وقال لزريف يشرح ما كانت تحدثني به نفسي: «لما كنت مضطرا إلى الإقامة هنا عدة أشهر فقد حاولت أن أجعل هذا المكان شبيها بمنزلي.»
وظللنا نتحدث في تلك الليلة عدة ساعات عن الكتب وعن الحزب وعن مستقبل الروسيا، وقال لي لزريف: إن المكان اللائق بي هو أن أكون مع الأقلية الشيوعية التي يجب أن ترشد الناس وتهديهم، وإن من واجبي أن أنضم إلى لجان الشباب، ثم إلى الحزب نفسه بعدئذ، وأقر بطبيعة الحال أن الحزب ليس مبرأ من العيوب، ولعل في برنامجه بعض النقص، ولكنه قال: إن الرجال أجل شأنا من البرامج.
وواصل حديثه قائلا: «إذا كان أمثالك من الشبان النابهين ذوي المبادئ يترفعون عنا فأي أمل لنا في الإصلاح؟ لم لا تدنو منا أكثر مما دنوت، وتعمل معنا للقضية العامة؟ إن في وسعك أن تقدم المعونة لغيرك بأن تكون لهم مثلا يحتذى في الإخلاص لوطنك، انظر إلى الثكنات من حولك؛ تر المقامرة والأقذار والسكر والشره، حيث يجب أن تكون النظافة والكتب والنفوس الطاهرة، إن عليك أن تدرك أن أمامنا أعمالا عظيمة تحتاج إلى جهود جبارة، إن أمامنا أقذارا تراكمت على مر القرون لا بد لنا من إزالتها، إن علينا أن نجتث الماضي العتيق القذر من أصوله الضاربة في كل مكان، ونحن من أجل ذلك في حاجة إلى خير الرجال، إن من واجبنا يا فيتيا ألا نقنع باشتراكية صورية، بل علينا أن ندعم أركانها بحسن الخلق والتعليم وتهيئة أسباب البهجة والحياة السارة للجماهير.»
ولم تكن هذه أول مرة ألح علي فيها الشيوعيون بأن أنضم إليهم، ولكني أحسست فيها بصدى المبادئ التي كانت تمتلك علي نفسي في أثناء طفولتي تتردد بين جوانحي، وأخذت أحاجج الرفيق لزريف، ثم قلت له آخر الأمر: إني سأفكر في ذلك الموضوع، ولكني كنت في خبيئة نفسي متفقا معه فيما قاله، وكان رأيي قد استقر.
ولما سافر الرفيق لزريف إلى موسكو بعد بضعة أسابيع من ذلك الوقت كنت أنا مع الجمع الحاشد - من عمال المناجم وموظفي المكاتب وكبار رجال الإدارة - الذي اجتمع لوداعه في محطة السكك الحديدية.
ووجه إلي الحديث دون سائر الحاضرين وقال لي: «ها أنت ذا يا فيتيا، لقد ترامى إلي مصادفة أنك انضممت إلى لجان الشباب، لقد أحسنت صنعا! وأهنيك! ولكن لم لم تخبرني؟ لقد كان في وسعي أن أزكيك.» - «أعرف هذا وأشكرك، ولكني أردت أن أعتمد في هذا على نفسي، وألا أجعل لأحد يدا علي.»
فتبسم وقال: «قد تكون على حق، وها هي ذي هدية صغيرة ادخرتها لك خاصة.»
وكانت الهدية كتابا، ظننته أول الأمر من كتب لينين أو ماركس، واطلعت على اسم الكتاب وأنا عائد إلى منزلي، فإذا هو يحتوي على ثلاث روايات لشيكسبير، لقد كان لزريف الشيوعي المتحمس، والزعيم القوي العامل، يجمع في شخصه بين إنسانية تولستوي وحب الجمال الممثل في شيكسبير، وبين الإيمان بمبادئ ماركس ولينين، ترى هل يدوم هذا المزيج؟ وهل يعقد لواء النصر لمن هم على شاكلة لزريف؟
والآن أصبحت لحياتي رسالة تؤديها، وغرض تهدف إليه، واتسعت آفاقها، وكأني نذرتها نذرا جديدا إلى قضية تعمل لها لتبلغ بها غايتها، وأصبحت أرى نفسي واحدا من طائفة مختارة اصطفاها التاريخ لتخرج بلادي والعالم بأجمعه من الظلمات إلى نور الاشتراكية، ولست أشك في أن قرائي سيظنون هذا كبرياء مني وادعاء، ولكنه هو الذي كنا نتحدث عنه ونشعر به، ولربما كان بين كبار السن من الشيوعيين من يسخرون من هذه المبادئ ومن يعملون لمآرب شخصية، أما نحن المبتدئين المتحمسين فلم يكن بيننا أحد من هؤلاء.
وكانت الامتيازات التي آلت إلي بوصفي أحد «المختارين» أن أكون أكثر من غيري كدحا، وأن أحتقر المال ، وأن أطلق المطامع الشخصية، وكان علي ألا أنسى مطلقا أنني عضو في لجان الشباب أولا، ورجل ثانيا، وخيل إلي أن انضمامي إلى اللجان، وأنا في إقليم من أقاليم التعدين «والغمرات الصناعية» مما يكسب هذا الحادث الجديد معنى لا أدري كنهه، شبيها في اعتقادي بذلك الشعور الذي كان يسري في نفس شاب من أبناء أعيان البلاد حين يبدأ حياته في بلاط القيصر، فهو شعور بأن صاحبه ينتمي إلى فئة من الفئات، وأنه لم يعد فردا مستقلا يعمل لنفسه.
Page inconnue