وهكذا علمت أن أمي لم تكتف بفحصها عن الأمور، بل ذهبت إلى كبار الرؤساء فأطلعتهم على ما كشف لها عنه بحثها! ولم تكن قد أنبأتني بذلك الجانب من نشاطها، وعلى ذلك فلم يكن ذلك الاجتماع مصادفة، بل جاء نتيجة مباشرة «لتدخلها»، لله هذه النزعة الخيرة وهذا القلب الجريء من تلك المرأة! لقد طفح قلبي حبا لها على الرغم مما عرضتني له من مواقف مربكة.
ولقد آتت دعوات أمي الساذجة أكلها في الأشهر التي أعقبت ذلك، إذ أقيمت سوق زراعية قريبا من المصنع، ونظفت مساكن الأطفال وزودت بكمية أوفر من البياضات، وأعلنت خطة ترمي إلى إنشاء حمام جديد، وأجريت بضعة إصلاحات صغيرة أخرى، وانتشرت بين العمال قصة «مسز كرافتشنكو» وحملتها في سبيلهم، فقاسمها ابنها هذا «المجد» المتواضع.
حدث ذات ليلة أن صادفت أمينة سري المنطبعة بطابع العانس التي تقدمت بها السن، الرفيقة «توفينا»، صادفتها خارجة من بناء القسم السياسي في نيقوبول، ولم يكن يدور في خلدي أدنى شك أنها ترفع عني التقارير، نعم أنا أعلم أن التجسس على الرئيس هو المهمة الرئيسية لأمناء السر في بلاد السوفيت، لكن علمك بالأمر شيء، ووقوعك على برهان وجوده شيء آخر، فما أقبل اليوم التالي حتى أصدرت أمري لقسم المستخدمين أن ينقل هذه المرأة من مكتبي وأن يوصي لي بغيرها، وآثرت أن يكون بديلها رجلا.
وبعد بضعة أيام جاءني رجل في نحو الثانية والثلاثين ومعه مذكرة من رئيس المستخدمين، كانت هيئته تستوقف النظر، فأول عبارة وردت على ذهني حين رأيته هي «نصب لتخويف الطير»، فقد كان في هيئته هيكلا تدلت فوقه هلاهيل الثياب، حذاؤه ممزق وسراويله مرقعة وسترته مصنوعة من «خيش» وفصلت في صورة غليظة، فهذا طراز من القذارة التي بلغت أقصى حدودها، حتى في ظروف الحياة السوفيتية، ومع ذلك فقد كانت ملامح وجهه الذي امتصه الجوع محددة التقاطيع بل كانت جذابة يعلوها شعر ضارب إلى الحمرة شاب عند العارضين.
قال: «أنا أعرف ما هيئتي أيها الرفيق كرافتشنكو، لكني أتوسل إليك ألا تحكم علي بهيئتي، فاعلم أنني جئت لتوي من معسكر اعتقال قضيت فيه أربعة أعوام، وإن قسم المستخدمين ليعلم ذلك عني فلو هيأت لي الفرصة فلا شك عندي أنك ستجد من عملي ما يرضيك.»
كان كلامه يشبه ما يتكلم به المتعلمون، فتحول شعور التقزز الذي بدأت به إلى إشفاق، إذ لا ريب في أن المسكين قد مرت به محنة قاسية، وسارعت فدققت الجرس لأطلب له شايا وشطائر، ولما قدمت إليه حاول أن يكبح زمام نفسه فلا يأكل إلا قليلا قليلا كأنما هو شيء عارض، لكن الجوع كان قد نال من جسمه على نحو لا تخطئه العين، وبينا نحن آخذان في الحديث دق التليفون، وكان المتحدث هو «رومانوف»، موظف محبوب له أهميته يعمل في قسم آخر، ولقد كان «رومانوف» هذا يتمتع بثقة الإدارة من «كوزلوف» فنازلا، على الرغم من أنه لم يكن من رجال الحزب.
قال: «فكتور أندريفتش، إني لأعدها مكرمة منك نحو شخصي إذا أنت استخدمت الرفيق «جرومان» الذي هو في مكتبك الآن، فهو على الرغم مما صادفه من حظ منكود شخص يركن إليه .» - «هل عرفته منذ طويل؟» - «لا، لكني في موقف يدعوني إلى الرجاء من أجله.» - «شكرا، فجميل منك أن تحيطني بذلك علما.»
وذهب «جرومان» إلى غرفة الاستقبال ينتظر، فتلفنت القسم السياسي واتصلت ب «جرشجورن»، إذ كان من واجبي أن أحيطه علما ما دام أمين سري سيتناول في عمله أوراق رسمية هامة، فلما أنبأته بالأمر طلب إلي أن أنتظر هنيهة، ثم ما لبث أن عاد إلى التليفون يؤكد لي أنه لا يمانع في تعيينه إذا وجدت أن الرجل مقبول من سائر نواحيه.
فلما أنبأت السجين السابق الذي تحطم بنيانه، أنه يستطيع البدء في عمله بعد يوم أو يومين، ابتسم لأول مرة، وأبدى من علائم عرفانه بالجميل ما أخجلني، أعطيته شيئا من المال مقدما، وأمرت مخازن المصنع أن تصرف له الملابس الضرورية، ثم عاونته - مستعينا في ذلك بمساعدي - على أن يجد لنفسه غرفة تصلح للسكن في منزل من منازل المصنع.
وسرعان ما أقام «جرومان» الدليل على كفايته وذكائه معا، فاستطاع بهذا أن يزيح عن كاهلي حملا ثقيلا من التفصيلات، ولقد خيل إلي أن الرجل يعود إلى الحياة من جديد حين حسنت ثيابه وأخذت عظامه تكتسي باللحم وعيناه تلمعان بنور الحياة، وكثيرا ما كان يحضر إلى منزلي من أجل العمل، وقد يحدث أحيانا أن أعيده إلى داره في سيارتي بعد الفراغ من عمله، فكانت العلاقة بيننا قائمة على أساس إنساني لا يقيم في وجهينا العراقيل، وشكرت «رومانوف» على توصيته بهذا الأمين؛ لأنه في هذا الباب من الطراز الأول.
Page inconnue