Illusions de l'esprit : une lecture du « Novum Organum » de Francis Bacon
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Genres
59
تمزجون بذلك وتخلطون الوحي المتعلق بإرادته والتأمل المتعلق بقدرته، ولا عجب أن تقدم الفلسفة الطبيعية قد أوقف منذ اختطف الدين - أكبر قوة مؤثرة على عقل البشر - بواسطة جهل البعض وحماستهم الهوجاء، وحمل على أن ينضم إلى جانب العدو. (90) فإذا التفت إلى تقاليد ونظم المدارس والجامعات وما إليها من مؤسسات قصد بها أن تكون مقاما للعلماء وسببا إلى تقدم المعرفة؛ وجدت كل شيء مناوئا لتقدم العلوم؛ ستجد أن المحاضرات والتدريبات مصممة بحيث لا يخطر لأي شخص أن يفكر أو ينظر في أي شيء خارج المضمار الاعتيادي.
60
فإذا ما خطر لأحد أن يستعمل حريته في الحكم فعليه أن يركن إلى نفسه ولن يجد له معينا من زملائه، فإذا تجشم ذلك فسوف يجد اجتهاده واتساع أفقه عبئا عليه في مسعاه العلمي؛ ذلك أن دراسات الناس في هذه الأماكن مقصورة ومحصورة في كتابات مؤلفين بعينهم، وإذا جرؤ أي شخص على مخالفتهم فإنه يهاجم للتو بوصفه ثوريا مثيرا للقلاقل، على أن هناك بالتأكيد فارقا كبيرا بين الأمور المدنية السياسية والأمور الفنية أو العلمية من حيث حجم الخطر الناجم عن التجديد في كل من الحالتين، أما في الأمور السياسية فحتى التغيير إلى الأفضل يعد مقلقا نظرا للاضطراب الذي يثيره؛ ذلك أن السياسة تقوم على السلطة والاتفاق والصيت والرأي، ولا تقوم على البرهان، وأما في الفنون والعلوم - كما في المناجم - فإن كل شيء يجب أن يعج بأعمال جديدة وتقدم جديد، هذا ما يجب أن يكون - وفقا للعقل السليم - وليس ما هو كائن في واقع الحال. إن ما هو قائم في عملية إدارة العلم وتسييره من شأنه أن يعيق تقدم العلم بدرجة خطيرة. (91) وحتى لو توقفت هذه المناوأة الغيورة، فسوف يتكفل بوقف نمو العلم أن تمضي هذه المحاولات والاجتهادات دون إثابة؛ ذلك أن تنمية العلوم وتمويلها ليسا في يد واحدة: نمو العلوم يأتي بالضرورة من عقول كبيرة، أما المنح والاعتمادات فهي في أيدي العامة أو الوجهاء، وهم بالكاد (باستثناءات قليلة جدا) متوسطو الثقافة، بل إن هذا النوع من التقدم ليس فقط محروما من التمويل والإغداق من جانب أفراد، بل محروما أيضا من التقدير والتمجيد من جانب العامة؛ ذلك أنه فوق فهم الأغلبية من الناس، وعرضة للانسحاق والانطفاء بعواصف الرأي العام، ولا عجب أن ما لا يمجد لا يزدهر. (92) غير أن أكبر عقبة على الإطلاق أمام تقدم العلوم وفتح ارتيادات وآفاق جديدة فيها إنما تكمن في اليأس البشري وانقطاع الرجاء، فأصحاب المزاج الرصين الحذر من الناس يميلون إلى فقدان الثقة تماما بإزاء هذه الأمور؛ إذ يتأملون في أنفسهم استغلاق الطبيعة وقصر العمر وخداع الحواس وضعف ملكة الحكم وصعوبة التجربة وما إلى ذلك؛ ولذا يفترضون أن هناك نوعا من الجزر والمد في المعرفة عبر انعطافات الزمن وعبر العصور؛ إذ تنمو المعرفة وتزدهر في فترات معينة، وتنحدر وتذبل في فترات أخرى، ودائما تخضع لهذا القانون: إنها إذا ما وصلت مستوى وحالة معينة فلا يمكنها أن تمضي أبعد من ذلك.
