Mes papiers... Ma vie (Première partie)

Nawal Saadawi d. 1442 AH
110

Mes papiers... Ma vie (Première partie)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

لم تختف روح ستي الحاجة إلا بعد أن مات أبي، ربما كانت تنتظره حيث يلحق بها في العالم الآخر، أو ربما لأني كبرت أكثر وعرفت أن الروح لا تنفصل عن الجسم ولا تعود بعد الموت. كنت قد درست الطب وقرأت الكثير خارج الطب، وتخلص عقلي من الخرافات، إلا أن روح ستي الحاجة كانت تبدو لي كأنما هي مصنوعة من مادة روحية أو ربما هي أمها أو جدتها الغزاوية وأورثتها هذه الروح عن «عشتار» أم الطبيعة والخصوبة، أو «نون» إلهة تكون الأنثى قبل ظهور الإله الذكر.

عام 1947م حصلت على شهادة «الثقافة»، ثم انتقلت إلى السنة النهائية في المرحلة الثانوية، كانوا يسمونها «التوجيهية». دخلت القسم العلمي وليس القسم الأدبي أو قسم الرياضيات، كنت أفضل دراسة الكيمياء والطبيعة والأحياء أكثر من التاريخ والجغرافيا وغيرهما من علوم الرياضة.

كانت مرحلة الثانوية في مدرسة البنين خمس سنوات وليست ست سنوات كما في مدارس البنات، سألت أبي عن سبب هذه التفرقة، قال: إن وزارة المقارف «المعارف» تتصور أن البنات ناقصات عقل ودين، يحصلن في ست سنوات ما يحصله البنون في خمس سنوات. وكانت هناك موادة إضافية تدرس للبنات فقط؛ مثل مادة رعاية الطفل، والخياطة، والتطريز، والطهي، وعمل الكحك، ودعك الزجاج والبلاط والمراحيض.

كنت أهرب من هذه الحصص بادعاء المرض، أربط رأسي بمنديل أسود مثل النساء الثكالى وألزم السرير في العنبر حتى تأتي إلي الحكيمة، كانت امرأة سمينة قصيرة تتهادى فوق الأرض بخطوة بطيئة مثل البطة، تجلس على طرف سريري، وتضع يدها البضة فوق جبهتي، أغمض عيني حتى لا ترى «النني» الأسود القابع تحت جفوني، المتأرجح بالحياة والصحة، والمشتعل بالرغبة في مواصلة الرواية التي أخفيها تحت الوسادة: «انتي سخنة شوية يا بنتي، ويلزمك راحة وإسبرين، وبكرة تبقي كويسة إن شاء الله .» تضع في كفي ثلاث حبوب بيضاء صغيرة، ألقيها في المرحاض في دورة المياه، وأعود إلى الفراش، وأواصل قراءة الرواية.

إنها رواية «جين إير» باللغة الإنجليزية، تدرسها لنا «مس سنية»، الوحيدة بين المدرسات التي تبتسم حين نلتقي، الوحيدة التي سمعتها تقول: نوال موهوبة، الوحيدة التي تشرق الشمس بظهورها وتختفي بغيابها.

بدأت الضربات تتصاعد تحت ضلوعي في حصة الأدب الإنجليزي، لم أعرف، أهو حبي للأدب أم هو مس سنية؟ كانت تشبه مس إيفون في مدرسة منوف، الخطوة الرشيقة الممشوقة ذاتها، إلا أن قامتها أطول من مس إيفون وبشرتها أقل سمرة، والخفقات تحت ضلوعي أشد قوة، تذكرني بالحب الأول وحرف «الفاء»، الروح المحلقة في السماء بلا جسم، عيناي في الحب لا يريان من الجسم إلا العينين، ولا يريان من العينين إلا البريق الخاطف بلون العسل النقي الصافي كعيني أمي. كانت تتمشى في الفصل وهي تقرأ لنا من رواية شارلوت برونتي، أو جين أوستن زو إميلي برونتي، ثلاث نساء روائيات ندرسهم في حصة الأدب الإنجليزي، لم ندرس روائية واحدة في الأدب العربي، ألم تكن هناك أديبات يكتبن باللغة العربية؟! في مكتبة المدرسة لم أعثر على امرأة أحلامي دون جدوى، لم يكن أمامي إلا طه حسين.

بدأت مس سنية تلوح في خيالي، قلبي يخفق لمرآها، عيناها العسليتان تذكرني بأمي، هل كنت أبحث عن الأم الغائبة في منوف أم الحب الأول المكبوت؟ لم أتصور أن لها جسد امرأة أو رجل، لم يكن الحب يرتبط بنوع الجنس، كان نوعا آخر من الاحتياج يرتبط بنوع الإنسان، أو الإله، الذي كنت أبحث عنه في طفولتي دون جدوى.

كانت تنطق اللغة الإنجليزية بلهجة أخرى غير الإنجليزي، كأنما هي تصنع لغتها الخاصة، وصوتها الخاص، ومشيتها الخاصة، والبريق في عينيها حين تراني ينتشلني من غربتي في الدنيا، تتبدد الوحشة وينقشع الحزن المجهول الدفين في أعماقي، أتحول فجأة إلى إنسانة مرحة، أضحك وأرقص وأغني، يجلجل صوتي في الكون، أكاد أعانق الشمس بذراعي وأنا أجري وأجري في الفناء الواسع، لا شيء يوقفني إلا السور الحجري العالي.

ولأنني لا أعرف التخفي أو السرية فقد عرفت المدرسة كلها قصة الحب، ما إن تفتح «مس سنية» باب غرفتها في قسم المدرسة الداخلي حتى تتبارى البنات في البحث عني لأترك كل شيء وأجري أطل عليها وهي تمشي في الممر لتدخل دورة المياه الخاصة بالمدرسات، أو تهبط السلم لتذهب إلى أحد الفصول أو لتذهب إلى الفناء أو أي مكان آخر في الكون.

كانت قصص الحب بين التلميذات والمدرسات أمرا عاديا أحيانا، نشترك ثلاث أو أربع بنات في حب مدرسة واحدة، تشتعل القلوب بالغيرة والتنافس، وتزداد المدرسة زهوا وفخرا بازدياد عدد الواقعات في حبها.

Page inconnue