في تاريخ هذه الولاية - ولاية كارولاينا الجنوبية - قائد مشهور اسمه ماريون، تراه مخلدا في التماثيل، ومذكورا في أسماء الشوارع، ويطلق اسمه على بحيرة كبيرة ... وقد مررنا على مزرعة كبيرة، فقال مستر «ه»: إنها مزرعة كانت لأسرة ماريون، ورثها الولد الأكبر حسب قانون الوراثة السائد عندنا؛ وكان القائد ماريون هو الولد الثاني في أسرته، فلم يرث شيئا، ولولا ذلك لما خرج للحرب واشتهر. ثم أخذ مستر «ه» يدافع عن ذلك النظام في الوراثة على أساس أنه من جهة يحافظ على ملك الأسرة فلا يتجزأ؛ ومن جهة ثانية يهيئ فرصة الظهور في الميادين الأخرى أمام الأبناء الآخرين؛ وكان موفقا في ضرب الأمثلة من أسرات كثيرة، ذاكرا أسماء رجال اشتهروا لأنهم كانوا الأبناء الثواني أو الثوالث، فخرجوا يسعون في الأرض عملا وإنتاجا وذيوع صوت ... لكن هذا النظام قد تغير الآن هنا، وأصبح الميراث قسمة متساوية بين جميع الأبناء.
الطريق كله - وقد قطعنا طريقا يقرب من المسافة بين القاهرة إلى الإسكندرية قاصدين إلى خزان على بحيرة اسمه خزان سانتي كوبر - الطريق كله خضرة وأشجار باسقة؛ ومررنا بحقول مزروعة قطنا وقصبا؛ فهذه ولاية تزرع قطنا وتنافس مصر في قطنها، لكن شتان بين قطن وقطن؛ فالنظرة السطحية تدلني - ولا أستطيع أن أنظر إلا هذه النظرة السطحية السريعة؛ لأنني قليل الخبرة بالزراعة - تدلني على أن قطنهم ظاهر الضعف بالنسبة إلى قطننا؛ فلست ترى حقل القطن وقد نضجت ثماره غزيرة المحصول غزارة القطن المصري، والأرض حمراء كأنها مغطاة بمسحوق الطوب الأحمر.
وصلنا بالسيارة إلى باب خشبي يعترض الطريق، مفتاحه مع مستر «ه»، وهو إذا ما انفتح دخل الداخل في غابة كثيفة الشجر؛ وطلب مستر «ه» من الآنسة «م» أن تفتح الباب وقد ناولها المفتاح؛ فهممت أنا أن أفعل ذلك لأوفر على الآنسة عناء النزول، فقال لي مستر «ه» ضاحكا مازحا: اسمع مني الرأي؛ فأنا أكبر منك وأخبر بالنساء، يخيل إلي أنك قليل الخبرة بهن؛ فها أنت ذا قد أحضرت معك صندوقا من الشكولاتة، وأخذت توزع على هاتين المرأتين من حلواك طول الطريق، ظانا أن الحلوى تكسب النساء، لكن كسب النساء له طريق واحد، وهو إذلالهن بالعمل، وأنا أحب تشغيل النساء بما أكلفهن من أعمال يؤدينها ... والتفت إلى «م» وقال في لهجة الجد المصطنع: «م» انزلي وافتحي الباب! ونزلت «م» وضحك الجميع.
دخلنا إلى طريق ضيق يشق الغابة الكثيفة، ووقفنا عند بيت في قلب الغابة كان على شرفته سيدة متقدمة في السن نوعا ما، اسمها «س»، وفتاة وفتى وطفل صغير؛ فتصور هذا الرجل المرح كيف دخل البيت صائحا مهللا، يمسك هذه ويقبل تلك ويرحب بهذا؛ جلسنا على الشرفة نضحك كلنا لكل لفظة يقولها «ه» ولكل حركة يتحركها ، وأتوا لنا بأكواب الشراب؛ وبينا نحن جلوس استعادوني النطق باسمي؛ فلفظة «محمود» صعبة جدا عليهم أن ينطقوها، فما هو إلا أن أخرج مستر «ه» من جيبه حزمة من قصاصات؛ واسمي مكتوب على كل قصاصة منها! وبعثرها بين الجالسين قائلا: هاكم! توقعت أن يسألني كثيرون أثناء الرحلة عن اسم الدكتور محمود، فطلبت من سكرتيرتي أن تدق اسمه على آلة الكتابة في عشرين أو ثلاثين صورة؛ فكلما سألني سائل عن اسمه أخرجت له واحدة من هذه القصاصات ... أضحكني هذا المنظر ... عرفت أن السيدة «س» هي صديقته، والفتاة هي ابنتها، والفتى هو زوج ابنتها، وهو فنان يشتغل في متحف كولمبيا مع الآنسة «م».
قال مستر «ه» هلموا بنا لعلنا ندرك ساعة من ضوء النهار نستحم فيها في البحيرة، والظاهر أنه خلق هذا العذر لنترك هذه الدار ونقصد إلى أكشاكه الخشبية على شاطئ البحيرة؛ حيث سنبيت الليل، لكن أصحاب الدار دعونا على العشاء، وطلبوا منا أن نذهب لنعود إليهم في الساعة السابعة.
