ثمن الكتابة
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثمن الكتابة
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الأطفال يغنون للحب
الأطفال يغنون للحب
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك ، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - إزاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الشخصيات
زكية إبراهيم:
امرأة قوية الشخصية، عاملة في مصنع بسيط للملابس.
منصور أحمد:
كاتب شاب زكي الملامح، ساخر فقير.
حسنية:
امرأة جميلة ومتزوجة وعادية ... أنيقة الملابس.
د. توفيق:
طبيب شاب عادي.
شهدي:
تمورجي فقير، قوي الشخصية.
زوج حسنية:
رجل كهل ثري وغليظ.
سعيد:
طفل في الثامنة، ابن شهدي.
حسن:
طفل في الثامنة، ابن زكية.
السكرتير الإداري:
شاب أنيق متكلف وقاس.
الأستاذ عبد السميع:
موظف فقير ضعيف الشخصية.
السجان:
رجل غليظ الجسم والملامح.
الشرطي:
رجل عنيف قاسي الملامح.
قنديل:
شاب عادي.
شرف الدين:
طبيب شاب عادي.
عمال وعاملات وأطفال آخرون.
الفصل الأول
المشهد الأول (المسرح مظلم وخال.
ضوء خفيف يظهر على مدخل المسرح من ناحية اليمين، يظهر في الضوء شهدي التمورجي (بملابس التمورجية البيضاء) ، حاملا على نقالة جسما مغطى بملاءة. تمورجي آخر يحمل النقالة من الناحية الأخرى.
يسيران بالميت ببطء مجتازين خشبة المسرح.
يخرجان من الناحية اليسرى.
يختفي الضوء ويصبح المسرح مظلما تماما.
ضوء خفيف يظهر من ناحية اليمين، وامرأة ترتدي السواد تجري بسرعة كالمذهولة، ومن خلفها صغار يجرون خلفها، يجتازون المسرح بسرعة ويخرجون من الناحية اليسرى.
المسرح خال ومظلم.
يسمع صوت نحيب مكتوم: آه يا ربي!
صمت وظلام.
تسمع صرخة طفل صغير يبكي.
المسرح مظلم تماما وخال.
يسقط ضوء خفيف على منتصف الخشبة، ويظهر طفل صغير جالس وحده في الظلام يده ممدودة للناس.
يبدأ الضوء يغمر المسرح تدريجيا، ويبدأ الناس المارة يروحون ويجيئون، الكل يجري بسرعة إلى عمله وحاله، لا أحد يلتفت إلى الطفل الجالس بيده الممدودة ... الطفل ينهض ويسير بين الناس طالبا الإحسان، خطواته لها إيقاع موسيقي يتماشى مع لحن أغنية الأطفال الشحاذين.)
الطفل الشحاذ (يغني على اللحن) :
حسنة يا سيد ...
حسنة يا ست ...
أنا جعان،
أنا يتيم،
وماليش حد.
عاوز آكل،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب. (ينضم إلى الطفل أطفال آخرون شحاذون بملابسهم الممزقة البالية، يرقصون ويغنون معا):
حسنة يا سيد ...
حسنة يا ست ...
احنا يتامى،
احنا غلابة،
ومالناش حد.
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
مليان حب. (أحد المارة يلقي إليهم قرشا.
يجرون إلى القرش ويتنافسون عليه، لكن الشرطي يقبل فيفرقهم بعصاه.)
الشرطي : (يغني على اللحن نفسه)
امشي يا واد ...
امشي يا بت ...
فض السكة،
للبيه والست.
انت حرامي،
وانت مشاغب،
وانتي عاوزة الضرب. (يضربهم بالعصا فيجرون خائفين ويخرجون من المسرح. الشرطي وحده على الخشبة يسير بعصاه، يرى القرش على الأرض، ينحني ويلتقطه ويضعه في جيبه.) (ظلام)
المشهد الثاني (د. شرف الدين راقد على السرير بحجرته بالمصنع، يلفظ أنفاسه الأخيرة، وإلى جواره التمورجي شهدي يحاول أن يسعفه.)
شهدي :
دكتور شرف الدين ... دكتور شرف الدين! يا نهار إسود! أعمل إيه بس؟! أنا مانيش دكتور، أسعفه إزاي بس؟ (يقرب كوب الماء من شفتي شرف الدين. شرف الدين يفتح عينيه.)
شهدي :
د. شرف الدين ... أنا شهدي.
شرف الدين :
شهدي، فين توفيق؟ اندهله.
شهدي :
ندهتله، جاي حالا في السكة، زمانه يوصل حالا.
شرف الدين :
لو جه توفيق وأنا ماكنتش ... قوله يا شهدي شرف الدين بيقولك إنها الزرقا (يدخل توفيق مهرولا بسرعة) .
توفيق :
شرف الدين! مالك؟ هات كورامين يا شهدي بسرعة (يعطيه حقنة) .
شرف الدين (بصعوبة) :
د. فهيم كدب علينا ... دلوقت بس عرفته. عرفت متأخر قوي ... خلاص الفرصة راحت ... يا توفيق ... الأمل راح ... (يلفظ أنفاسه) .
توفيق (باضطراب) :
لا يا شرف الدين، الأمل ماراحش، لسه فيه أمل، لسه فيه فرصة. هات كمان حقنة كورامين يا شهدي. (شهدي يجري ويأتي بالحقنة. توفيق يغرزها في ذراع شرف الدين.)
توفيق :
شرف الدين، اصحى، اصحى يا شرف الدين، لسه فيه فرصة، لسه فيه أمل. يا شهدي هات كمان حقنة. (شهدي يجري ويأتي بحقنة أخرى.)
توفيق :
شرف الدين ... اسمعني ... قاوم الموت يا شرف الدين زي ما كنت بتقاوم كل حاجة. قاوم ماتستسلمش، عمرك ما استسلمت. قاوم يا شرف الدين، فيه فرصة، فيه أمل. مش ممكن تموت، مش ممكن الملاك يا ناس هو اللي يموت. (توفيق يلقي الحقنة على الأرض فتنكسر ويبكي.
شهدي يغطي جسم شرف الدين الميت وهو ينظر إليه في ذهول وحزن شديدين.)
توفيق :
شرف الدين مات يا شهدي! شيله على كتافك. الملاك اللي رفض إنه يبات ليلة واحدة خارج المصنع، كان بيسهر عليكم ويشيلكم واحد ورا واحد، شيله يا شهدي في عينيك. شرف الدين كان مؤمن بشيء غير موجود، وعمره ما فقد إيمانه، كان عايش في وهم. الدكتور فهيم ما يكدبش، مافيش زرقا يعني مافيش زرقا، والزرقا عمالة تنهش في لحم العمال، والزرقا عايشة في المصنع، عايشة وعمالة تكبر وتترعرع، والميكروب عايش ويترعرع، والملاك الطاهر مات، ربنا رحمه واستريح. شرف الدين استريح يا شهدي، إنما أنا ... أنا اللي عايش وتعبان، أنا اللي خلاص بقيت مش مؤمن بحاجة خالص، دنيا وحشة وكلهم كدابين ... كلهم كدابين. أنا مش مؤمن بحاجة يا شهدي، مش مؤمن حتى بنفسي، أنا عارف إنها الزرقا وساكت، أيوة ساكت ومقدرش أقول. اشمعنى أنا دونا عن الكل اللي أقول! عاوز ولادي يا شهدي يعيشوا وياكلوا ويروحوا المدارس، ولادي هم السبب يا شهدي، هم السبب، يمكن لو ماكنش عندي ولاد يمكن كنت أقول. لكن برضه ما اعرفش، أنا بأخاف يا شهدي، أنا جبان (يبكي) . (شهدي يواسيه.)
شهدي :
ماتعملش في نفسك كده يا دكتور توفيق.
توفيق :
دي كانت آخر فرصة يا شهدي، شرف الدين كان آخر أمل، خلاص الفرصة راحت والأمل راح.
شهدي (في عزم) :
لا ما راحش، الأمل ما راحش، فيه فرصة طول ما احنا عايشين، طول ما فينا نفس، طول ما فينا نفس فيه فرصة وفيه أمل ... فيه! فيه! فيه! (ظلام)
المشهد الثالث (شهدي راقد على الأرض في زنزانته، السجان يضربه بالسوط.)
شهدي (يصيح) :
فيه!
السجان (يضربه) :
مافيش!
شهدي :
فيه!
السجان :
مافيش!
شهدي :
فيه!
السجان :
مافيش!
شهدي :
فيه! (يستريح السجان قليلا، يجفف عرقه، يدلك ذراعه من التعب.)
السجان (بصوت متعب جدا) :
انت إيه؟ انت مش بني آدم ولا إيه؟ والله، والله العظيم ده لو كان بغل كان حس!
شهدي :
كنت باحملهم على إيديا دول. أنا إنسان ... أصل أنا منيش بغل. أنا شهدي ... أنا إنسان عشت وسط الناس في المصنع، كنت باشيلهم على إيديا دول، كنت بأحس جسمهم وهو سخن زي النار وبعدين يبرد زي الثلج. شلتهم بإيديا دول وشيلت عيالهم، شيلتهم بإيديا وشفتهم بعيني. كنت أشوف العيل من دول ينبش في صفيحة الزبالة زي الكلب عشان يعتر في حتة عضمة، على لقمة بايتة ومعفنة، على شوية رز فضلوا من الجيران ورموهم في الزبالة. وشفت الدكتور شرف الدين، كان زي الشعلة المنورة، يروح وييجي ويكلم كل واحد ويضحك، تمام زي الدكتور توفيق. يا ترى انت فين يا د. توفيق؟ (السجان يضربه بالسوط.)
