وسألت الكونستبل: «أي شيء يحدث؟»
فأجابني بقوله: «حشد كبير من المزارعين، ويخيل إلي أن هذا العمل القذر لن يكون له آخر، لقد أقبل علينا في هذا الصباح رجال القسم السياسي وأعضاء لجنة المركز.»
ورأيت جمعا كبيرا في خارج البناء، ورجال الشرطة يحاولون أن يفرقوا الخلائق المحتشدة ولكنهم كانوا يعودون إلى أماكنهم، وكان بعضهم يلعنون، وبعض النساء والأطفال يبكون وينتحبون، فهؤلاء ينادون آباءهم، وأولئك يذكرن أسماء أزواجهن، وكان المنظر كله يرمض القلب ويحز في النفس.
ووقف أرشينوف في خارج دار السوفيت يتحدث إلى أحد موظفي القسم السياسي، وكلا الرجلين يضحك، ولعلهما كانا يتبادلان بعض الفكاهات، وقف في الفناء الخلفي نحو عشرين من الفلاحين كبارا وصغارا، وعلى ظهورهم بعض الأحمال في حراسة جنود من القسم السياسي يسددون نحوهم المسدسات ووقف سائر الفلاحين مكتئبين مستسلمين يائسين.
كانت هذه إذن هي عملية «تصفية طبقة كبار الملاك»، كما يقول الرجال الرسميون، أما الحقيقة فهي أن طائفة من الفلاحين السذج تنتزع منها أرضها، وتبتز منها جميع ممتلكاتها، وتنقل على الرغم منها إلى معسكرات خشبية لتعمل في قطع الأخشاب أو في أعمال الري، وكانت معظم الأسر في هذه المرة تترك في بلادها لسبب ما، وامتلأ الجو بالصياح والضجيج، ولما خرجت من مقر السوفيت رأيت اثنين من رجال الدرك يقودان فلاحا متوسط السن، ولم يكن ثمة شك في أنه كان يضرب، فقد كان في وجهه كدمات زرق وبيض، وكان ألمه باديا في مشيته، وملابسه ممزقة دلالة على أنه كان يقاوم من يعتدون عليه.
وبينا أنا واقف هناك محزونا خجلا يملأ اليأس قلبي، إذ سمعت امرأة تصيح بصوت لم أسمع مثله على ظهر الأرض، والتفت الناس كلهم إلى ناحية الصوت، وأسرع إليها رجلان من رجال القسم السياسي، وكان شعر المرأة مهدلا على جسمها، وبيديها حزمة من السنابل مشتعلة ألقتها على سطح البيت المصنوع من الغاب والقش قبل أن يدركها أحد، فاشتعلت فيه النار على الفور.
وأخذت المرأة تصيح وهي في حالة شديدة من الذهول: «أيها الكفرة! أيها القتلة! لقد قضينا العمر نعمل في إنشاء بيتنا ولن تأخذوه منا بل ستلتهمه النيران.» وانقلب صياحها فجأة إلى ضحك جنوني.
واندفع الفلاحون إلى البيت المشتعل وشرعوا يخرجون منه ما فيه من أثاث، وكان المنظر من أوله إلى آخره منظرا رهيبا أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، منظر النار والعويل، والمرأة التي ذهب عقلها، والفلاحين يجرون في الوحل ويحشرون جميعا لكي يبعدوا عن ديارهم، وكان أكثر ما فيه إيلاما لنفسي منظر أرشينوف، وضابط من رجال القسم السياسي، وهما يطلان على هذا المنظر هادئين، كأنه منظر عادي مألوف، كأن الكوخ المحترق ألعاب نارية أشعلت ليلهوا بها ويستمتعا بمنظرها.
أما أنا فقد وقفت في وسط هذا المنظر مرتجفا حائرا لا أكاد أتملك حواسي، وسولت لي نفسي أن أطلق الرصاص، أطلقه على إنسان أيا كان، ليزول بإطلاقه توتر أعصابي الذي لم يعد يطاق، ولم يستطر لبي في وقت من الأوقات مثل ما استطار في تلك الساعة، ومددت يدي تحت سترتي أبحث عن مسدسي، فقبضت يد قوية في تلك اللحظة على ذراعي، وكانت هي يد مضيفي استيوبنكو، ولعله قد استشف أفكاري.
وقال: «يجب ألا تعذب نفسك يا فكتور أندريفتش، إنك إن أقدمت على عمل جنوني ستضر نفسك ولا تنفعنا، صدقني فأنا رجل كبير السن مجرب للأمور، وتملك عواطفك، واعلم أن الخير كل الخير في أن تتجنب المتاعب؛ لأنك لا سلطان لك على هذه الأحداث، هيا بنا نعود إلى المنزل، إنك ممتقع الوجه كالموتى، أما أنا فقد ألفت هذا المنظر، فلم يعد غريبا علي، فقد كانت حملات العام الماضي الكبيرة شرا من هذه الحملة.»
Page inconnue