كلا، كلا، قد تتابع القوم في سمت وخشوع، فأين الجلبة والضوضاء، والتفاخر بالآباء؟ وهذه قريش تتجاوز المزدلفة مع الناس إلى عرفات، فكيف سوت نفسها بالقبائل، ورضيت أن تسير إلى هذه المنازل؟ لست أرى ما يميز قريشا من غيرهم، ولا الحمس ممن عداهم، وأين النسأة من كنانة ؟ لا ترى لهم شارة ولا موكبا، ولا تبصر منهم أحدا، ماذا دها العرب فغير سننهم؟ بل من ذا الذي جاءهم فجمع شملهم، ووحد كلمتهم، وأخلص لله دعوتهم! إن هذا لشيء عجاب! كنا قبل سنتين نسمع الضجيج والضوضاء، والتصدية والمكاء، ونرى كل قبيلة تنحاز إلى علمها، وتنادي ربها، فمن مشيد بالأوثان، ومن مناد: لبيك رب كنانة، أو لبيك رب همدان! فاستمع اليوم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك!
قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار، وتبدلت السيما والسيرة، وما عهدنا هذا من قبل!
والشيطان ذليل حسير، قد آوى إلى صخرة على جانب الطريق يرقب الوفود المتآخية، بل الأخوة المجتمعة، ويرى الجموع بعينه خزيان، ويعض بنانه حيران، يقول: ويلي من محمد، لقد أخلى بيوتي من هذه الأوثان، ومحا البغضاء والشنآن. لقد ذهب النزاع والخصام، وأفلت من يدي الزمام، ويلي من محمد! ألم يكن بالأمس يغشى هذه المجامع وحيدا، ويرتد عنها مخذولا؟ ألم يكن يعرض نفسه على القبائل لتجيره، فيلقى الغلظة والجفاء، والهزء والسخرية؟ ويلي من محمد! لست آسى على الحجاز وحده ولا على جزيرة العرب فحسب، إني لأوجس خيفة أن يجاوز هذا التوحيد الجامع، وهذه الأخوة الموحدة حدود الجزيرة، فتدمر منازلي من معابد الوثنية وقصور الجبارين، وتمتد إلى كل بقعة لي تزلزلها الفرقة، ويسيطر عليها الظلم، ويشيع فيها الفساد، وتتغلغل فيها الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويرفع فيها لواء الباطل فوق كل لواء. ويلي! لقد جاهدت محمدا في داره ثلاثا وعشرين سنة، واستنصرت شياطين الإنس والجن، وحشدت جنود الباطل، وخيل إلي مرارا أني أشرفت على الظفر، فما هذه الجموع التي تسير وراء محمد، وتدعو بدعوة محمد، ويلي! إنه يوم له ما بعده.
يسير رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عشرة آلاف من الحجاج إلى عرفة، وهذه قبة ضربت له في نمرة فينزل بها.
زالت الشمس فأمر رسول الله بناقته القصواء فرحلت فركب، حتى أتى بطن الوادي؛ وادي عرنة، فوقف، واجتمع الناس وأصاخوا للخطبة التي لم يخطب رسول الله مثلها في مثل هذا الجمع الحاشد، واستمعوا للوصية العظمى التي يوصي بها الرسول أمته في حجة الوداع، والبلاغ الأكبر يوم الحج الأكبر يؤذن الناس بكمال الدين، وتمام النعمة، وتمكن الإسلام،
1
ووقف ربيعة بن أمية بن خلف على مقربة من الرسول يبلغ الحجيج بصوته الجهير مقال رسول الله.
ألهم الرسول أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأن الدين قد كمل، ونعمة الله قد تمت، فقال: «أيها الناس، اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.»
Page inconnue