ذهبنا إلى مكان منعزل على شاطئ البحيرة، فيه نحو ستة أكشاك خشبية، فيها كل ما يتصوره الإنسان من أسباب الراحة؛ لكن هذه الأشياء مهوشة الترتيب إلى درجة تضحك؛ فلو تعمد إنسان أن يضع الأثاث في خلط وهرجلة لما عرف كيف يبلغ هذه الدرجة منهما؛ لكنك تجد كل ما تريد: آلات التبريد وآلات التدفئة لا عدد لها، وأطباق وأوان وطعام إلخ ... إلخ؛ خصص كشكا للسيدتين، وآخر لي، وكان له هو كشك كبير أقرب إلى المنزل الصغير، فيه غرفة الطعام والمطبخ وشرفة للجلوس وغرفة للكتب. إن الزائر لا يملك سوى أن يضحك ضحكا متواصلا لما يراه في منزل مستر «ه» هناك؛ لأنه يجمع فيه أشياء عجيبة، يضعها على المناضد ويعلقها على الجدران؛ فلا بأس عنده مثلا من أن يضع قطعة من الحديد الصدئ، أو يعلق حذاء باليا على الجدار! ومن هذه الأشياء ترى، لا أقول مئات، بل ألوفا، كأنما منزله هذا دكان يبيع منوعات قديمة! وهو يضحك معك على نفسه، ويقول: إنه يجمع معظم هذه الأشياء من أكوام القمامة.
جاء وقت العشاء فذهبنا إلى منزل الأسرة الداعية، والمنزل من الداخل آية من آيات الفن وحسن الذوق في بساطة: هدوء وعزلة في قلب الغابة، كأنما أنت في محراب راهب عابد، والأضواء في غرفة الجلوس وغرفة الطعام خافتة توحي بالاسترسال في حلم جميل، وعلى مائدة الطعام وضعوا الشموع، وبدأنا طعامنا بالصلاة - كما هي العادة التي لم تشذ مرة واحدة على أية مائدة شهدتها - وكان معظم الحديث معي أولا عن الفلسفة واتجاهاتها، ثم عن الفن المصري القديم، يسألونني عنه في خبرة وفي دقة؛ لأن بيننا اثنين من دارسي الفن، وحسبوني ملما بدقائق الفن المصري ما دمت مصريا، وعلى كل حال فقد وفقني الله في إجابة معظم ما وجهوه إلي من أسئلة في هذا الباب.
عدنا بعد العشاء إلى أكشاكنا على شاطئ البحيرة، مارين بأقرب مدينة لنشتري طعاما للغد، مستر «ه» معروف للناس جميعا، يقابلونه بالترحاب والتكريم، قال لي صاحب الدكان الذي وقفنا فيه نشتري حاجاتنا: إن مستر «ه» هذا رجل عجيب، يحب صرف ماله على الناس، لا تراه في أي مكان أو في أي بلد إلا ومعه جماعة من ضيوف؛ إنه ثري كثير الكسب لكنه كثيرا ما يقول - وهو ينفذ ما يقوله: إن المال إنما كسب ليصرف. ولما تركنا الدكان قال لي مستر «ه»: هل رأيت هذا التاجر؟ إنه قاتل! قتل على الأقل خمسة أشخاص، ومع ذلك لم تثبت عليه جريمة، كان فقيرا معدما، وكسب من جرائمه مبلغا لا يقل عن نصف مليون دولار، وبدأ تجارته هذه واطرد نجاحه وأصبح ذا اسم في المجتمع ... ثم سكت مستر «ه» قليلا وقال: أليس هذا من سخرية القدر ومضحكاته ومحزناته معا؟
جلسنا العشية في شرفة مستر «ه»؛ الظلام ضارب من حولنا فلا نعرف البحيرة القريبة منا إلا من أصوات موجها، واستأنفنا الحديث الذي بدأناه في منزل السيدة «س» عن الفن، إلا أنه الآن حديث عن الفن المعاصر، وكان «ه» والسيدة «ب» يعارضان - في تهكم - ألوان الفن المعاصر، وانطلقت مدافعا في حرارة كأنما أنا واحد من هؤلاء الفنانين المعاصرين، وظلت الآنسة «م» صامتة لا تنطق إلا بالقليل حينا بعد حين ... لم أكن أدري أن حديثي في الفن قد غزا قلب «م» غزوا، وأصبحت تنظر إلي نظرة الإعجاب الشديد، وتتلمس من شفتي كل كلمة أقولها، وما أكثر ما يكون الحب عند هؤلاء الناس قائما على مثل هذا الإعجاب!
إنني كلما ازددت معرفة بمستر «ه» عرفت أنه عالم بأسره، عالم غريب، قال لي: كان لأبي مكتبة كبيرة وفيها كتب ذات قيمة أثرية عظيمة، ويكفي أن تعرف أن كتابا واحدا عرض لي فيه عشرة آلاف دولار، ومع ذلك رفضت بيعه، وأهديت المكتبة بأسرها إلى جامعة كارولاينا الجنوبية؛ وكذلك ترك أبي وجدي صورا فنية ذات قيمة عظيمة - أخذ يذكر بعضها بالاسم - فأهديتها إلى متحف الفن بكولمبيا، وهي هناك الآن تملأ أكثر من غرفة (ومن هنا أدركت سر دالته على المتحف وأهله) ... ثم أضاف قائلا: إنني رجل صريح مع نفسي؛ إنني لا أميل ميلا حقيقيا إلى الكتب أو الصور، فلماذا أبقيها في داري غير منتفع بها؟ لماذا لا أمتع بها أكبر عدد ممكن من الناس؟ كانت زوجتي تختلف معي في النزعة؛ فهي تميل إلى الأرستقراطية والظهور، وأما أنا فرجل بسيط، أريد أن أعيش كما تريدني طبيعتي أن أعيش، لا تكلف ولا تصنع.
Page inconnue