Mes papiers... Ma vie (Première partie)

Nawal Saadawi d. 1442 AH
121

Mes papiers... Ma vie (Première partie)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

كنت أشفق على أبي وأمي من العبء، أحاول التخفيف عنهما.

كانت أمي تشقى في العمل داخل البيت طوال النهار، تساعدها خادمة صغيرة تشبه سعدية، أقف إلى جوارها أمام الحوض لأساعدها في غسل الصحون، قد أمسح البيت كله في يوم إجازتي الجمعة، أو أعفي أمي من الطبخ أو إعداد المائدة أو أي عمل آخر في البيت.

كم كرهتها في طفولتي تلك الأعمال المتكررة الكئيبة، لا أنتهي من إعداد وجبة الفطور حتى تأتي وجبة الغداء، لا ينتهي الغداء حتى نبدأ في الإعداد لطعام العشاء، لا أكاد أنتهي من تنظيف الأرض حتى تغطى بالتراب، لا يفرغ الحوض من الصحون بعد الأكل حتى يمتلئ من جديد، كأنما هو صراع لا نهائي ضد دوران الأرض حول نفسها، أو حركة التراب في الكون، أو انقباضة عضلات المعدة أو الأمعاء داخل البطون.

ذلك اليوم ناولني أبي المظروف داخله القسط الأول من مصاريف الكلية، لمحت رعشت يده، وبصمات أصابعه فوق أوراق البنكنوت من رائحة عرقه، كان قلبي يئن وأنا أحمل المظروف في الشارع كأنما أحمل أبي بجسده الضخم داخل حقيبتي، أحمل الكرة الأرضية فوق رأسي وأمشي ... ربما نوع ما من تأنيب الضمير أو الإحساس بالذنب، أيجوع أخوتي الصغار ويصابون بالأنيميا أو فقر الدم لأصبح أنا طبيبة!

لم أحمل في حقيبتي هذا المبلغ الكبير من قبل ... خبأت المظروف داخل كشكول سميك داخل الحقيبة، أغلقت الحقيبة بالقفل، وضعتها تحت إبطي، أتلفت حولي في الشارع، العيون ترمقني بنظرة غريبة، كأنما هي كلها عيون لصوص، قادرة على اختراق الجلد واللحم، وأنوفهم أيضا قادرة على التقاط رائحة الفلوس.

لم أركب الترام أو الأتوبيس حيث يكون النشالون، أصابعهم خفيفة تنشل النقود في غمضة عين مثل أصابع الجان أو الأرواح الخفية، سرت على قدمي من الجيزة إلى شارع القصر العيني، دخلت إلى مبنى الإدارة في الكلية، وقفت أمام الموظف المختص باستلام المصاريف أو شئون الطلبة.

كان هناك طابور يتحرك ببطء شديد؛ فالموظف يترك مقعده ويغيب طويلا داخل مكتب آخر، لم يكن أيضا يحترم النظام، ما إن يقدم له الطالب كارت توصية حتى يأخذه قبل الآخرين الواقفين قبله، ما إن يدخل أستاذ في الكلية أو موظف كبير حتى ينتفض واقفا ويخرق نظام الطابور، لا أحد يعترض من الطلبة الواقفين، الكل يكتم الغضب. من خلفي سمعت طالبا يهمس في أذن زميله: «البوظان في الكلية زي البوظان في البلد كلها، نظام فاسد، والفلوس اللي بندفعها دي خسارة فيهم، لو كان عندي قريبة أو واسطة للباشا العميد كنت أخذت المجانية.»

رنت في أذني كلمة «المجانية»، سمعت عن شيء اسمه مجانية التفوق، كنت متفوقة والأولى في مدرستي، فلماذا لم أحصل على المجانية؟! البوظان أو الفساد لا يمكن أن يقف في طريقي لأحصل على حقي، الدم في عروقي يغلي وجسدي اندفع وحده خارج الطابور، سألت عن مكتب العميد، إنه رئيس الكلية، أكبر رأس بين الأساتذة لا يمكن الدخول إليه، بابه مغلق تعلوه لمبة حمراء، لا ينفتح إلا لكبار الأساتذة أو الوزراء والباشوات ، العميد في اجتماع مهم، قال لي مدير مكتبه، ثم سألني: معاكي كارت توصية؟! انفجرت بغضب: يعني لازم أجيب واسطة للعميد علشان أقابله؟

رمقني المدير بنظرة حانقة، كأنما أنا التي أخرق النظام أو القانون وليس هو ... سمعنا صوت الجرس يرن فوق رأسه، انتفض واقفا، أحكم إغلاق بدلته بالأزرار ثم أنطلق بخطوة سريعة وظهر منحن داخل غرفة العميد.

انغلق الباب وراءه، وقفت أحملق في الباب المسدود في وجهي تعلوه اللمبة الحمراء، حقيبتي تحت إبطي داخلها المظروف، رعشة يد أبي وبصمات أصابعه مرسومة بالعرق، بشرة إخوتي الصغار تعلوها بقع الأنيميا وفقر الدم، أصابع أمي حمراء ملتهبة بالصودا الكاوية والصابون، ليس معي كارت توصية، وليس لي قريب يحمل لقب الباشا.

Page inconnue