كان أسلافنا يكتبون الكتب بأيديهم، إذ لم يكن عندهم من وسائل الطبع والتصوير ما عندنا، فكان عليهم أن يصححوا كل نسخة من كل كتاب، وقد اضطلعوا بهذا العمل الفادح جهد طاقتهم، وبذلوا فيه من فكرهم وعافيتهم ونومهم وراحتهم ما تشهد به آثارهم وأخبارهم!
كان المتأدب منهم يقرأ الكتاب على أديب ثقة، ويكتب عليه أنه قرأه على فلان، ويغلب أن يكون الشيخ الذي قرئ عليه الكتاب قد قرأه على آخر، وهكذا حتى تنتهي القراءة إلى المؤلف أو الشاعر أو الكاتب ويكتب هذا السند المتصل على الكتاب، فيعلم قارئه أن بيده كتابا عمدة يطمئن إليه، بل فعلوا هذا في الدواوين المتواترة التي يتداولها الحفظ والنسخ كل حين، كديوان المتنبي. وعندنا اليوم نسخ منه تحمل سندها من أبي الطيب إلى سبعة قرون أو أكثر من بعده.
وهذا العكبري
1
شارح الديوان في القرن السابع لم يجز لنفسه أن يشرحه حتى قرأه على شيخين من شيوخ الأدب: مكي بن ريان بالموصل، وعبد المنعم بن صباح التيمي بمصر.
وقد وضع أسلافنا أصولا اصطلحوا عليها وسموها «أصول السماع»، بينوا فيها كيف يتثبت راوي الخبر أو راوي الكتاب حتى يتحرز عن الغلط جهده.
ومن عجيب ما يروى في هذا ما حدثني به بعض الثقات، أن القاضي عياضا ذكر في كتابه «الإلماع في أصول السماع»، أن أبا علي القالي صاحب الأمالي أعار الحكم المستنصر الأموي خليفة الأندلس كتابا من كتبه، وطالت غيبة الكتاب عنه، فلما رد إليه أبطل الرواية به وقال: لا آمن أن يكون قد أصابه تحريف وهو في يد غيري.
ذلكم جهد السلف ودأبهم في التثبت، على ما حملهم هذا من عناء ونصب، فكيف وقد تيسر طبع الكتب بما خلقت المدنية الحاضرة من وسائل، كيف نتهاون في التصحيح والتحقيق، فنخرج كتبا تنوء بأغلاطها؟ إن ناشر الكتاب اليوم يكفيه أن يصحح نسخة واحدة لتصح له آلاف النسخ، فيتواتر الكتاب، ويؤمن عليه الغلط والتحريف والزيادة والنقص من بعد. ليت شعري بأي عذر نعتذر، وبأي تعلة نتعلل؟ لا عذر، ولكنه التهاون والكسل، أو القصور والجهل! وفيها خيار لمتخير.
فالذي نرجوه أن تؤلف الحكومة أو تكل إلى الجامعة تأليف جماعة لمراقبة النشر، وبخاصة نشر الكتب القديمة، فلا يؤذن لناشر أن ينشر كتابا حتى تستوثق هذه الجماعة أن القائمين على تصحيح الكتاب أهل لتصحيحه وإخراجه على حال يسكن إليها أولو العلم والأدب، ولهم في لجنة التأليف والترجمة والنشر أسوة حسنة، ومثال صالح.
ذلكم أقرب إلى التحقيق، وأبعد من الفوضى، وذلكم أجدر بنا وأولى بسمعتنا، وأحفظ لتاريخنا وآدابنا، فإن توهم متوهم أن الخطب في هذا أمر يوكل إلى الزمن إصلاحه، ولا يحتاج إلى عناية الأمة والحكومة، فليسأل الباحثين من علمائنا وأدبائنا؛ ليشكوا إليه ما قاسوا من الكتب المحرفة والنصوص المضللة، وإنا لراجون أن تبادر الحكومة إلى تبشير الأدباء بما تعتزم في هذا الأمر العظيم، ثم تتبع البشرى العمل، والوعد الإنجاز.
Page inconnue