Mes papiers... Ma vie (Première partie)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Genres
منذ طفولتي وأنا أود الانطلاق خارج البيت، كنت أحب المدرسة رغم العصا الخيزران يلسعني بها إسماعيل أفندي على أطراف أصابعي، وأكثر ما كنت أحب هو الانطلاق إلى الشارع أو الحقول لألعب وأجري وأسابق الريح كالعصفورة الطليقة.
في ذاكرتي منذ الطفولة حلم واحد، أن أطير بجناحين وأهرب من البيت في الكون الواسع ، أهرب إلى أين؟ لم أكن أعرف وأنا في السادسة من العمر، إحساس ثقيل أثقل من جسمي يشدني إلى الأرض، يشدني من الهواء الطلق والشمس والطيران مع الفراشات إلى البيت والجدران الأربعة والمطبخ.
في المطبخ تجعلني أمي أقف أمام النار لأتعلم كيف أطبخ وكيف أقطع البصل إلى قطع صغيرة جدا بالسكين الحاد، رائحة البصل النفاذة تلهب أنفي وعيني فتنهمر دموعي كأنها السيل، لم يكن أخي أو أبي يدخلان المطبخ أو يقشران البصل أو يغسلان الصحون، أصبح المطبخ هو المكان الذي أحس فيه بالمهانة وكوني أنثى.
في حوش المدرسة ألعب مع البنات، نجري فوق الرمل الساخن بحرارة الشمس، نجلس فوق الدكك الخشبية، نختبئ تحتها حين نلعب المساكة، نجري نتسابق، نلعب الثعلب فات فات وفي ديله سبع لفات، أو جمل جمالك فين، أو حبة ملح عند الجارة، وأكثر ما كنت أحب هو نط الحبل، لا أكف عن اللعب حتى يقرصني الجوع، فأفتح السلة الصغيرة تفوح منها رائحة الخبز المحمص، كأنها هي رائحة أمي. •••
الحنين إلى أمي يزداد كلما تقدمت في العمر، تجاوزت الستين عاما وأصبحت أمي تتراءى لي في الأحلام، أحس يدها تمسك يدي، وفمها مفتوح تحاول النطق، ثم تموت دون أن تقول شيئا، وأحيانا أراها واقفة داخل فستانها الحريري الأصفر ذي الحمالات الرفيعة تضحك الضحكة الخاصة بها وحدها، وتغني معي: «دي، تي، تسا، دي، تي، تسا، ...»
لا أعرف معنى هذه الكلمات أو الحروف، أمي قالت إنني كنت أغني لنفسي هذه الأغنية قبل أن أتعلم النطق، كان رأسي يهتز حين تجلسني فوق الكنبة، ربما كان رأسي أثقل من جسمي، تحوطني بالوسائد من كل جانب، وتجلسني. كنت طفلة هادئة، أجلس بالساعات، لا أبكي ولا أصرخ (كما كان أخي يفعل)، كل ما كنت أفعله هو أن أهز رأسي وأغني لنفسي: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ...
وجدتني أهز رأسي وأنا جالسة في مكتبة «بيركينز»، أدندن لنفسي باللحن القديم: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ... وأدق بأصابعي على مفاتيح الكمبيوتر كأنما البيانو، أغمض عيني وأحلم بأي كتاب، كنت أطوف المكتبات أبحث عن الكتب فلا أجدها، إنها هنا تحت الكمبيوتر جزء من الحقيقة وجزء من الخيال، عرفت سر المفاتيح، أدق حروف اسمي الأخير «السعداوي»، وأرى فوق الشاشة عناوين كتبي كلها (العربية والإنجليزية). تحت ضلوعي أحس الخفقات مثل قلب الطفلة، يغمرني الفرح، فأعود أدق فوق المفاتيح وأدندن: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا ...
يبدو أن صوتي كان مسموعا، رأيت بعض العيون تتجه نحوي، كنت جالسة في قاعة القراءة إلى جواري أستاذ أميركي ذو لحية طويلة صفراء حمراء محروقة بالشمس، رأيته يرمقني بعين جاحظة من وراء عدسة بيضاء تشبه نظرة خالتي فهيمة، النظرة الصامتة المؤنبة تسلبني الفرح إذا فرحت، تسلبني الطفولة، وتنقلني فجأة إلى الشيخوخة، يعود إلى ذاكرتي أنني تجاوزت الستين عاما، أنكمش داخل جسدي كما كنت أنكمش في المدرسة الابتدائية داخل ثوبي القديم، كنت أخجل في طفولتي من الفقر، وعمتي الفلاحة كنت أخفيها من عيون زميلاتي.
أصبحت أخجل من الشيخوخة، أخفي يدي النافرة العروق عن عيون الناس، حين يسألني أحد عن عمري أسكت لحظة، ثم أقول بصوت خافت: ستين، أنطقها بصعوبة، تتكور الحروف في حلقي مثل الغصة، أكاد أختنق، أمد عنقي نحو السماء، أرفع قامتي وأشد عضلاتي، أتحدى السنين والزمن، أرتدي حذائي الكوتش وأجري إلى غابة ديوك، لم أعد أجري كما كنت، وإنما هي الخطوة السريعة التي تشبه الجري، لا زلت أشعر بقوة عضلات الساقين، أدب بقدمي فوق الأرض، قدماي كبيرتان مثل قدمي ستي الحاجة، أدق بهما على الأرض كما كانت قامتها مرفوعة، لا أعرف حتى اليوم كيف جاءتها تلك الشمخة أو ذلك الكبرياء، كبرياء حقيقي ينبع من جسدها الممشوق، ولدت به، تسرب إليها مع الدم من أهلها أو جدتها الغزاوية، لم أكن أعرف من هي الغزاوية وماذا كانت. تمد ستي الحاجة عنقها الطويل إلى أعلها وتقول: أنا مبروكة بنت الغزاوية، تبدو لي أمها أو جدتها الغزاوية كأنما هي الإلهة نفرتيتي أو الملكة حتشبسوت.
كنت أحب ستي الحاجة أكثر من جدتي آمنة أو أي امرأة أخرى من عائلتي أبي وأمي، لكني كنت أكرهها حين تقول: «الولد الواحد بخمستاشر بنت»، أنفجر بالغضب وأضرب الأرض بقدمي: لا يا ستي الحاجة، البنت الواحدة بخمستاشر ولد، وهنا تفرد أصابعها السمراء الطويلة تهزها عدة مرات في الهواء وتردد: كبة بنات! الولد صلاة النبي عليه يرفع رأس أبوه دنيا وآخرة، يحمل اسم أبوه هو وولاده، وبيته يفضل مفتوح، لكن البنت تتجوز وتخرج من بيت أبوها، وولادها يحملوا اسم جوزها ... أضرب الأرض بقدمي وأصرخ: مش حتجوز أبدا أبدا أبدا ... وتضحك ستي الحاجة من جديد حتى تختنق بالضحك وهي تقول: الجواز مصيرك زي كل البنات، ده أمر ربنا يا بنت ابني.
Page inconnue