السجان :
قول مافيش زرقا.
شهدي :
فيه زرقا.
السجان :
مافيش.
شهدي :
فيه. (السجان يستريح ويتركه قليلا.)
السجان :
أقسم بشرفي لو بغل كان حس!
شهدي :
أيوة، لو كنت بغل ما كنتش حسيتهم بإيديا دول، شفتهم بعيني دول، أعمل إيه؟ ذنبي إيه، أنا بني آدم، لي إيدين بتحس وعينين بتشوف! (السجان يلسعه بالسوط.)
السجان :
بني آدم إيه؟ لو كنت بني آدم كنت حسيت لسعة الكرباج ده!
شهدي :
لسعة الكرباج مش بتوجع زي لسعة الألم والجوع، مش زي لسعة عينين عيل يتيم بيدور على لقمة في التراب!
السجان :
دراعي انخلع، ودمك ساح على الأرض، ولسه مش عاوز تسمع الكلام. شايف اللي على الأرض ده؟ ده دمك، بس شوفه.
شهدي (يتحسس جسمه) :
ده دمي! مش عارف إنه دمي. حتى جسمي ما بقتش حاسس بيه، اضرب زي ما انت عاوز، خلاص أنا مش حاسس بجسمي. (السجان يضربه بشدة.)
السجان :
قول مافيش زرقا.
شهدي :
فيه زرقا.
السجان :
مافيش.
شهدي :
فيه ... فيه ... فيه. (يصرخ وهو يقول بجنون: فيه ... فيه.
يسمع فقط صوت السوط وهو يضرب، وصوت شهدي يئن بضعف ويقول مرددا بصوت خافت جدا: فيه ... فيه. صوته يختفي تدريجيا دون أن ينقطع.) (ظلام)
المشهد الرابع (الحجرة التي يسكنها منصور أحمد في شقة زكية إبراهيم، حجرة تنم عن الفقر، بها مكتب صغير قديم، وكنبة كالسرير في ركن الحجرة، سلة مهملات مليئة بالورق الممزق، كتب كثيرة فوق المكتب.
منصور جالس في ضوء اللمبة يكتب، وعلى المكتب زجاجة خمر فارغة يفرغ منها آخر كأس وآخر قطرة، يبدو عليه الإرهاق والسكر.)
منصور (يكلم نفسه) :
خلصت الإزازة ومافيش غيرها، ولسه الراجل اللي واقف فوق دماغي مامشيش، لسه العينين المفنجلة بتبص علي من الحيطان والسقف، لسه مش قادر أحس إني لوحدي، مافيش حد يبص علي ويراقبني حركة حركة، وكلمة كلمة ... (يضرب الهواء بيده كأنه يطرد شخصا وهميا من أمامه)
ما تغور في داهية بقى، ما تشوفلك شغلة شريفة يا أخي. (يرفس الهواء كأنه يرفس شخصا وهميا يقف أمامه)
ياللا، برة، برة، حل عني يا أخي ... خليني أعرف أكتب، خليني أقدر أقول اللي جوايا. (يهدأ لحظة ... يجلس على الكنبة ومعه الكأس الفارغ)
الله ينتقم منكم، عملتم كده ليه؟ خليتوا الواحد يشك في عينيه، يشك في إيديه، يشك في الكلام اللي بيكتبه. (يذهب إلى سلة المهملات، يأخذ ورقة مكورة يفردها، ينظر فيها طويلا ثم يكورها مرة أخرى ويلقيها في السلة، يجلس مرة أخرى)
بس لو كان فيه إزازة تانية، كنت عرفت أطرد الراجل ده بصحيح، أصله راجل ماعندوش دم، لازق في زي ما يكون بغرا، وواقف فوق نافوخي زي المرحوم أبويا ما كان يقف فوق دماغي وأنا قاعد أذاكر. (يقلد صوت الأب حين يأمر ابنه التلميذ)
خلي عينك على الكتاب، ابتدي بالحساب، عملت الواجب يا ولد، ما تحركش راسك كتير، بلاش شخبطة على الكتاب، ماتاكلش حرف الكراسة، انت سايب المذاكرة وبتكتب شعر! يا واد خلص الواجب خلي عندك إحساس، خلي عندك دم الامتحان قرب وحتسقط بإذن الله. (يطرد بيديه الشبح، ينهض يدفعه أمامه كأنما يطرده من الباب)
ياللا بقى انصراف ... انصراف. مواعيد العمل خلاص، مواعيد الأوفر تايم برضه خلاص، يا راجل روح لمراتك وولادك، خلي عندك دم، مش شايف إن جيوبي منفضة ومافيش إزازة تانية. روح بقى، حل عني، خليني اقعد شوية مع نفسي، ياللا ... ياللا. (يدخل د. توفيق صامتا واجما يبدو عليه التفكير العميق والأسى.)
منصور :
أهلا توفيق، جيت في وقتك، عاوز إزازة يا توفيق عشان الراجل ده يسيبني ... مش راضي يسبني، لا يمكن يسبني إلا لما أشيل الحتة الفوقانية من دماغي (يشاور على رأسه)
بيسموها عندكم في الطب إيه؟ القشرة المخية؟ أيوة القشرة الفوقانية، الحتة الرفيعة دي يا توفيق، رفيعة خالص زي ورقة السيجارة، إنما إيه، لازقة وجامدة زي الحديد، بعد الإزازة التانية يدوبك أحس إني ابتديت أشيلها وأشيل معاها البلوة التقيلة اللي فوق دماغي، وأحس بصحيح يا توفيق إني أنا منصور أحمد، منصور على حقيقته، يكتب اللي عاوز يكتبه، ويقول اللي في نفسه، لا يخاف، ومافيش حد يقدر يقول تلت التلاتة كام ... بس أجيب أزايز منين يا توفيق؟ أجيب منين؟ (توفيق جالس لا يرد عليه، يبدو عليه الانهماك فيما يشغله ويؤلمه. منصور يقترب منه.)
منصور :
مالك يا توفيق؟ حد عزيز عليك مات؟
توفيق :
شرف الدين يا منصور راح.
منصور :
ولسه يا أستاذ بتقول مافيش الزرقا. يا توفيق يا خويا، الناس كلها عارفة إنها الزرقا، انت باين عليك ما بتقعدش مع الناس، لكن حتقعد فين وإمتى! ده انت ليل نهار في المصنع، إنما اسألني أنا. انت عارف إني أنا بعد ما اترفدت، ابتديت ألاقي وقت أقعد فيه مع الناس، ويمكن دي أهم ميزة للرفد، إنك تصحى الصبح فايق رايق، لا تجري وراء أتوبيس ولا تتشعبط في تروللي، وتمشي في الشارع كده فارد دراعاتك وقلبك مفتوح للدنيا والناس. تعرف علاجك إيه يا توفيق يا خويا؟ إنك تترفد، حتلقى مشاكلك اتحلت.
توفيق :
أنا تعبان يا منصور، مش فايق لكلامك ... تعبان (يمسك رأسه) .
منصور :
طيب أريحك إزاي يا توفيق؟ خلاص يا سيدي، الدكتور فهيم بتاعكم، هو راجل عادي ومافيش زرقا، مافيش حد بيموت، واللي بيموت بيموت موتة ربنا، والناس كلها صحتهم كويسة وزي الحصنة، والبركة فيكم يا دكاترة، من كتر ما هم زي الحصنة تبص في وشهم تلاقيها صفرا مش زرقا، كفى الله الشر، وعينيهم صفرا، والدنيا في وشهم صفرا، مافيش فيها ريحة الزرقان ولله الحمد، نحمده ونشكره، ولا يحمد ولا يشكر على مكروه سواه.
توفيق (ينهض في قلق) :
مش قادر أفهم إزاي الدكتور فهيم يكدب في حاجة زي دي.
منصور (ساخرا) :
مش قادر تفهم يا توفيق يا خويا؟! مش قادر تفهم ليه يا عزيزي؟ أنا عاوز أسألك سؤال بسيط جدا، سؤال بسيط، لا عاوز ذكاء ولا عاوز عبقرية، هو أنهو أسهل؟ الكدب ولا الصدق؟ (توفيق صامت لا يرد، يتمشى في الحجرة في قلق شديد.)
منصور :
كل الدلائل والشواهد والوثائق والمواثيق والخوازيق تدل على إن الكدب أسهل مية مرة من الصدق، ولا انت مش عاوز تصدق التاريخ؟ ولو إنه بيني وبينك، التاريخ برضه بيكدب.
توفيق :
لو كان واحد غير الدكتور فهيم، لكن أنا أعرف د. فهيم من عشر سنين، كان أستاذي واشتغلت معاه كتير.
منصور :
ما تحكمش عليه كان زمان إيه، احكم عليه دلوقت بعد ما قعد على الكرسي وبقى مسئول كبير. الكرسي بيغير الناس يا توفيق.
توفيق :
كان متهيألي إن مافيش كرسي يقدر يغير الدكتور فهيم، كان دايما يقولي الناس نوعين يا توفيق:
منصور :
كلهم كده، طول ما هم على البر شاطرين في الكلام، ويا سلام الواحد يتهيأ له إنه سبع البرمبة. اللي على البر شاطر يا توفيق، ولما الواحد منهم يقعد على الكرسي (يجلس منصور)
ويحس بيه ويملاه ويريح جواه، خلاص بقى واحد تاني.
توفيق :
فيه ناس بتقاوم يا منصور.
