وكانت هذه أول مرة سمعت فيها أبي يخطب في الجماهير، ولم يكن في وسعي أن أخفي تأثري، وكان صوته رنانا، وقد تبدل كل شيء فيه حتى لم يكن لي بد من الرجوع إلى نفسي لأتأكد أن الذي يتحدث هو أبي بحق، وغدت الكلمات التي لم تكن من قبل تتعدى محيطنا، والتي تكاد تكون سرا من أسرار الأسرة، غدت هذه الكلمات بمعجزة لا يعلمها أحد تتردد على ألسنة الجماهير، فأصبح الناس كلهم وكأنهم من أفراد أسرتنا، وأخذ أبي يتحدث عن السجن والنفي، وعن حياة البطولة التي خاض غمارها الرفيق برمونوف، وعن المستقبل المجيد، ويحض الجماهير على التزام النظام وضبط النفس، ويحذرهم ممن يريدون أن يغرقوا الثورة في بحر من الدماء، وكان حديثه غاية في البساطة والإخلاص، كأن مستمعيه هم أبناؤه الثلاثة ضوعفوا مئات المرات.
ولما نزل عن المنصة وعزفت إحدى الفرق الموسيقية نشيد المارسييز اندفعت نحوه وشققت طريقي إليه بين أصدقائه المعجبين به، وصحت قائلا: «ليحي بابا!» وضحك أبي حين سمع ندائي بأعلى صوته.
وقال لي: «ها أنت ذا يا فتينكا ترى بعينيك أن الشعب سينعم بالحرية، لقد كانت هذه غاية جديرة بأن نحارب من أجلها.»
وعرفت حينئذ - أو لعلي عرفت في مستقبل أيامي - أنه كان يبرر أعماله في نظري، ويشرح لي أسباب ما حل بأسرته من ضنك وشقاء على يديه.
وسرعان ما تقدم الشهر الأول من شهور الثورة وجاء في أثره الانشقاق والتهم والشقاء، وتبدلت الحماسة الأولى غضبا وغلا في الصدور، واختلطت الألفاظ والحجج بالحجارة واللطمات وطلقات المسدسات، حتى أصبحت هذه أعظم شأنا وأقوى أثرا على مر الأيام، وعز الطعام وخيل إلينا أن الخشب والفحم والكيروسين كلها قد اختفت، ولم تعمل بعض المصانع إلا عملا متقطعا، وأغلقت بعضها أبوابها، وقال الناس وبخاصة ذوو الثياب الحسنة: «ها هي ذي ثورتكم! ها هي ذي الثورة التي طالبتم بها!»
وأخذ أبي يزداد في كل يوم كآبة وصمتا، وأصبح أكثر حساسية وأشد تأثرا مما كان في سني الخطر والتضحية؛ ولما طلبت إليه أن يشرح لي أسباب تعدد الأحزاب والبرامج بدت عليه مظاهر الحيرة والارتباك.
وكان جوابه لي: «إن المسألة معقدة يصعب على من كان في مثل سنك أن يفهمها، إن هذا نزاع على السلطان، ومهما تكن الأهداف التي يسعى إليها أي حزب من الأحزاب المتنازعة، فإن من الخير ألا يفوز واحد منها فقط بالسلطة؛ لأن هذا الفوز لا يثمر إلا استبدال سادة جدد بسادة قدماء، وقيام الحكم المستند إلى القوة لا إلى إرادة الشعب الحرة، ولم يكن هذا هو الغرض الذي ضحى من أجله الثوار بحياتهم.»
ولما استمعنا مرة أخرى إلى خطب المناشفة والبلاشفة وغيرهم في معهد التعدين، وقد أصبح وقتئذ المركز الرئيسي لسوفيت إيكترنوسلاف، هز أبي رأسه في حزن وقال: «لقد حاربت للقضاء على القيصرية، حاربت من أجل الحرية ورغد العيش لا من أجل العنف والانتقام، يجب أن نظفر بحرية الانتخاب وأن تكثر في البلد الأحزاب، أما إذا سيطر علينا حزب واحد فقد قضي علينا قضاء لا مرد له.» - «وأي مذهب سياسي تدين به يا بابا؟ أنت منشفي أم بلشفي أم ثوري اجتماعي أم لك مذهب آخر غير هذه المذاهب؟» - «أنا لا أدين بمذهب من هذه المذاهب يا فيتيا، لا تنس قط يا ولدي هذه الحقيقة: إن شعار أي حزب مهما يكن فيه من الإغراء لا يعد دليلا على حقيقة الخطة التي سوف ينتهجها هذا الحزب إذا ما استولى على أزمة الحكم.»
وذهب أبي إلى جبهة القتال في رومانيا؛ ليكون فيها واحدا من طائفة من العمال الدعاة للثورة، وكان لا يزال يعمل فيها في شهر نوفمبر حين استولى البلاشفة في بتروغراد بزعامة لينين وتروتسكي على أزمة الحكم، وتولوا قيادة الثورة، ثم عاد إلينا ليبلغنا أن الحرب قد انتهت، وأن كل ما يعمله الجند هو أن يلقوا بأسلحتهم ويعودوا إلى بلادهم، وهي أنباء عرفناها من قبل، فقد كنت أنا وكوتيا وأصدقاؤنا طلبة المدرسة الثانوية نقضي الساعات الطوال في محطة السكة الحديدية نشاهد القطر المقبلة من الجنوب والغرب، وقد اكتظت كلها بالجنود حتى امتلأت بهم أسقف العربات، وتعلقوا بنوافذها وفي أسفلها، وفاضت جموعهم على القاطرات نفسها، وأخذوا ينشدون الأناشيد ويسبون ويتشاجرون وينادون نداءات مختلفة، ولم نكن نحن الصغار ندرك معنى هذه الفوضى، وبدا أن الكبار أنفسهم لم يكونوا أقل منا جهلا بكنهها وحيرة من أمرها.
ولم نكن ندرك من الحقائق المؤكدة التي تطبق علينا في كل لحظة إلا الجوع والبرد، فقد فقدت النقود قيمتها وخلت أرفف الحوانيت من البضائع، وعلاها التراب، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى شق علينا الحصول على الخدمات التي كانت من قبل من مظاهر الحياة العادية كتنظيف الشوارع والمخاطبات التليفونية ومياه الشرب والنقل، وصارت هذه الأعمال نادرة باهظة النفقة أو ممتنعة بتاتا، وفشا وباء التيفوس حتى كانت جنازات الموتى مواكب متصلة تسير طول النهار.
Page inconnue