المحركات العادية، وطلبت منه أن يفرق لي تفرقة مختصرة واضحة بين النوعين من الطائرات ففعل، وعرفت منه في وضوح أن الطائرة النفاثة تخلخل الهواء وراءها، وهذه الخلخلة من تلقاء نفسها تدفع الطائرة إلى أمام.
عدنا إلى المنزل وجلسنا إلى مائدة الغداء، وقبل أن نبدأ الطعام شبكنا أيدينا وطأطأنا رءوسنا ريثما يدعو الكابتن «ش» دعاءه الديني، فقال عبارة خيل إلي أنه أعدها وحفظها لمناسبة وجودي: «أشكرك يا رب على ما أمامنا من طعام، وأدعوك يا رب أن تعطي من ليس عنده مثل ما عندنا من طعام وثياب ومأوى، أشكرك يا رب على أن جعلت لنا هذه البلاد وطنا، فنتمتع بما فيه من حرية رأي وديمقراطية، وأدعوك يا رب أن تهب البلاد التي لا تتمتع بمثل هذه الحرية مثل ما وهبتنا ...»
دار حديثنا بعد الغداء في السياسة، وكانت البداية أن سألتني السيدة «ش» إن كان المنتظر أن يعدم مصدق في إيران؟ قلت: لا أدري، لكنهم لو أعدموه فإني أحزن عليه؛ فقالت: وكذلك أنا، فإني أحزن عليه أشد الحزن؛ قال الكابتن «ك»: إن أكبر عيب في مصدق هو رأيه في أن تستقل إيران عن العالم، وليس هناك دولة في الدنيا تستطيع لنفسها هذا الاستقلال؛ فقلت: على شرط أن تختار كل دولة طريقة اتصالها بالدول الأخرى. وسرعان ما جذب الحديث قناة السويس، وطبعا أخذتني الحماسة واشتد بي الانفعال وأنا أتحدث عن مصر وإنجلترا، وما كان لي أن أفعل؛ لأننا في جلسة عائلية ضيقة لا يجوز فيها مثل هذا الانفعال.
غربت الشمس، واستعد كابتن «ش» وزوجته لإعادتي بالسيارة إلى كولمبيا، وقد سمعتهما يبديان رغبة أن يذهبا هناك إلى سينما، فدعوتهما لمشاهدة فلم مارتن لوثر الذي بدأ عرضه في المدينة منذ قريب ... لا زلت أعجب لشدة تعلق الناس هنا بعقيدتهم الدينية، فما كان أشد ارتياح كابتن «ش» وزوجته بالفيلم الذي رأيناه عن مارتن لوثر والبروتستانتية ، مذهبهما في الدين، فليس ارتياحهما ناشئا عن مشاهدة فيلم جميل أو قصة جيدة، بل ناشئ عن شعورهما الديني رغبة في انتصار المذهب الذي يدينان به ... ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن الكنيسة البروتستانتية تنشط في توزيع تذاكر مخفضة القيمة؛ ليشهد هذا الفيلم أكبر عدد ممكن، وقد جاءتني ثلاث تذاكر منها هي التي استخدمتها في دخولنا الليلة.
أخذت الكابتن «ش» وزوجته إلى مطعم ليشربا معي القهوة بعد خروجنا من السينما، وهو المطعم الذي اعتدت ارتياده، فلما قدمت لنا المناولة أقداح القهوة، سقطت قطرات منها في أحد الأطباق، وعرضت أن يكون هذا طبقي إكراما لضيفي، لكن المناولة أصرت أن تجيئني بفنجان آخر، قائلة: أنت ضيفنا جميعا، وضيوفك ضيوفنا، فليس الأمر مقصورا على أنه مطعم وزبائنه، بل هو أكثر من ذلك، هو علاقات إنسانية قبل كل شيء ... شكرتها، ولما انصرفت استأنفنا ما كنا فيه من حديث، وهو بعض مذكراتي التي أكتبها عن أمريكا، فسألني الكابتن «ش» ماذا أجد في يوم كهذا لأكتبه؟ فقلت له: كل ما رأيته عندك من ضيافة جدير بالتسجيل، ثم ألم تسمع ما قالته هذه المناولة الآن؟ إنه جدير بالتسجيل بالخط العريض؛ لأن هذه هي أمريكا الحقيقية التي لا يقرؤها الناس في الصحف!
الجمعة 27 نوفمبر
في صحيفة اليوم قصة عجيبة: اختفى رجل منذ اثنين وعشرين عاما، وكانت سنه إذ ذاك ثمانية وعشرين، وكان متزوجا وله ثلاثة أولاد، وبعد اختفائه بقليل اختفت سكرتيرته التي كان عمرها إذ ذاك اثنين وعشرين عاما، ولم يعثر أحد لهما على أثر طوال هذه المدة، حتى لقد اعتبرهما القانون «ميتين بحكم القانون» فتزوجت زوجة الرجل المختفي من رجل آخر، وكان للفتاة المختفية إرث يبلغ مقداره مليونا من الدولارات فتحول إلى أقرب أقربائها وهو ابن عمها، وكان للرجل في شركة التأمين خمسون ألفا من الدولارات فأخذته زوجته وأولاده على اعتبار أنه قد «مات بحكم القانون» ... حتى كان أمس، أعلن الرجل المختفي «وزوجته» - بعد أن اختفيا وتخفيا اثنين وعشرين عاما - أعلنا حقيقة أمرهما، وهي أنهما تحابا ولم يستطع أحدهما أن يستغني عن الآخر؛ فاتفقا على الفرار والاختفاء؛ ليعيشا معا في مأمن من المجتمع والقانون، ولم يكن معهما إذ ذاك إلا الثياب التي تغطي جسديهما، فغامرا ولقيا أصعب الصعاب، حتى استقر بهما الحال وتزوجا باسمين منتحلين، وأنسلا ستة من الأبناء والبنات، وتزوجت كبرى بناتهما وأنسلت لهما حفيدا، وثاني أولادهما الآن في الخدمة العسكرية ...
بماذا نحكم عليهما؟ لا شك أن سلوكهما يخالف القانون والشرع المسيحي، لكن ألم يعيشا معا سعيدين اثنين وعشرين عاما؟ ألا تكون إباحة الطلاق من جهة وإباحة تعدد الزوجات من جهة أخرى أمرا قد تكون له ضرورته في ظروف استثنائية كهذه؟ فلو كان مباحا للرجل أن يتزوج من اثنتين لهانت الصعاب ولتزوج من حبيبته إلى جانب زوجته الأولى إذا أرادت هذه البقاء معه ... الحق أني لا أدري بماذا أحكم عليهما؛ لأنني أمقت الطلاق وألعن تعدد الزوجات، لكن الحياة وظروفها والقلوب ومشاعرها أوسع جدا من كل قانون وتشريع.
Page inconnue