منصور :
أيوة، يمكن تقاوم اللي تقدر عليه، لكن اللي متقدرش عليه؟ مافيش غير المجنون هو اللي يصارع وينطح الهوا (منصور يقطع الهواء برأسه)
إنما الدكتور فهيم ده راجل علمي وعنده عقل، عاوزه يقاوم إيه ولا إيه ولا إيه ولا إيه.
توفيق :
مش قادر أتصور إزاي واحد زيه يسكت ويسيب الناس تعيا وتموت.
منصور :
الموت مكتوب على الجبين، محدش يموت ناقص عمر، كله مكتوب، مكتوب بدقة. وكمان يعني الناس على قفا من يشيل والعدد في اللمون، واللمون كل ما يكتر يرخص. البني آدم عندها رخيص يا توفيق، رخيص لأنه موجود ومتوافر وزيادة عن اللازم، زي قطع الغيار الموجودة في السوق في أي وقت، لما تخسر قطع غيار من دول ترميها وتشتري غيرها؛ لأن ثمن الجديدة أرخص من تصليح القديمة. المسائل في العالم بتتحسب بالشكل ده يا توفيق، العرض والطلب، المكسب والخسارة.
د. توفيق :
الدكتور فهيم تفكيره كان مختلف يا منصور، د. فهيم عمره ما حسب المسائل بالشكل ده، طول عمره يحترم الإنسان وعمره ما استرخصه حتى وهو عيان أو غلبان، لسه فاكر إزاي كان بيغطي العيان لما يكشف عليه قدامنا واحنا طلبة، لسه فاكر إزاي كان بيخلي تلاتة بس مننا يكشفوا على العيان عشان ما يتعبش، غيره من الأساتذة كانوا بيعملوا إيه؟ الأستاذ اللي كان يرفع رجليه ويحط جزمته على مخدة العيان، الأستاذ اللي كان يسيب خمسين طالب يضغطوا بالسماعات على قلب الطفل الصغير لغاية ما تحفر السماعات على صدره حفرة مدورة غويطة وحمرا، الأستاذ اللي ضرب العيان الشاب قلم على وشه لأنه رفض يقلع هدومه كلها قدام الطلبة والطالبات، الأستاذ اللي كان يعري العيانة قصادنا في عز البرد وخمسين واحد مننا يفحص بصوابعه في جسمها، الدكتور فهيم ما كنش بيعمل كده.
منصور :
يا سلام على السذاجة والبراءة، لولا إنك كنت زميلي في ابتدائي وثانوي، ولولا إني عارف مية في المية إنك اتخرجت من الطب، لا يمكن بتفكيرك ده أقول عليك دكتور. انت دخلت الطب ليه يا ابني، اللي زيك دول ما ينفعوش في الطب، أحسن لك تروح تكتب روايات أو شعر أو حاجات كده من بتاعة الخيال والعواطف زي حالاتنا، الطب علم، والعلم: واحد + واحد = اتنين ... اتنين بالضبط. لا يمكن يكونوا تلاتة، ولا يمكن يكونوا واحد ونص، اتنين بالضبط . ده علم الحساب، الدكتور فهيم راجل علمي وشاطر في الحساب، ولولا إنه شاطر في الحساب ماكنش نجح ووصل في عالم بيحسب ليل نهار، ماكنش نجح ووصل في وسط ناس بيجروا ويتنافسوا والأشطر يكسب، وطبعا مافيش مانع من شوية عواطف كده زي البهارات تنحط من فوق وماتكلفش حاجة، زي إنك تغطي عيان غلبان عشان ما يبردش، أو ما تحطش رجلك على سرير العيان، حاجات كده ظريفة وإنسانية ترضي ضمير الواحد، تخليه يحس بالسعادة، زي ما تدي قرش لشحات وانت ماشي في السكة، صدقة حلوة كده تخلي أمثالك من السذج يبصوله بإعجاب وحب، إنما عند الجد لما الكرسي اللي قاعد عليه ينهز، لما رزقه ورزق عياله يبقى مهدد بالقطع، المسألة تبقى عاوزة تفكير وعاوزة عقل وعلم وحساب، حساب دقيق جدا جدا، واحد + واحد = اتنين، اتنين بالضبط، لا يمكن يكونوا تلاتة ولا يمكن واحد ونص، وفي الحالة دي مافيش حاجة اسمها عواطف، مافيش حاجة اسمها إنسانية، مافيش زرقا، العواطف هنا اسمها سذاجة، رعونة ... والإنسانية هنا اسمها طيش، جنون ... إنما العقل ... يا سلام على عقل الدكتور فهيم فهمي، أحسن واحد يعقل في الحالة دي. (منصور يضحك بسخرية.)
توفيق :
انت طول عمرك كده يا منصور، ما تفرقشي بين الإنسان الكويس والوحش، كل الناس عندك وحشين، كل الناس عندك يضعفوا قصاد الفلوس والدرجات والكراسي. أنا معاك فيه ناس كتيرة كدة، لكن الدكتور فهيم كان غير دول، مش ممكن أنخدع فيه 10 سنين، مش ممكن. انت دخلت عيادته؟ لو دخلت عيادته تلاحظ إنه مش معلق يافطة بالأسعار، عمره ما تاجر بالطب، عمره ما أخذ فلوس من عيان غلبان مش قادر يدفع ال ...
منصور :
ما هي برضه ضمن العواطف اللي تنفع أكتر ما تضر، على السمعة الحلوة دي عيادته مليانة كل ليلة زي الرز، واللي يقدر يدفع أكتر من اللي ما يقدرش يدفع، دول ناس بحورهم غويطة يا توفيق، ناس يعرفوا يحسبوا كويس، كل حاجة عندهم لها ثمن ولازم تجيب ثمنها، حتى ولو كانت عاطفة كده ... عابرة!
توفيق :
كلامك دايما يتعبني يا منصور، كلامك دايما يخنقني، يخلي كل حاجة في عيني وحشة والدنيا كلها وحشة. إزاي انت قادر تعيش، كل الأفكار السوده اللي جواك دي؟
منصور :
انت بتسمي الأفكار الواقعية العلمية أفكار سوده! بقول لك يا توفيق يا ابني انت أطيب من إنك تفهم العلم، ظلموك اللي عملوك دكتور، الناس الطيبين اللي زيك يروحوا يشتغلوا بالمسائل الروحانية أو بالفن، ده انت كمان أطيب من إنك تكون فنان؛ لأن الفنان لازم يبقى شرير عشان يفهم شرور الحياة ويصورها للناس، انت أطيب من إنك تكون إنسان، حقك تكون ملاك بجناحين وتطير فوق وتعيش في السما. تصور يا توفيق يا اخويا، لولا إني شرير ما كنتش أقدر أكتب حاجة. صحيح كل اللي باكتبه محطوط في الدرج، لكن حييجي يوم والرواية تشوف النور، حييجي يوم ... بس المشكلة أجيب أزايز منين؟ أجيب أزايز منين؟ (تدخل زكية.)
منصور :
أهلا زكية، جيتي في وقتك. معاكيش إزازة سلف، إزازة واحدة أشيل بيها حتة القشرة اللي لسه لازقة هنا (يشاور على رأسه) .
زكية :
مش حتبطل يا منصور حكاية الأزايز دي، والقشرة اللي لازقة.
منصور :
أعمل إيه يا زكية، ما هي مش راضية تطلع، أطلعها إزاي بس؟
زكية :
خلي الدكتور يكتب لك دوا.
منصور :
الدكتور مين!
زكية :
الدكتور توفيق. (توفيق جالس مستغرق في همومه وقلقه، لا ينصت إليهما.)
منصور (ساخرا) :
الدكتور توفيق! هو الدكتور توفيق بيعرف في الطب؟ ده عمره ما قالي على نصيحة إلا وجابت نتائج عكسية، الدكتور توفيق عاوزني أعيش من غير أقراص مهدئة، ولا أقراص منشطة، ولا أقراص منومة، ولا أدخن، ولا أسهر، ولا أشرب، ولا أشيل القشرة الفوقانية ... يعني باختصار كده عاوزني أموت. اعرفي يا زكية، أنا اكتشفت حاجة غريبة قوي في كل الدكاترة اللي عرفتهم.
زكية :
انت مش حتبطل اكتشافات يا منصور؟
منصور :
تعرفي الدكاترة دول كانوا كلهم ضد الحاجات الكويسة اللي تخلي الواحد صحته كويسة، أمال يعني تفتكري الدكاترة يعيشوا منين يا زكية، يعيشوا منين لو كل الناس صحتها بقت كويسة؟ (زكية تقترب من توفيق.)
زكية :
مالك يا توفيق؟ قاعد كده ليه؟ مش عوايدك.
توفيق :
تعبان يا زكية، تعبان قوي.
زكية :
كل الناس تعبانة! مافيش حد أشوفه إلا ويقول تعبان، الدنيا جرى فيها إيه يا ناس؟
منصور :
الدنيا ابتدت تتصلح يا زكية، أصل التعب أول خطوة لإصلاح الدنيا. إنما تصوري يا زكية واحد في زماننا ده مش تعبان، واحد حاطط راسه على المخدة دلوقت ونايم يشخر، يبقى إيه ده يا زكية؟
زكية :
يبقى مرتاح وباله رايق.
منصور :
يبقى عيان، أصل ساعات روقان البال يبقا عيا، مش عيا بس، ده يبقى حاجة أشد من العيا، حاجة كده زي الموت ... يا حفيظ. (يقترب
أنا حاسس يا زكية إني مخنوق، حاجة كده زي الإيدين الاتنين حوالين رقبتي، الليلة يا زكية آخر ليلة وبكرة أقسم لك بحياتي إني حابطل، هي الليلة دي بس، فيه حاجة مهمة لازم أكتبها، فكرة جهنمية خايف تطير مني، بس انتي عارفة يا زكية لازم أشيل القشرة، بس ...
