144

فقلت: لأن الحب يجعل كل سهل واضح في الأشياء غامضا معقدا في النفس، وهذا هو سره، وبهذا يرتفع عن الإنسانية، ويجنح إلى التأله، وبسره وتألهه يخلق كل ما يمسه في صورة ثانية مع صورته التي تقوم به، فيجعله بصورتيه من الكون، ومن النفس العاشقة أيضا، وليس من شيء خلق مرتين، ولكن أشياء الحب كلها كذلك خلق ثم خلق .

ليت شعري، أيعذب العاشق المسكين بهذا التأله الخيالي فيكون عقابا شديدا بطريقة غير أرضية؟ أم ينعم به فهو ثواب عظيم بطريقة غير أرضية كذلك؟

إنه لسر عجيب رائع في قلب من تيمه الحب، يدل عليه أنه ما من عاشق إلا وهو يرى أن رضاه عن جمال حبيبته، وتكوين أوضاعها وتناسقها ومشاكلة بعضها بعضا، كرضا الصانع عن صنعته، وافتنانه بما أبدع واخترع، وبما أتقن وأحكم، كأنه هو قدر وسوى، وسوى وخلق، ولو جاز أن يهبه الله القوة على أن يذرأ ويبرأ، ثم أمره أن يخلق لنفسه امرأة، لما صنع إلا هذه التي أحبها بكل ما يحبه فيها، وإن لم يستطع الحب أن يخلق إنسانا فهو يخلق إنسانية.

بذلك لا يفهم هذا الحب إلا في أسلوب ملتو؛ لأن له طرفا غائبا وراء النفس، كالعود من الأعواد غمس أسفله في الماء فلا يتراءى للعين في صفحة الماء إلا ملتويا متثنيا، لا بعمل من ذات نفسه، بل بموضعه، وبتأثير أحكام الضوء في موضعه.

والحب يشبه ألوهية دون حدها، فهو بهذا مفهوم غير مفهوم، ويشبه إنسانية فوق حدها، وهو بهذا أيضا مفهوم غير مفهوم، ولا نراه أبدا إلا مصرحا غامضا. إن صرح من جهة الحاسة غمض من ناحية الفكرة، وكل دونه هو في النفس يأتي من بعده في الموضع والقيمة والاعتبار؛ لأن في الحب وحده المعنى الأكبر للحياة في وهم المحب، على حين كل ما في الحياة هو في الواقع أكبر منه، ولن يعيش من لا يأكل ولا يشرب، على أن من لا يحب نراه يعيش.

5

قالت، وضحكت: بذلك لا يفهم الحب، وبذلك استطعت أن تجعل لغتك هكذا ...

قلت: وبذلك أيضا استطعت أنت أن تجدي مخابئ لغوية كثيرة تخبئين فيها الكلمة التي تريدين النطق بها ولا تنطقينها، فصارت لغتك عندي تفسر من معجمات كثيرة: من نظرة والتفاتة وخطرة وحركة، ومن شيء ومن لا شيء، وتقولين الكلمة بما شاء دلالك من أساليبه الكثيرة، إلا بأسلوب النطق كأنها تراغمك على أن تظهر وتراغمينها على أن تختفي. أتعلمين أنك كالدولة من الدول العظمى، حاشدة كل وسائل الحرب، معدة لها في كل وقت، فهي بذلك ظافرة غالبة من غير حرب، كأن وسائل الحرب تقاتل من غير أن تقاتل؟

6

قالت: يا ويحك! فإذا قبلت منك أني دولة عظمى، فكيف أقبل أني «أكاديمية» عظمى ... حتى تجعل لي معجمات كثيرة؟ وترى ما الذي يمكنك أن تفسره من معجماتي؟

Page inconnue