وعليه فإذا اعتقد شخص أو وعد بأكثر من ذلك فإنهم يرون أن هذا علامة على عقل منفلت غير ناضج، وأن مثل هذه المحاولات أولها مبهج وأوسطها مجهد وآخرها خلط. وحيث إن هذه الأفكار سريعة الولوج إلى عقول ذوي الرصانة والحكمة من الناس، فإن واجبنا أن نحذر من أن يأسرنا حبنا لما هو أنبل وأجمل، وأن نتريث ونخفف من غلوائنا! وأن نتمعن أي شعاع من الأمل يتسلل إلينا، ومن أي اتجاه يأتي، وأن نرفض النفحات الأخف من الأمل فيما نحن نحلل ونزن بدقة تلك التي تبدو الأصح والأقوم، علينا أيضا أن نتذرع في نصحنا بحصافة سياسية دأبها التحرز وتوقع الأسوأ في كل الشئون البشرية؛ لذا فإن علي الآن أن أتحدث عن الأمل، وبخاصة أنني لا أنجرف إلى وعود براقة، ولا أريد أن أصادر على أحكام الناس ولا أن أنصب لها الفخاخ، بل أن أقودهم طواعية بملء إرادتهم، ولعل أقوى علاج على الإطلاق لبث الأمل هو أن أقودهم إلى الجزئيات، وبخاصة كما هي ملخصة ومرتبة في قوائمي الكشفية (يندرج هذا الموضوع جزئيا في الجزء الثاني من «الإحياء»
Instauration
ولكنه يندرج بالدرجة الأساس في الجزء الرابع)، فهي ليست مجرد أمل بل الشيء ذاته. على أن واجبي لكي أفعل كل ذلك بتلطف أن أمضي في خطئي لإعداد عقول الناس؛ وإن نشر الأمل ليس بالجزء الهين من هذا الإعداد، فبدونه يكون كل ما قلته أدعى إلى الأسى منه إلى حفز النشاط وإحياء الهمة إلى التجربة؛ إذ يخيب ظنهم في الأشياء، ويقوي إدراكهم وشعورهم ببؤس حالهم؛ ومن ثم فإن علي أن أكشف عن حدوسي التي تبرر الأمل في النجاح، وأن أضع ذلك في الصدارة، تماما كما فعل كولمبس قبل رحلته المدهشة عبر الأطلنطي؛ إذ أبدى أسباب ثقته بإمكان العثور على أراض وقارات جديدة وراء تلك المعروفة من قبل؛ وهي أسباب قوبلت بالرفض في البداية، إلا أن التجربة اللاحقة أيدتها، فغدت سببا وبداية لأمور عظيمة. (94) والآن نأتي إلى أهم سبب يدعونا إلى الأمل، وهو مستفاد من أخطاء الماضي، ومن الطرق التي جربت حتى هذه اللحظة. ثمة تأنيب وجيه بدر ذات يوم من شخص ما على الإدارة السيئة لأحد المواقف السياسية؛ إذ يقول: «إن الشيء الأسوأ بالنسبة للماضي ينبغي أن يعتبر الأفضل للمستقبل؛ لأنك إذا كنت قد عملت كل ما يقتضيه واجبك ولم ينصلح أمرك فلا أمل لك في إمكان انصلاحه؛ أما وقد تعسر حالك، لا بسبب قهر الظروف، بل بسبب أخطائك أنت؛ فإنه لمن دواعي الأمل أنك إذا تجنبت هذه الأخطاء أو قومتها فإن تغيرا عظيما إلى الأفضل حقيق أن يحدث.» وبنفس الطريقة، فلو أن الناس طوال هذه الأحقاب قد لزموا الطريق الصحيح إلى الكشف وإلى نمو العلوم وعجزوا مع ذلك عن تحقيق تقدم أكثر مما أحرزوه، هنالك يكون من التوقح والطيش أن نقول بأن بالإمكان أن يحرزوا المزيد. أما إذا كانوا قد ضلوا الطريق وبددوا جهدهم فيما لا طائل من ورائه؛ لتبين من ذلك أن مكمن الأزمة ليس في الأشياء ذاتها (وذاك شيء ليس لنا به يد)، بل في الفهم البشري واستخدامه وتطبيقه، وذاك شيء قابل للعلاج والشفاء؛ لذا فإن أفضل شيء هو أن نبين ما هي هذه الأخطاء؛ لأن كل خطأ كان يشكل عقبة في الماضي هو داع من دواعي الأمل في المستقبل، ورغم أننا ألمحنا إلى هذه الأخطاء سابقا. فمن الملائم أيضا أن نفردها هنا بطريقة مخصرة واضحة بسيطة. (95) «هناك فصيلان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد. أهل التجربة أشبه بالنمل، يجمعون ويستعملون فحسب، وأهل العقل أشبه بالعناكب، تغزل نسيجها من ذاتها. أما النحلة فتتخذ طريقا وسطا بين الاثنين، تستخلص مادة من أزهار البستان والحقل، غير أنها تحولها وتهضمها بقدرتها الخاصة، وعمل الفلسفة الحقيقي لا يختلف عن هذا، فهي لا تعتمد على قوتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدمها التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تغيرها وتعمل فيها الفكر؛ ومن ثم فإننا نأمل الكثير من خلال اتحاد هاتين الملكتين (التجريبية والعقلية) اتحادا أوثق وأصفى مما تم لهما حتى الآن.» (96) ليس لدينا حتى الآن فلسفة في حالة خالصة، بل لدينا فلسفة طبيعية مشوبة ومفسدة: مفسدة في فلسفة أرسطو بالمنطق، وفي فلسفة أفلاطون باللاهوت الطبيعي، وفي المدرسة الأفلاطونية الثانية - عند بروكلوس
61
وغيره - بالرياضيات التي عليها أن تضع حدودا فحسب للفلسفة الطبيعية، لا أن تنشئها أو تخلقها، إنما الأمل في نتائج أفضل معقود على فلسفة طبيعية خالصة غير مشوبة. (97) لم يوجد أحد حتى الآن هو من صحة العزم وصرامة الفكر بحيث أخذ نفسه بأن ينفض عنه جميع النظريات والأفكار الشائعة، ويستخدم عقله من جديد، مطهرا نزيها، في دراسة الجزئيات. هكذا تأتى أن يكون الفهم البشري الذي لدينا مجرد خليط مضطرب وكتلة فجة مجبولة من كثير من السذاجة والمصادفة والأفكار الطفولية التي تشربنا بها صغرنا.
ولكن إذا جاء شخص ناضج السن، ذو فهم غير معاق وعقل مبرأ من التحيز، وانكب من جديد على الخبرة والجزئيات، فإن آمالا أكبر ستنعقد عليه، وفي هذه المهمة أبشر نفسي بمصير مماثل للإسكندر الأكبر، ولا يتهمني أحد بالغرور حتى يسمع القصة؛ لأن الشيء الذي أعنيه يهدف إلى محو كل غرور. يتحدث إسكينيز
Page inconnue