زكية :
ما انت كل ليلة بتقول الكلام ده يا منصور!
منصور :
لا يا زكية، دي آخر مرة، أقسم لك بإيه؟ أقسم لك بابنك حسن إن دي آخر إزازة، آخر واحدة. (زكية تبحث في جيوبها، ثم تناوله شيئا من المال، يدسه منصور في جيبه بسرعة ويتجه ناحية الباب ليخرج.)
منصور (يخاطب توفيق) :
استناني يا توفيق، أنا راجع حالا، أنا راجع، أنا ... أنا لازم راجع ... (يخرج بخطوات مترنحة.)
زكية (في ألم) :
يا خسارة الناس الكويسة اللي عندها قلب، يا بخت الناس اللي ماعندهاش قلب، تاكل وتشرب وتنام وبالها رايق، ومش حاملة هم، إنما اللي عنده قلب يا ويله، يعيش متعذب مهموم، وهموم الناس هي همومه، وهموم الدنيا كلها فوق دماغه، ما يقدرش يقول كلمة وأنا مالي، ما يقدرش، ما يقدرش يرتاح وغيره تعبان، وما يقدرش ياكل وغيره جعان مش لاقي اللقمة.
توفيق :
شرف الدين مات وارتاح، ومنصور لقه حاجة تريحه وتنسيه، إنما أنا يا زكية، أنا مش لاقي أي علاج.
زكية :
وشهدي يا توفيق، ماجبتش سيرته ليه؟ شهدي اللي بينزف من جرحه كل يوم كبشة دم؟ ولا كمنه تمورجي وغلبان؟ والغلابة اللي ماتوا، واللي لسه حيموتوا، دول كلهم وانت لسه ساكت يا توفيق؟ لسه ساكت ... يا قلبك! (توفيق ينهض ويسير في الحجرة في قلق وحيرة.)
توفيق :
رأسي، مش قادر يا زكية، فيه مخاوف كتيرة جوايا، وكل ما أفكر إني أقول حاجة تقولي اشمعنى يعني انت دونا عن الكل تقول، ما كلهم عارفين وساكتين أحسن منك وأكبر منك وساكتين، اشمعنى يعني انت، يعني انت اللي حتصلح الكون، ولا يعني عاوز تبقى بطل؟ وانتي عارفة يا زكية، أنا دكتور صغير على أد حالي، ولانيش بطل ولا حاجة، زائد إن الزمن بتاعنا ده مش بتاع بطولات فردية.
زكية :
بطل إيه وبطولات إيه يا توفيق، زمان الواحد كان يسمع أن البطل هو اللي يشيل السلاح ويموت، والبطولات بطولة بحق وحقيق، إنما دلوقت بقى الواحد اللي يفتح بقه ويقول كلمة حق بطل من الأبطال، سبحان الله يا ربي.
توفيق :
الخوف يا زكية، الخوف بيخلي الإنسان مشلول، ما يعرفش يعمل إيه.
زكية :
فيه ناس ما بتخافش يا توفيق، فيه ناس بدوس على خوفها وتمشي عليه، فيه ناس بتربط بطنها ولا تخافش، فيه ناس تتكوي بالنار ودمها يسيح ولا تخافش، وانت يا توفيق؟ قولي انت بتخاف من إيه؟
توفيق :
حاجات كتير يا زكية، وكل ما الإنسان احتياجاته كترت كل ما خوفه كتر، وكل ما الواحد كبر في المركز كل ما احتياجاته كترت. وأنا طالب في الكلية كان سهل علي إني أقول رأيي من غير ما أخاف، ماكانش عندي حاجة أخاف عليها، ولما كبرت واشتغلت بقى لي ماهية ممكن تنقطع، وبقى لي شقة لها إيجار، وبقى لي عربية عاوزة بنزين وتشحيم، بقى لي عيال عاوزين تعليم ومصاريف، واحتياجات كتيرة ملفوفة حوالين رقبتي ورابطاني زي اللجام. عارفة اللجام يا زكية بيربطوه في رقبة الحصان ويشدوه ويجروه حسبما هم عاوزين، أنا كده بالضبط (يتحسس رقبته ويفك رباط عنقه (الكرافتة) قليلا) ، كل يوم الصبح وأنا باربط الكرافتة حوالين رقبتي أقول لنفسي: يا واد انت بتخنق نفسك بإيديك. وابقى عاوز أفك الكرافتة وأرميها وألبس قميص مفتوح، زي ما تكون إيد واحد تاني عمالة تربط في الكرافتة وتشدها وتزر على رقبتي.
زكية :
علشان كده اللي ماحلتوش كرافتة ماحدش يقدر يشده منها ويخنقه، ماحدش يقدر يعمل حاجة للي مش عاوز حاجة.
توفيق :
كل الناس عاوزة تعيش يا زكية وعاوزة تاكل.
زكية :
ماحدش بيموت من الجوع يا توفيق، إنما فيه ناس عاوزة كل حاجة، عاوزة تنجح وعاوزة توصل، ولما تنجح وتوصل، عاوزة تنجح أكتر وتوصل أكتر، عاوزة شقة أكبر وعربية أطول، عاوزة ... عاوزة ... عاوزة ... العوزان المجنون الفظيع. صحيح كل واحد بيعوز ياكل، لكن فيه ناس تاكل وغيرها يجوع، فيه ناس تقتل عشان تملى بطنها وغيرها يجوع، فيه ناس تزؤ غيرها عشان توصل، فيه ناس تكدب عشان توصل، فيه ناس مستعجلة عاوزة حاجات كتيرة، وعشان كده بيختاروا الطريق السهل القصير، اللي بيوصل بسرعة، إنما الطريق الصعب مش كل واحد يقدر يمشي فيه، الطريق الصعب المليان ألم وشقا وعذاب مش كل واحد يقدر يمشي فيه.
توفيق :
الإنسان اتخلق عشان يعيش ويتمتع بالدنيا، ويرتاح ويعيش في أمان، الإنسان ما اتخلقش عشان يتعذب ويتألم.
زكية :
اللي ماتعذبش ولا اتألمش عمره ما يبقى حاجة يا توفيق، الأمل هو اللي بيخلي الإنسان إنسان! (توفيق يمسك رأسه بيديه ويظل صامتا لحظة.)
توفيق (بصوت متعب) :
مش قادر يا زكية، مش حاجة سهلة بالمرة، أصعب حاجة ... أصعب لحظة في حياتي ... أصعب لحظة مسكاني، شلاني، مش عارف أعمل إيه، يمكن لو كنت في مكاني، يمكن لو مريت بلحظة صعبة زي دي يمكن تعذريني يا زكية.
زكية :
مريت ومريت ومريت، دست عليها بكل قوتي ومريت، كنت لسه صغيرة، سبعتاشر سنة، وهربانة من كل الناس، هربانة من أبويا وأمي وجوزي وكل الناس، كانوا عاوزين يمسكوني ويحطوني في القفص، لكن أنا هربت. (يضاء المسرح في الركن وتظهر زكية وهي تحمل حقيبة صغيرة، وتسير وحدها في الشارع الطويل المظلم هاربة.)
زكية (تواصل كلامها) :
أخذت هدومي وهربت في نص الليل وهم نايمين، ومشيت لوحدي في الشارع الطويل الضالمة، كانت الدنيا مطر وبرد والدنيا ضالمة، وفي كل ركن شبح واقف يتربص، في لحظة وقفت وخفت وفكرت أرجع، قلت لنفسي لحظتها القفص أرحم، السجن برضه فيه أمان عن الدنيا الضالمة الواسعة، السجن له أربع حيطان تحميني وتخبيني، لكن مارجعتش، كنت عارفة إني رايحة للأودة البلاط والمرتبة القديمة والشباك المكسور بتبص منه عينين الناس، ولسنة الناس حتنهش فيه زي حتة لحمة، لكن دست على خوفي ولا رجعتش، كنت عاوزة أفك اللجام اللي حوالين رقبتي وأهرب من السجن، سجن المجتمع المزيف، والشرف المزيف، والجهاز المزيف، والكلام المزيف، والوجوه المزيفة، والذواق الكداب، كانت أصعب لحظة في حياتي، دست عليها برجلي ومشيت ومشيت، كان ممكن في كل خطوة أقف وأدور وأرجع، أرجع لبيتي المليان عفش، ولجوزي الغني تاجر الموبيليات اللي أبويه باعني له بميت جنيه مهر، وأجيب عيال، وأعيش زي الستات ما هم عايشين. لكن مارجعتش، دست على أصعب لحظة، عديت عليها ومشيت. (يطفأ النور في ركن المسرح، ويعود المشهد بين زكية وتوفيق.)
توفيق :
مش عارف يا زكية، عاوز أدوس عليها بس مش قادر، حاسس إن هي اللي دايسة علي، هي اللي مسكاني وأسراني وحبساني زي الفار في المصيدة، خايف أدوس عليها، متهيألي لو قدرت ودوست، حاجة في حتتغير، أو أنا كلي حاتغير وأبقى واحد تاني غير توفيق اللي عرفته وخت عليه، وكل ما أجي كده أخاف أكتر، زي ما يكون جوايا واحد تاني باخاف منه، أو يمكن هو اللي بيخاف مني، مش عارف!
