وتجمع الجند حول الشبان الحلاقين الهواة، وسخروا منهم ودفعوا لهم نظير إثخانهم بالجراح أجورا سخية كما يفعل خلق الله الكرام، وكثيرا ما كنا نعود إلى رفاقنا نحمل لهم الشيء الكثير من الخبز واللحم والخضر وغيرها من المأكولات ، وكثيرا ما كان حانوت الطلبة الحلاقين المتنقل يرفع علمه أيام الآحاد في سوق المدينة، ويكسب من وراء ذلك أجورا طيبة، وكان الفلاحون يؤجرونهم بيضا وبطاطس بل ودجاجا في بعض الأحيان.
وما لبث هذا الكنز الثمين أن نضب معينه، فلم يكن لدى أحد من الناس طعام يؤديه أجرا لقص شعره، وكانت نذر الجفاف الذي حل في عام 1921م غير خافية، وأدرك الفلاحون هذه النذر فغلوا أيديهم وقطبوا وجوههم، ولما لم نجد في المدرسة ما نأكله عدنا إلى المزرعة التعاونية، فوجدنا أن نار الحماسة التي كانت تضطرم في صدور أهلها قد خبت، وحل محلها قنوط هادئ مستكين، وهجرها معظم أهلها الأولين فلم يبق منهم إلا القليل، وحتى هؤلاء كان معظمهم يعمل في المصانع القريبة منها.
وكنت وقتئذ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، وكان بكربينو على بعد بضعة أميال من «دق الأجراس» مصهر معادن صغير أتمرن فيه، والتحقت في هذه القرية صبيا أتمرن على العمل عند صانع أقفال، وكانت هذه أول مرة أؤدي فيها عملا جثمانيا شاقا أؤجر عليه، وأحسست وقتئذ بأني قد كبرت بحق آخر الأمر، حين كنت أعود إلى بيتي في ملابسي الملطخة بالزيت، رث الهيئة، مصدعا من شدة التعب.
وخبت نار الفتن الأهلية أو كادت، وأصبحت مجالس السوفيت هي المسيطرة على البلاد لا ينازعها في الأمر منازع، وجاء دعاة الحزب إلى المصنع أحيانا ليخطبوا فينا وقت الغداء أو بعد الفراغ من العمل، وكان الشباب ذكورا وإناثا يصغون إلى هؤلاء الدعاة ويعون أقوالهم، أما الكبار فلم يكونوا في الغالب يلتفتون إليهم، وبعثت خطبهم فينا نحن الشبان بعض الأمل في هذا الوقت العصيب وقت الشدة والقنوط، وكنا نتردد أحيانا على ناد للعمال تزينه صور مطبوعة للينين وتروتسكي وماركس وأنجل، وحكم مكتوبة بحروف بيضاء على قطع من النسيج الأحمر.
وكنت أنا أستمع بشوق إلى المحاضرات التي يلقيها علينا رجال من المراكز العامة، بل إني كنت أجرؤ أحيانا على إلقاء بعض الأسئلة، وزادتنا الصعاب العاجلة المحيطة بنا أملا في المستقبل الموعود، وكنت أنا شخصيا أتقلب بين نارين: نار الشكوك التي تحيط بي في منزلي، ونار التعطش إلى الإيمان القوي. وأدركت في تلك الأيام اعتراض أبي على وسائل العنف التي يلجأ إليها الشيوعيون، ولكن خيل إلى عقلي الفتي على مر الأيام أنه متزمت في فضائله فوق ما يجب، وأن مثاليته أصبحت لسبب ما مثالية «بالية» في غير أوانها.
وكنت أحيانا أسأله: «ولم لا تأتي إلى النادي وتستمع إلى المحاضرات؟» وذلك لأني كنت أتوق إلى أن أستدرجه معي إلى الحياة الجديدة.
فكان يجيبني بلهجة الآسف الحزين: «وماذا يستطيعون أن يقولوا لي؟ لقد نسيت أكثر مما يعرفون، لا يا ولدي أشكرك، ليست البيضة هي التي تعلم الدجاجة.»
وما أن حل صيف عام 1921م حتى بلغ القحط غايته، وصحب القحط ذلك الوباء الذي لا يفارقه أبدا وهو وباء التيفوس، وأهلك القحط والوباء ملايين الأرواح قبل أن ينقضي عهدهما الرهيب، فقد حل القحط بالبلاد في أبشع مظاهره بعد سني الحرب الطوال والنزاع الداخلي، وتركز في إقليم الفلجا ولكن آثاره الرهيبة امتدت إلى ما وراء الدنيبر، وكان أشد الأقاليم قحطا بوجه عام أشدها انهماكا في الحرب الأهلية، كأن الأرض هي الأخرى قد جشأت لكثرة ما طعمت من الدماء.
وليس في مقدور الكاتب مهما كان بليغا أن يصف ما عاناه الشعب من أهوال وآلام؛ فقد كان الناس ينظرون إلى كل شيء حي - من خيل وكلاب وقطط وغيرها من الحيوانات المدللة - بعيون نهمة يائسة، وماتت الحيوانات التي لم تذبح من شدة الجوع، وكان الناس يلتهمونها التهاما رغم تحذير السلطات الرسمية مما يتعرض له آكلوها من الوباء، وكانوا يقشرون لحاء الأشجار ويغلونها ليتخذوا منها «شايا» و«حساء»، ويمضغون الجلد غير المدبوغ ليقتاتوا به، وانتزع من الحقول كل ما كان فيها من بقايا النبات والكلأ، وانتشرت الشائعات بأن الناس أخذوا يأكلون موتاهم، ويحزننا أن نقول: إن معظمها كان صادقا، فقد عرفت أنا نفسي حوادث من هذا القبيل في رومنكوفا وأولي وبنكوفا وغيرها من القرى المجاورة.
وأصبحت مناظر الموتى - الموتى المنتفخين البشعين - من المناظر المألوفة في حياة الناس، وشغل كل منا بنفسه وبحرصه على أسباب حياته، فلم يكن يلاحظ غيره من الناس أو يعنى بهم في سريرة نفسه أقل العناية. وأخذ الصالحون من الناس الذين لم يكونوا في الظروف المادية يطيقون رؤية آلام الغير؛ أخذ هؤلاء يخفون الطعام ليطيلوا حياتهم بضعة أسابيع أو شهور، دون أن يفكروا في جيرتهم الذين كانت تنتفخ بطونهم ويموتون حولهم من فرط الجوع.
Page inconnue