وكم لمحمد صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات، الآخذ بالحجزات، من الآيات البينات، وأعظم معجزاته معجزة القرآن الباقية بقاء الدهور، المتجددة على تعاقب الأعوام والشهور، المتألقة في الأفق الأعلى أنوارها المتدفقة في رياض الملكوت الأسنى أنهارها، الفاتحة لأقفال القلوب، الكاشفة لأسرار الغيوب، المخصوص في اليوم المشهود، بالمقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، وهو نهر الكوثر المفعم الملآن، الذي مساحته من بصرى إلى عمان، أو من صنعاء إلى عمان، وماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل في المذاق، وأباريقه على عدد نجوم السماء ذوات الإشراق، المخصوص بالشفاعة، الذي أخبر بما كان وما يكون إلى قيام الساعة، الذي جعل الله في كل عضو منه آية، وذلك دليل على مكانه عند ربه وأن له به عناية، وقبض صلى الله عليه وسلم بعد أن خيره الله في الدنيا فاختار لقاء ربه، برغبته فيما لديه وحبه، فجمع الله له بين ملك الدارين الدنيا والآخرة، وأسبغ عليه جزيل النعمتين الباطنة والظاهرة، وكسر بدعوته شوكة الأكاسرة، وجبر الدين وقصم ظهور الجبابرة، ففشت دعوته في المشارق والمغارب كما وعد وشاعت، وأخبر عن الله عز وجل أنه يستخلف في أرضه من آمن به فكان ذلك كذلك وهذه معجزة راعت، فاستخلف الله أصحابه وأهل بيته من بعده فسمعت الأمة لهم وأطاعت، فملكوا الملوك بجيوشهم المنصورة وعزماتهم، وحاربوا العرب الذين فرقوا بين صلاتهم وزكاتهم، فنثروا ما نظمه مسيلمة والأعراب من سلكهم، وبادروا إلى إطفاء نارهم وتعجيل هلكهم، واستباحوا حريمهم، وسبوا حرمهم، وبنوا ذمة الله وهدموا ذممهم، وقهروا الفرس والروم وكسروا تيجانهم، وضربوا قممهم، حتى أظهر الله الإسلام على أيديهم في البدو والحضر، وفاض على الأسود والأحمر، وشاع في جميع الأرض وظهر، وذلك ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما أخبر، فامتد الإسلام شرقا وغربا حتى بهت الذي كفر، فصلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته على المكين عند ربه، سيد ولد آدم محمد المغفور له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وعلى آله الطاهرين وصحبه، فلنرجع الآن إلى تفاصيل هذه الجملة الكريمة، وما فيها من الآيات العظيمة.
فأما شعره فقد كان الناس يستسقون به وتداولوه من بعده، ثبت في
((الصحيحين)) عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرة نحر نسكه ثم ناول الحالق شقه الأيمن، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر فقال: اقسمه بين الناس)).
وله طرق منها في ((صحيح مسلم)) حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال:
((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل)).
ومنها في ((صحيح البخاري)) حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال:
Page 238