زكية :
انت اللي بتخاف منه يا توفيق، انت بتخاف من نفسك الحقيقية اللي محبوسة جواك، انت اللي حابسها ومش راضي تحررها، مافيش حد بيحرر حد يا توفيق، احنا اللي بنحرر نفسنا، احنا اللي لازم نكسر القشرة، خبطة ورا خبطة، خطوة ورا خطوة، طريق طويل، وكل لحظة فيه صعبة وطويلة زي الدهر، تخلي جدور الشعر تقف، والشعر يشيب، والعمر يمتلي ويكبر، وإن مافاتش فيه كتير، لحظة ورا لحظة بالتدريج، زي الميه على النار تسخن شوية وبعدين تيجي لحظة تغلي وماتبقاش ميه، تبقى بخار، يفتح الواحد عينيه ويحس إنه بقى واحد تاني، بني آدم جديد غير الأولاني، يفتح دراعاته ويحس إنه مالك الدنيا، مالك نفسه ومالك جسمه، مالك عضلات وشه، يقدر يفتح بقه ويقول فيه زرقا، أيوة فيه زرقا!
توفيق :
أكسر القشرة إزاي يا زكية؟ دي قشرة تخينة وجامدة، وبقى لها سنين، سنين طويلة وهم بيلفوهم على راء، ورا راء، ورا راء، قشرة تخينة وجامدة زي القالب الحديد، وأنا من جوه زي ما كون مش في الدنيا ومش حاسس بحد، والناس بيني وبينها حاجز تخين، وكان العيان يبقى جنبي يتألم وأنا مش حاسس بيه، والأطفال الغلابة في الشارع ماكنتش أشوفهم، كنت باشوف ولادي بس. لكن مش ذنبي يا زكية، ماحدش بينفع حد، ماحدش بيوكل ولاد حد، واحد بيجري على ولاده، وولادي ملهمش حد غيري ولازم أضحي عشانهم، انتي أم يا زكية وتقدري تعرفي أد إيه قلب الأم أو الأب بيحب.
زكية :
قلب الأم أو الأب هو اللي يحب كل الأطفال زي بعض، إنما ياما أمهات وأبهات يجوعوا ولاد الناس عشان ولادهم ياكلوا ويشبعوا ويتخنوا، ياما أطفال تتعرى وتعيا وتموت عشان أطفال تانية تاكل شيكولاتة وتلبس حرير وكشاكيش، قلب الأم أو الأب هو اللي يتعذب لو شاف أي طفل جعان أو عريان. تعرف يا توفيق، كل الناس فاكرة إن حسن ابني وإني اللي ولدته، لكن الحقيقة إني كنت من أربع سنين راجعة بيتي قبل الفجر بشوية صغيرين، كان عندي نوبتشية في المصنع، الدنيا كانت شتا وبرد. (يضيء ركن المسرح المظلم ويرى شارع خال في منتصف الليل فيه مصباح نور. الهواء شديد، فتاة تغطي رأسها بشال كبير وتحتضن طفلا مولودا ملفوفا في لفائف كثيرة، تسرع الخطى وهي تتلفت حولها، يبدو عليها الإرهاق والأسى والخوف والحزن، تقبل طفلها وتمسح دموعها، ثم تضعه بعناية شديدة في الشارع بجوار جدار. الطفل يبكي وتتركه وهي مترددة، تتلفت خلفها إليه وقلبها متمزق لتركه وحده في الظلام والبرد.
الهواء عاصف. يسمع صوت العاصفة، وصوت بكاء الطفل الوليد، موسيقى تصويرية تعبر عن الفزع والوحدة والألم والاستغاثة.
تختفي الأم وراء جدار آخر، تنتظر وتراقب من بعيد ما الذي سيحدث لطفلها.
تبكي وحدها وهي مختفية في الظلام.
العاصفة تهدأ قليلا، والطفل يكف عن البكاء بعض الوقت. تظهر في الشارع زكية تسير وحدها عائدة إلى بيتها، مرتدية معطفا صوفيا سميكا.
تتوقف حينما ترى الشيء الملفوف، الأم تراقبها من بعيد لتطمئن على طفلها.)
صوت زكية :
وأنا بعدي كوبري عباس شفت حاجة صغيرة ملفوفة ومحطوطة على الرصيف، وقفت وبصيت شفت إيد صغيرة وصوابعها صغيرة، مديت إيدي بصيت لقيت الصوابع الصغيرة بتلف حوالين صباعي وتمسكه قوي قوي. (زكية تحمل الطفل وتحتضنه في صدرها.)
صوت زكية :
حطيته في صدري وبصيت في وشه، وشه كان أسمر محمر، وعينيه مدورة، والنني كبير وبيلمع زي فص الألماز، وحسيت إنه ابني، أنا اللي ولدته، ولدته فين وإمتى معرفش، لكن أنا اللي ولدته. (يطفأ النور في ركن المسرح. يعود المشهد بين زكية وتوفيق.)
زكية :
عمرك ما جالك الإحساس ده؟ عمرك ما وقفت العربية بتاعتك على كوبري عباس وبصيت؟ لو كنت وقفت مرة، ولو كنت بصيت مرة، يمكن كنت عرفت إن كل الأطفال بيتولدوا شكل بعض، كل الناس بتتولد زي بعض، لكن بعد كده بيختلفوا، بينقسموا نوعين، نوع بيتألم والنوع التاني ما بيتألمش، الألم هو الفرق بين إنسان وإنسان، واللي ما عرفش الألم عمره ما يبقى إنسان.
د. توفيق (بصوت متأثر) :
أنا فعلا يا زكية ... عمري ما عرفت الألم، كنت باجي لغاية عنده واهرب، حياتي كلها كانت سهلة، أبويا علمني وصرف علي في كلية الطب، كنت أرجع ألاقي عشاي جاهز، سريري جاهز، وبقيت دكتور، ما أعرفش كل حاجة كانت سهلة إزاي، عشان كده كان متهيأ لي إن كل حاجة سهلة والدنيا مفيهاش ألم، حتى لما كنت بسأل العيان وأقوله فين الألم يابويا، ويشاور على صدره أو بطنه، أحط إيدي على جسمه ومحسش الألم. وأنا صغير لما كانوا يغزوا في ذراعي حقنة التطعيم كنت أصرخ من الألم، وأنا فضلت طول عمري أكره أخذ الحقن، أصعب ألم شفته في جسمي هو إبرة التطعيم، لكن لما كنت أغرز الحقنة في ذراع العيان ويشد إيده، استغرب ليه بيشدها، وأقوله ماتشدش إيدك خليك شجاع وخليك راجل، مع إني كنت عارف بعقلي كطبيب إزاي الجسم بيتألم، لكن ماكنتش عارف بإحساسي يعني إيه ألم. العقل سهل يعرف ويتملي معلومات عن أكبر المعضلات اللي في الدنيا والعلوم، سهل إن العقل يتعلم، لكن الإحساس أصعب حاجة إن الإحساس يتعلم، ذنبي إيه إن كل ظروفي كانت سهلة وكويسة، ذنبي إيه يا زكية؟
زكية :
كنت لازم تقلق وتدور، كنت لازم تقلق وتحس بنقص اللي عمره ما تألم ويكون إنسان لازم يحس إنه صغير ووحيد وقلقان، لازم يحس إن حياته ناقصة وحاجة في حياته ناقصاه، حاجة في حياته ضايعة ومش لاقيها، حاجة مهمة خالص مش لاقيها، ما يحسش طعم الأكل ولا الشرب ولا النوم، وكل حاجة تبقى من غير طعم، زي الميه الفاترة. فيه ناس تعيش وتسكت وترضى بالعيشة الناقصة وتقول أدحنا عايشين، وفيه ناس تقلق وتدور على الحاجة الضايعة، وتفضل تلف وتدور وتدور، زي الأسد المحبوس جوه القفص، يفضل يدور، ويدور، ويدور، ويفضل حاسس إنه وحيد وإن حواليه سور بيعزله عن غيره، سور تخين وهو جواه وحيد محبوس مخنوق، يفضل يدور ويموت وهو يدور عن إنه يقعد جوه القفص. فيه ناس تموت وهي تدور عن إنها تفضل وحيدة محبوسة، لكن إذا ما ماتتش، إذا قدرت تكسر الباب وتخرج برة، حتلاقي أغلى حاجة في الدنيا، حتلاقي نفسها ...
