فقلت لها: «مثلك من أعطى روحا عاليا، وأدبا خالدا لن يموت. لكني أشفق من أن تسيطر عليك الأوهام!» قالت: «إنني لا أخدع بالأوهام، غير أني لا آمن صروف الأيام، فهل تسمح أن تبحث لي عن تأويل رؤياي؟»
فأخذت أطمئنها، ولكنها ألحت أن أستشير خبيرا بتفسير الأحلام، فوعدتها وذهبت أفكر فيما عسى أن أعود به إليها في الأسبوع التالي، وكنت أزورها كل أسبوع مرة، ثم اخترعت لها تأويلا طريفا، فلم يخف على ذكائها أنني أصانعها لأدخل على نفسها التفاؤل والاطمئنان.
انقطعت عنها لسفر نحو ثلاثة أسابيع، ثم عدت، فعلمت أن «مي» مريضة في مستشفى المعادي، وأنها قبل ذلك أغلقت الباب عليها عدة أيام حتى ظن السكان أنها أصيبت بمكروه فكسروا الباب، فوجدوها في سريرها شاردة الفكر، غائبة الوعي، صامتة، فجيء لها بطبيب، وأجريت لها الإسعافات، ثم نقلت إلى المستشفى. استفاقت «مي»، وطمأنها الطبيب مؤكدا أن القلب سليم، ولكن كانت تنتابها في فترات غيبوبة، ثم تفيق منها.
وفي منتصف ليل السبت في الثامن عشر من أكتوبر سنة 1941 بدأت «مي» تشعر بضيق الأنفاس، وأخذت نبضات قلبها تسرع في الخفقان، فجعلت تصعد تنهدات أشبه بتنهدات الطفل وهو في حلم جميل.
سألتها الراهبة الممرضة عما تشعر، فلم تقو «مي» على الكلام، فرفعت يدها إلى صدرها، وأشارت ناحية القلب أن «هذا» أن «هنا» ... انقطع الأمل ولم يعد للأمصال من قوة، قد حم القضاء ولم يعد للطبيب البشري من حيلة، وجاء دور الطبيب الروحاني، نادت الراهبة الكاهن فدخل على «مي» فوجد نفسا مستسلمة إلى القضاء وحكم رب الحياة والموت، وفي الساعة العاشرة وخمس دقائق من صباح نهار الأحد، التاسع عشر من هذا شهر خفق قلب «مي» الخفقة الأخيرة لشمس الحياة.
كانت «مي» في غفوتها الأخيرة أشبه بأن تكون في حلم جميل، بسمة الأطفال على شفتيها وإغماضة رقيقة في جفنيها، وعلى رأسها إكليل من الورود والأزهار، كأنها كانت في غفوة التأمل والتفكير.
سبحانك يا رب السماء والأرض، جعلت في الحياة جمالا وجعلت للموت جمالا، وخيل إلي أن «مي» في تلك الغفوة الراضية تردد شفتاها قولها: «ثم أوحي إلي بأن هناك وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وشعرت باحتياج محرق إلى التعرف إليها، والتمتع بتلك السعادة الأبدية!» (3) مي ملهمة الأدباء
كانت المرأة - وما تزال - وحي الأدباء والشعراء والفنانين، فإذا كانت جميلة جذابة، أو مليحة فنانة، أو أديبة نابغة، أثارت ما كمن في النفوس والألباب من شعور ووجدان، ودفعت بوحيها وإيحائها نهضة الفنون خطوات إلى الأمام؛ لأن مصدر الإبداع هو شعور الفنان ووجدانه، ومبلغ تأثره بالحياة وما فيها من جمال حي تمثله المرأة في شخصها إن كانت من ذوات الجمال المنظور، أو في نفسها، إن كانت من ذوات الجمال الروحي، والنفس العالية، والعقل الناضج، والملكة النابغة.
وكذلك كانت فقيدة الأدب العربي الآنسة «مي»، فهي الأديبة النابغة ذات الجمال الروحي، والنفس السامية، والذكاء اللامع، والفكر الممتاز، والاطلاع الوافر، والحديث الساحر مع ملاحة تأسر القلوب، ونبوغ نسائي ينافس نبوغ بعض الرجال في الإنتاج الأدبي والفكري الذي يفخر به تاريخ الأدب وتاريخ الفكر في العصر الحديث.
وقد دونت في بعض أعداد مجلة «الهلال» طائفة من الذكريات والأحداث الأدبية والرسائل التي جرت بينها وبين أصدقائها الأدباء، فقد أتيح لي أن أتعرف إليها قبل وفاتها بسنوات، وأفسحت لي - رحمها الله - في زيارتها مساء كل أحد من أيام الأسبوع، كنا نقضيه معا في الحديث الأدبي، أو النقاش الاجتماعي، أو الذكريات اللطيفة، ولقد كنت أحرص الحرص كله على لقاء هذه الأديبة النابغة في ذلك المساء؛ لأنهل من حديثها العذب، وأقتبس من علمها الوفير، وأقضي في جوارها الروحي البديع وقتا سعيدا، لا زلت أعتبره أسعد أوقات حياتي.
Page inconnue