وكنت في أثناء ذلك أرقب الولد الصغير، فرأيته مكتئبا ساكنا سكونا غير طبيعي، حتى إن الحلوى التي أخذ يلوكها من غير عناية لم تفلح في أن تثير اهتمامه بنا، فسألت الرجل: «وما اسم ابنك الصغير؟»
وأجاب الولد عن سؤالي بقوله: «فاسيا.» ثم غادر الحجرة فجأة.
وقال رب الدار: «ليس هو ابننا، بل هو ... ماذا أقول؟ هل أقول: إنه يتيم يتمته المزارع الجماعية؟» - «وماذا تقصد بهذا القول؟» - «إنه يتيم وكفى، ولكن لا تسأل الولد شيئا، إن الصدمة التي تلقاها لا تزال تذهله، فهو يذهب في كل ليلة إلى بيته ويطوف بفنائه ساعات طوالا، ونحاول نحن أن نمنعه ونقول له: وماذا تفيد من تعذيب نفسك؟ ولكنه لا ينفك يذهب إلى البيت.» - «قل لنا ماذا أصابه؟» - «لست أدري هل أخبركما بذلك أو لا أخبركما به، إنكما جديدان علينا، وأنتما فضلا عن ذلك من رجال الحكم.» - «قل يا أبت ولا تخف، إنا لم نأت هنا لنؤذي أحدا، بل جئنا لأنا نحب الفلاحين ونريد أن نساعدهم.» - «حسن، فلأجرب حظي معكما، إنكما تبدوان من خيار الناس، وفوق هذا فقد تجاوزت السن التي أخشى فيها أحدا، وكل الذي يسوءني وأخشاه أن يلحق ابنتي أذى.»
ثم أخذ يقص علينا قصة الغلام فقال: «كان آل فورفان يسكنون على بعد عشرة بيوت من هذا المكان، وكانت الأسرة تتألف من رجل وزوجته وابن واحد هو فاسيا الذي شاهدتماه هذا، وكانت أسرة سعيدة مجدة طيبة الأخلاق، ولم تكن من كبار الملاك الزراعيين، فلم تكن تملك إلا جوادين وبقرة وخنزيرا وبضع دجاجات، شأنها في هذا شأن سائر الناس، وأخذوا يلحون عليه لينضم إلى المزرعة الجماعية ولكنه رفض كل إلحاح.
وأخذوا منه كل ما بقي لديه من الحبوب وعادوا إلى مجادلته وتهديده، ولكنه لم يتحول قط عن رأيه، وظل يقول لهم: تلك أرضي وماشيتي وبيتي ولن أعطيها للحكومة قط. ثم جاء قوم من المدينة - وهم المكلفون بإخراج الناس من بيوتهم - وأحصوا أملاكه وسلبوه كل متاعه ولم يبقوا له آنية ولا فوطة، وأخذت أدواته الزراعية وسيقت ماشيته إلى المزرعة الجماعية.
واتهم فورفان بأنه من كبار الملاك ومن وكلائهم وجاءوا في المساء ليقبضوا عليه، وأخذ ابنه وزوجته يبكيان وينتحبان، ورفض الرجل أن يذهب معهم، فأخذوا يضربونه حتى سال الدم من جسمه كله، ثم أخرجوه من المنزل وجروه في الوحل من الشارع الذي يسكن فيه إلى سوفيت القرية، وجرت زوجته من خلفهم وهي تصيح وتعول وتطلب العون من الله ومن الناس، وخرجنا جميعا، ولكن أحدا منا لم يستطع أن يقاوم الحراس المسلحين، وإن كنا نحب فورفان ونعرف أنه لم يكن من كبار الملاك.
وظلت المرأة البائسة تبكي وتصيح قائلة: «من ذا الذي يعنى بنا من بعدك يا بيوتر؟ إلى أي مكان يسوقك هؤلاء الوحوش الكفرة؟ ودفعها أحد رجال القسم السياسي بعنف فارتمت في الوحل، وظلوا يجرون فورفان إلى عربات الحيوانات، والله وحده يعلم أين مقره الآن، وعدنا بالمرأة إلى بيتها وحاولنا أن نهدئ من روعها حتى نامت وتركناها جميعا.»
وكانت المرأتان الجالستان أمام المائدة تبكيان وهو يقص هذه القصة، وأخذ مضيفنا نفسا طويلا من لفافته المصنوعة باليد الكريهة الرائحة، ثم واصل حديثه قائلا: «وجاءت في الصباح جارة من جارات أسرة فورفان المسكينة لترى الزوجة، ولكنها لم تجدها، ونادتها باسمها فلم ترد عليها، فدخلت الهرء الخالي، فوقعت عينها على منظر روعها، وصرخت منه صرخة جنونية أقبل على أثرها كثيرون من الفلاحين مهرولين، وكنت أنا من بينهم، فرأينا المرأة معلقة في حبل مشدود إلى إحدى العوارض الخشبية، وقد قضت نحبها، وكان منظرا لن أنساه مدى الحياة ولو بلغت سني مائة عام، وحدث كل هذا من شهر واحد لا أكثر.
وقررت أنا وزوجتي العجوز أن نأخذ فاسيا في كنفنا؛ لأنا ليس لنا أبناء صغار، وقد قضى شهرا كاملا بين صمت وبكاء، وهو يذهب كل يوم إلى البيت المهجور كما قلت لكما، ثم يعود إلينا ويأوي إلى فراشه على ظهر الفرن دون أن ينبس ببنت شفة.
وبعد أن رأيت أنا وزوجتي ما حدث لآل فورفان تباحثنا في الأمر وقررنا أن ننضم إلى المزارع الجماعية، باختيارنا.»
Page inconnue