د. توفيق (يقترب من زكية في حب) :
دلوقت بس فهمتك، دلوقت بس عرفت ليه أنا كنت باحبك، ليه دونا من كل الستات كنت باحبك، لما كنت أبص في عينيكي كنت باخاف، ماكنتش باعرف أنا باخاف ليه. ولما تمشي من قدامي أضحك لنفسي وأقول عبيط، ما هي واحدة زي كل الباقيين، لكن لما أشوفك من بعيد أبقى عاوزك تقربي مني عشان أشوف عينيكي وأبص فيها وأعرف أنا باخاف من إيه. كنت دكتور وانتي عاملة في المصنع، عاملة مبهدلة، شعرها منكوش، وفستانها قديم، وجزمتها كعبها متآكل ومعووج، ولما تمشي من قدامي أضحك لنفسي وأقول عبيط، ولكن لما ألمحك من بعيد أبقى نفسي تقربي عشان أشوف عينيكي وأبص فيها وأعرف ليه أنا باخاف، دلوقت بس عرفت إني كنت باخاف من نفسك، نفسك دي اللي لقيتها وماسكاها بديلك وسنانك ومتبتة فيها ومش ممكن تخسريها، نفسك دي اللي كنت باشوفها جوه عينيك من جوه ماقدرش أمسكها، أمسك إيديك وماقدرش أمسكها، أمسك جسمك كله بين إيديا ومقدرش أمسكها. فاكرة الليلة الوحيدة اللي قضناها سوا، ما تتصوريش يا زكية أنا الليلة دي حسيت بإيه، حسيت إنك ممكن تديني كل حاجة، كل حاجة إلا نفسك، حسيت إنك غالية قوي ... نفسك غالية قوي، مش ممكن أقدر آخذها، بأي ثمن، أغلى من أي ثمن، أغلى من إنها تتشري أو تتباع بالعملة المتداولة في عالمنا، العملة اللي بتحسب واحد ... واحد ... اتنين. وخفت يا زكية، لقيت الطريق لك صعب وغالي، واستسهلت واسترخصت، اشتريت مراتي بكل فلوسي وخفت أتجوزك، كنت عاوز مراتي تكون أنيقة ومن عيلة راقية وأبوها مركزه كبير، أنا عرفت دلوقت بس، لكن اتأخرت في التعليم، سامحيني يا زكية لأن أنا اللي خسرت مش انتي، أنا خسرت نفسي (يبكي) . (ظلام)
المشهد الخامس (المسرح خال ومظلم، موسيقى بطيئة وحزينة، ضوء خفيف يظهر منه مدخل المسرح من ناحية اليمين، يظهر في الضوء تمورجي حاملا نقالة جسم مغطى بملاءة، تمورجي آخر يحمل النقالة من الناحية الأخرى. موسيقى بطيئة حزينة ... يخرجان من الناحية اليسرى.
يختفي الضوء ويصبح المسرح مظلما تماما.
ضوء خفيف يظهر من ناحية اليمين، وامرأة ترتدي السواد تجري بسرعة كالمذهولة ومن خلفها أطفال صغار يجرون خلفها، يخرجون من الناحية اليسرى.
يختفي الضوء، المسرح مظلم وخال.
يسمع صوت نحيب مكتوم.
وصرخة طفل صغير يبكي.) (ظلام)
المشهد السادس (شهدي راقد في حالة سيئة على الأرض، السجان واقف بعيدا عنه يراقبه، ابن شهدي طفل واقف أمام والده صامت متألم مطرق الرأس.)
شهدي (يخاطب ابنه بصوت ضعيف) :
ماحدش راضي يجيبلي رباط شاش يا ابني، الجرح مفتوح وماحدش راضي يجيبلي رباط شاش، خايفين يجيبوه أقوم أربطه حوالين رقبتي وأموت نفسي، قول لهم يا سعيد أبويا شهدي مش ممكن يموت نفسه، أبويا شهدي مش ممكن ينتحر، لو كان عاوز ينتحر كان انتحر من زمان، لكن أنا عاوز أعيش، عاوز أرجع المصنع تاني وأقول للعمال فيه زرقا ... انت موطي راسك ليه يا سعيد؟ ارفع ضهرك وارفع راسك يا سعيد، أبوك شهدي محبوس ومضروب لكن مش كداب، ومش حرامي، ومش نصاب، أبوك راجل شريف، تمورجي وغلبان لكن مش كداب، وبيقول الحق ... ارفع ضهرك وارفع راسك يا سعيد واوعى تخاف من حد، اوعى تكذب، واوعى إيدك تتمد لحد (السجان يقترب من الطفل) .
السجان :
الزيارة خلاص. (الطفل يتراجع إلى الوراء تاركا أباه، يقف لحظة أمام السجان رافعا رأسه نحوه، ناظرا إليه في غضب، ثم يتركه ويخرج ...) (ظلام)
المشهد السابع (المسرح مظلم وخال.
الطفل سعيد سائر وحده في الشارع.
الأطفال الشحاذون يتجمعون في الشارع ويشحذون من الناس وهم يرقبون ويغنون أغنيتهم السابقة.
الطفل سعيد يقف بعيدا ينظر إليهم.)
الأطفال (يغنون معا) :
حسنة يا سيد،
حسنة يا ست،
احنا غلابة،
ومالناش حد.
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
مليان حب.
حسنة يا سيد،
حسنة يا ست. (أحد المارة يلقي قرشا على الأرض.
الأطفال يجرون نحوه ... الطفل سعيد يعترض طريقهم مغنيا.)
الطفل سعيد (يغني) :
اوعى إيدك تتمد،
ارفع ضهرك،
ارفع راسك،
واوعى إيدك تتمد.
ارفض، اغضب، ثور،
واوعى تقول:
حسنة يا سيد،
أو حسنة يا ست. (يدوس سعيد بقدمه على القرش، يتقدم إليه طفل ممزق الثياب نحيل الوجه.)
الطفل (يغني) :
أنا جعان،
أنا عريان،
وماليش حد.
الأطفال (يغنون) :
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
ومافيش حد.
الطفل سعيد (يردد بالغناء) :
أنا معاكم،
وأنا منكم،
بس بقول:
ارفع ضهرك،
وارفع راسك،
واوعى إيدك تتمد.
ارفض، اغضب، ثور،
واوعى تشحت من حد.
ماتقولش يا سيد،
ماتقولش يا ست،
وقول لأ لأ.
لأ لأ مش ممكن،
مش ممكن أشحت،
حتى لو مت ... (الأطفال يدفعون سعيدا بعيدا عن القرش وهم يغنون، يتنافسون على القرش، يأخذه أحدهم في يده ويجري خارج المسرح. الأطفال يجرون وراءه.
الطفل سعيد جالس على الأرض وحده ينظر إليهم في ألم، يخفي عينيه بيديه ويبكي.) (ظلام)
الفصل الثاني
المشهد الأول (الحجرة التي يسكنها منصور أحمد.
منصور جالس على ضوء اللمبة يكتب، وعلى المكتب زجاجة خمرة فارغة، يفرغ منها آخر كأس.
يكور الورق ويلقيه في سلة المهملات.)
منصور (يكلم نفسه) :
أكتب إزاي بس وهو واقف فوق دماغي بالشكل دا؟ مش هاين عليه يسبني ليلة واحدة لوحدي، والإزازة خلصت والحاجات اللي عاوز أقولها كتيرة مش بتخلص. (يفرغ آخر قطرة من الزجاجة.)
منصور (يكلم الشخص الوهمي) :
اسمع يا أخ، خلي عندك ذوق الليلة وروح بدري. بصراحة كده فيه واحدة ست جاية الليلة، وأظن يعني مش معقول تفضل لازق لي بالشكل ده، ياللا يا عزيزي من غير مطرود على بيتكم (يدفع الشخص الوهمي حتى الباب)
ياللا ... (تدخل زكية وتراه وهو يطرد الشخص الوهمي.)
زكية :
والله باين مافيش فايدة يا منصور.
منصور :
مافيش فايدة إزاي يا زكية، فيه فايدة وفايدة وفايدة.
زكية :
فين هي الفايدة دي بس؟
منصور :
اصبري بس الليلة يا زكية وحتشوفي منصور له فايدة أد إيه، ومن بكرة الصبح يا زكية حاسد لك الفلوس اللي خدتها سلف، وحادفع الإيجار المتأخر. خلاص فرجت يا زكية، فرجت، والليلة حاقبض خمسين جنيه. فرجت ...
زكية :
خمسين جنيه مرة واحدة، إش إش، بعت الرواية والا إيه يا منصور.
منصور :
إيه ...
زكية :
إيه ... معناها إيه دي يا منصور؟
منصور :
من ناحية بعت ... أيوة بعت. لكن بعت إيه بقة مش مهم.
زكية :
حتبيع إيه يا منصور؟ هو انت عندك حاجة غير الرواية؟
منصور :
طبعا عندي حاجة غير الرواية يا زكية، عندي حاجة مهمة خالص، أهم من الرواية، كنت شايلها في حتة مكينة ومخبيها بطريقة جهنمية، بحيث مافيش حد يقدر ياخدها مني، وامبارح في نص الليل فكرت كده وأنا قاعد لوحدي: يا واد حتفضل شايلها كده لإمتى، ما تبيعها وتخلص منها بدل ما انت شايلها كده فوق قلبك زي الهم على القلب، واهو كمان يجيلك من وراها قرشين تسدد ديونك.
زكية :
بعت إيه يا منصور؟ قوللي.
منصور :
بعت نفسي.
زكية :
نفسك؟ وبعت نفسك إزاي يا منصور؟
منصور :
ما تتخضيش قوي يا زكية، الحقيقة إنه مش بيع إنما يعني كده زي ما يكون بيع مؤقت، أو تأجير، حاجة زي كده.
زكية :
تأجير؟
منصور :
لمدة ليلة واحدة بس، ويمكن ما يكونش ليلة كاملة، يمكن ساعة بس، والساعة يمكن تنقص نص ساعة أو عشرين دقيقة ... على العموم أنا وشطارتي.
زكية :
أنا مش فاهمة حاجة خالص، اوعى تكون يا منصور حتعمل في نفسك حاجة مش كويسة.
منصور :
حاجة مش كويسة يعني إيه يا زكية؟
زكية :
يعني حاجة مش كويسة.
منصور :
برضه مش فاهم مش كويسة يعني إيه؟ أو مش كويسة في نظر مين؟ أنا ولا الناس؟ إيه رأيك بقى إن كل الحاجات اللي في نظر الناس كويسة، في نظري أنا مش كويسة، وكل الحاجات اللي في نظري كويسة، في نظر الناس ست هربت من جوزها وأهلها وعايشة لوحدها، ومأجرة أودة لراجل غريب، لها ابن ماحدش يعرف أبوه مين. كل ده في نظر الناس حاجات كويسة؟
زكية :
الناس عاوزة الست تبيع نفسها بورقة الجواز وتعيش زي الجارية تخدم جوزها عشان يوكلها ويكسيها، أنا شقيانة وتعبانة، وباشتغل ليل نهار، لكن حاسة إني حرة نفسي، أنا اللي بوكل نفسي وماحدش له عندي حاجة، والأودتين البلاط اللي أنا عايشة فيهم أحسن من شقة جوزي المليانة عفش وموبيليا. إيه فايدة العفش والفلوس والراحة، وكل ليلة أحس إني بابيع نفسي لراجل مش عاوزاه؟
منصور :
وتفتكري يا زكية كام واحدة كده بتتجوز الواحد اللي هي عاوزاه؟ وتفتكري كام واحد يتجوز الواحدة اللي حبته وادته قلبها؟ الجواز عملية حسابية، زي البورصة، الأشطر يكسب، واللي يفكر بقلبه وعواطفه في البورصة يخسر، وانتي في نظر الناس يا زكية الخسرانة.
زكية :
خسرانة خسرانة، بس عندي شرف.
منصور :
شرف؟ أيوة، هي دي الكلمة اللي ماحدش فاهمها. هو الشرف يعني إيه يا زكية؟
زكية :
يعني الواحد يقول الحق.
منصور :
آخ، يا نهار أسود، ده انتي مصعباها قوي. ده انتي مش مصعباها وبس، ده انتي مخلياها كده حاجة زي المستحيلة. ده الواحد عشان يقول الحق يا زكية يبقى تقريبا يعني كده مش موجود، أو على الأقل مش في وعيه، أو يعني على الأقل مش في عقله الواعي، يعني تبقى القشرة (يشاور على رأسه) ، أيوة القشرة المخية الوقائية دي تبقى متشالة خالص، متشالة خالص، وعشان القشرة دي تتشال يبقى لازم الواحد يجيب إزازة تانية، وتالتة، وانتي عارفة يا زكية الأزايز غالية، وناس كتير حالتها المالية ماتسمحش، ناس كتير زي حالاتي ما يقدروش، نعمل إيه يا زكية، الفلوس قليلة والأزايز غالية، الناس تجيب أزايز منين يا زكية؟ منين؟ أقسم لك يا زكية إن لولا أهمية الأزايز عندي أنا ماكانش يهمني حكاية الفلوس دي أبدا، والأزايز مهمة عندي قوي عشان أحافظ على نفسي، وعشان أقدر أقول الحق، عشان أبقى إنسان شريف، عشان ما ابيعش نفسي، إنما مافيش أزايز من غير فلوس، وعشان أجيب فلوس يا زكية لازم أبيع نفسي، إنما أنا حاطط في مخي إني بابيع نفسي عشان أحافظ على نفسي. فاهماني يا زكية؟
زكية :
فاهماك ومش فاهماك يا منصور.
منصور :
مش فاهمة إيه يا زكية؟
زكية :
حتبيع نفسك إزاي ولمين؟ هو انت لو كنت من اللي يبيعوا نفسهم كنت بقيت في الحالة دي يا منصور؟ ده انت ضحيت بوظيفتك وماهيتك عشان ماتكدبش كدبة واحدة وتقول للمدير بتاعك ...
منصور :
ده كان زمان، أيام الرعونة والطيش، الرعونة والطيش عند المدير بتاعي كان معناها إن الواحد يقول الحق، والاتزان والعقل عنده إن الواحد يقول الحاجة اللي في دماغ سيادته. بالضبط، بالضبط، بالحرف الواحد، وكان دماغ سيادته مترتب زي الدفتر، الحرف جنب الحرف، والكلمة ورا الكلمة، والسطر بعد السطر، نظام دقيق زي الدفاتر تمام، كانوا زمايلي في العمل بينصحوني ويقولولي: يا منصور سدد دفاترك، سدد دفاترك عشان المفتش لما ييجي يلاقي كل حاجة مضبوطة تمام، الدفاتر وبس، الناس مش تبص غير في الدفاتر، مالهاش غير الحاجة اللي مكتوبة على الورق، عمر الناس تبص غير للورق، إنما إيه اللي اتعمل بصحيح، إيه اللي جوه القلب بصحيح، ماحدش بيبص جوه القلب. ماحدش بيبص جوه القلب يا زكية، المهم عندهم ورق الحسابات، ورقة الجواز، شهادة الميلاد، شهادة التخرج، دفاتر الوارد والصادر والحساب الختامي، مدام الدفاتر مضبوطة والخانات متسددة يبقى خلاص، كل حاجة تمام، إنما القلب من جوه ماحدش بيبص للقلب من جوه، كلهم بيبصوا للواحد من بره؛ شكله إيه، لابس إيه، معلق على ظهره يافطة شكلها إيه، راكب عربية طولها إيه ... (يثور في غضب)
كدابين ... كلهم كدابين ... والكداب ما يطيقش اللي يقول الحق؛ لأنه بيكشف كدبه ويعريه زي اللون الأبيض ما يجي جنب اللون الأسود، الأسود مش بيبان أسود إلا جنب الأبيض.
زكية :
وبعد كل ده يا منصور، بعد كل السنين اللي حافظت فيها على نفسك، بعد كل اللي ضحيت بيه عشان ماتكونش كداب، بعد كل ده يا منصور تفكر دلوقت إنك ...
منصور :
هي كدبة واحدة يا زكية.
زكية :
واحدة زي عشرة يا منصور، مش انت اللي تعمل كده.
منصور (في حنين) :
مش أنا، مش أنا، هو لازم أبقى أنا على طول، يجرى إيه يعني لو بقيت واحد تاني مرة؟
زكية :
ما تقدرش يا منصور، شوف توفيق متعذب أد إيه؟
منصور :
وأنا يعني اللي مش متعذب؟
زكية :
عذاب عن عذاب أرحم.
منصور :
أهو كله عذاب وبس، ثم إن الكدبة بتاعتي مش زي كدبة توفيق، لا حد حيعيا ولا حد حيموت ولا حاجة، بالعكس دي كدبة مفيدة خالص، حتنقذ حياة واحدة ست متجوزة من الانهيار، وحتنقذ ثروة راجل غني من الضياع في إيدين الناس الغرب، وفوق كل ده فيه بني آدم جديد حينخلق.
زكية :
بني آدم حينخلق؟
منصور :
أيوة ... إيه؟ صعبة دي، دي أسهل حاجة في الدنيا، ده كل ثانية من الثواني فيه بني آدم جديد بيتخلق ، الإحصاءات بتقول كده، وعشان كده يا زكية أسهل حاجة إني أعمل واحد، يمكن يطلع كويس، حد عارف.
زكية :
حتتجوز يا منصور وتخلف ولا إيه؟
منصور :
حتجوز لا، إنما حاخلف آه، مش عارف ليه ربنا خلقني كده أكره الجواز قوي، وأحب الخلف قوي، مش عارف ليه بحب الأطفال مع إني وأنا طفل كنت بكره نفسي، وكنت بأحس إن مافيش حد بيحبني، أمي ماشفتهاش، أبويا طلقها وأنا عندي تلات سنين، وقالولي إنها اتجوزت واحد تاني وسافرت معاه الكويت، وأبويا كان راجل ماعندوش غير اللي في دماغه، اللي في دماغه بس هو الصح، تمام زي المدير اللي عندنا.
زكية :
يعني حتبقى أب يا منصور؟
منصور (ينظر في ساعته) :
المفروض إنها تيجي بعد ربع ساعة، لو جت في ميعادها يبقى المفروض إني بعد تسع شهور وخمستاشر دقيقة حيكون لي ابن.
زكية :
وحتسميه إيه يا منصور؟
منصور :
حسميه محمود علي زكريا المحلاوي.
زكية :
باين عليك تعبان وعاوز تنام يا منصور، كل ده من السبرتو اللي بتحرق بيه دمك كل يوم. يا ريت يا منصور ربنا يهديك وتبطل الأزايز دي، وتفوق لنفسك وتكتب زي ما كنت زمان.
منصور :
أقسم لك يا زكية إن دي آخر ليلة، وبعد كده حيكون عندي إرادة حديد. عارفة حديد يعني إيه؟ بس المهم الليلة يا زكية، الليلة تفوت على خير، وعشان تفوت على خير لازم أجيب إزازة، إزازة واحدة يا زكية، آخر واحدة، أقسم لك إنها آخر واحدة، بكرة الصبح حاسدد لك كل اللي علي، بس المهم اديني الليلة آخر مرة يا زكية. (زكية تضع يدها في جيبها وتناوله شيئا من النقود.)
زكية :
كل مرة بتقول إنها آخر مرة يا منصور.
منصور :
لا المرة دي غير كل مرة يا زكية، المرة دي آخر مرة، حتشوفي إنها آخر مرة ... حتشوفي يا زكية.
زكية :
حنشوف يا منصور. (زكية تخرج إلى حجرتها.
ومنصور يرتدي جاكته ويخرج من الباب ويتركه مفتوحا.
حجرة منصور خالية والباب مفتوح.
تظهر حسنية بملابسها الأنيقة الغالية عند الباب المفتوح، تدخل إلى حجرة منصور الخالية، تتجول وتتلفت حولها فلا تجد أحدا.)
حسنية (تكلم نفسها) :
لازم غلط في العنوان. (تقترب من المكتب، تنظر في بعض الأوراق عليه.)
حسنية (تكلم نفسها) :
خطه تمام، لكن دي أودة دي يسكن فيها؟ (تقترب من الكنبة)
ودي إيه دي؟ معقول إني أنام على الفرش الوسخ ده؟ أنا عارفة إيه اللي خلاني أقل عقلي وآجي، وكمان يا ريته هنا، لازم نسي الميعاد. لكن ينساه إزاي؟ مش معقول؟ يمكن حاجة طارئة جت له؟ (تقترب من المكتب)
سايبلي ورقة ولا حاجة؟ ... تنظر في الأوراق، تقرأ فيها باهتمام شديد، يبدو عليها الذعر والضيق والغضب. (تكلم نفسها)
يا خبر أسود! بقى ده كلام يكتبه عني؟ بقى ده رأيه في؟ بقى أنا ... أنا حسنية يوصفني بالشكل ده؟ (تقرأ بانهماك شديد ويزول الغضب تدريجيا ليحل مكانه شعور بالأسى والحزن)
إخص عليك يا منصور، انت كمان بتظلمني؟ انت كمان مش قادر تفهمني وتفهم الحالة اللي أنا فيها؟ لكن من إمتى فيه راجل يفهم الست، مافيش راجل يقدر يفهم الست، الرجالة أنانيين، كل واحد يفكر في نفسه بس. حتى انت يا منصور! كنت فاكراك تقدر تفهم، كنت متصورة إن مخك أحسن شوية، وتفكيرك متحرر، لكن أتاريك زي كل الرجالة، زيهم كلهم بوشين؛ وش قصاد الناس بريء ومحترم وآخر أدب، ووش من ورا الناس لا براءة ولا أدب، الخيانة في دمهم، والكدب، بقى أنا يا منصور اللي كدبت؟ ولا الدنيا كلها بوشين؛ وش قصاد الناس بريء ومحترم وآخر أدب، ووش من ورا الناس لا براءة ولا أدب، الخيانة في دمهم، والكدب. بقى أنا يا منصور اللي كدبت؟ ولا الدنيا كلها هي ... أنا ماعنديش قلب ولا الدنيا كلها هي اللي كدبت علي من يوم ما اتولدت لغاية النهاردة؟ بقى أنا اللي مالهاش قلب ولا الدنيا اللي مالهاش قلب ولا عمرها ترحم البنت أو الست. والدنيا هي مين غير الرجالة اللي في إيديهم كل حاجة، كل حاجة حتى الجنين اللي جوه جسمها واللي بيعيش على دمها؟ انت كمان بتظلمني يا منصور؟ مش كفاية ظلموني كلهم من أول أبويا وأمي لغاية جوزي ... (تبكي في ألم وتمسح دموعها)
بقى أنا ماعنديش قلب يحب؟ ياما قلبي حب واتهان في الحب، كان عندي سبعتاشر سنة باحب الدنيا وبحب الناس، واديت قلبي لقنديل، كل قلبي لقنديل، لكن قنديل زي كل الرجالة (يضيء المسرح في الركن وتظهر حسنية وهي في سن السابعة عشرة، ومعها قنديل الشاب الذي تحبه) .
حسنية :
لكن انت قلت لي إنك بتحبني يا قنديل، وأنا حبيبتك واديتك كل قلبي.
قنديل :
أيوة يا حسنية، أنا قلت لك إني بحبك، لكن ماجبتش سيرة الجواز.
حسنية :
والجنين يا قنديل؟ أعمل إيه في الجنين؟
قنديل :
مافكرتيش ليه في كل ده قبل ما ...
حسنية :
ما انت اللي أصريت يا قنديل، انت اللي قولتلي لو كنت بتحبيني صحيح تديني كل حاجة من غير حسابات، ومن غير شكوك، ومن غير هدف غير الحب.
قنديل :
كنت باختبر أخلاقك وأشوف حتوافقي ولا لأ.
حسنية :
يعني كنت بتكدب علي يا قنديل؟
قنديل :
كنت باختبر أخلاقك.
حسنية :
ده كدب، كدب، كدب، أنا حبيتك بكل قلبي، صدقت كل كلمة قلتها لي، صدقت حبك، عمري ما شكيت فيك، لكن انت كنت طول الوقت بتشك في، أصل اللي بيكدب لازم يشك.
قنديل :
البت اللي أخلاقها كويسة ماتديش نفسها من غير جواز يا حسنية.
حسنية :
أنا أخلاقي أحسن من أخلاقك؛ لأني مش بكدب، لأني اديت قلبي بحب وصدق من غير شروط مكتوبة على الورق، ومن غير مقدم ولا مؤخر ولا فلوس تندفع، أنا مش بابيع نفسي بالفلوس يا قنديل.
قنديل :
البنت الشريفة ماتخرجش مع الراجل من غير جواز.
حسنية :
واحد زيك مش مفروض يتكلم عن الشرف، انت فاهم الشرف بالعكس يا قنديل. الشرف إنك ماتكدبش على حد، لكن انت كداب، كداب، وانا باحتقرك، باحتقرك. (ظلام) (يضيء ركن المسرح مرة أخرى، يظهر شارع خال في منتصف الليل، وفتاة ترتدي شالا وتخفي جسمها ورأسها وتحتضن طفلا وليدا وملفوفا في لفائف كثيرة، تتلفت حولها في خوف، تضع الطفل بجوار الرصيف وتتركه بسرعة وتجري مختفية وراء جدار، تنتظر وتراقب الطفل وهي تبكي في ألم.) (ظلام) (يعود المشهد حيث كانت حسنية جالسة إلى مكتب منصور تمسح دموعها في أسى وحزن ...
يدخل منصور يمسك زجاجة خمر في يده، ويدندن بلحن أغنية الأطفال الشحاتين، ويغني إحدى فقراتها.)
منصور (يغني) :
عاوز آكل،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب.
فين القلب،
فين الحب،
في دنيا فاضية مافهاش حد؟ (ينتبه إلى وجود حسنية في حجرته، فتبدو عليه المفاجأة.)
منصور :
حسنية؟ انتي هنا؟
حسنية :
انت نسيت ولا إيه يا منصور؟ مش عارف إني جاية؟
منصور :
أيوة صحيح، معلهش يا حسنية، متأسف إني اتأخرت، أنا أصلي اليومين دول في حالة كده مش ولا بد، ثم إني وأنا جاي في السكة قابلت شوية أطفال شحاتين وعمالين يغنوا غنوة حلوة، وصوتهم حلو. وتصوري يا حسنية إن واحد زيي كده محترم برضه يدخل في وسطهم. مش أنا محترم برضه يا حسنية؟
منصور (يغني مرة أخرى) :
عاوز آكل،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب.
فين القلب،
فين الحب،
في دنيا وحشة مالهاش قلب؟
حسنية :
هي الدنيا وحشة ولا الناس هم اللي وحشين يا منصور؟
منصور :
عاوزة رأيي؟ الاتنين أوحش من بعض، ومافيش حد بينظلم فيهم غير الأطفال، الأطفال الصغيرين المساكين اللي بييجوا للدنيا غصب عنهم، ماحدش بياخد رأيهم ويسألهم عاوزين تيجوا ولا لأ، أنا متأكد لو حد سألهم حيقولوا لأ، لو أبويا وأمي سألوني قبل ما يخلفوني عاوز تيجي الدنيا يا منصور، أنا متأكد إني كنت حقول لأ ... إنما نعمل إيه يا حسنية؟ نعمل إيه إذا كان ماحدش بياخد رأينا في حاجة أبدا؟ ماحدش بيحترمنا يا حسنية، الاحترام مفقود، مفقود خالص.
حسنية :
تقصد إيه بالاحترام يا منصور؟
منصور :
أقصد بالاحترام الاحترام، هو فيه كام احترام؟
حسنية :
انت بتسأل السؤال ده يا منصور؟ يظهر واحد تاني اللي كاتب الكلام على المكتب، أو انت زي كل الرجالة؛ يكتبوا حاجة، ويقولوا حاجة، ويعملوا حاجة تانية خالص.
منصور (يتجه ناحية مكتبه وأوراقه) :
انتي شفتي الكلام اللي مكتوب هنا يا حسنية؟
حسنية :
شفته وقريته كلمة كلمة. (منصور يجلس ويمسك رأسه بيده ويصمت فترة.)
حسنية :
يعني مش قادر تقول حاجة!
منصور :
حقول إيه يا حسنية؟ الحقيقة أصلها مفزعة، لما الواحد يشوفها لأول مرة، الحقيقة مخيفة لما تتعرى قصاد عنينا لأول مرة، وعشان كده الناس بتخاف من الحقيقة، الناس بتهرب منها، وأنا كمان زي كل الناس أهرب من الحقيقة. تعرفي يا حسنية ... أنا بخاف من الورق اللي ع المكتب ده، باخاف أقراه تاني، ومتصور أد إيه انتي خفتي لما قريته.
حسنية :
أنا ماخفتش ولا حاجة يا منصور، أنا عارفة نفسي كويس، وعارفة أنا بعمل إيه، صحيح زي ما انت كاتب عني، الدنيا هزمتني وكل الناس فرضوا علي الكدب وهزموني، لكن أنا ما انهزمتش قصاد نفسي، مافيش حد يقدر يهزم حد يا منصور، الإنسان بينهزم يوم ما ينهزم قصاد نفسه.
منصور :
وإمتى الواحد ينهزم قصاد نفسه يا حسنية؟
حسنية :
لما يكدب على نفسه.
منصور :
وانتي مش بتكدبي على نفسك يا حسنية.
حسنية :
لا، أنا بكدب على الناس، بس مش بكدب على نفسي، الناس عاوزة إني أكدب، وإذا قلت الحق يدبحوني، لكن أنا ماكدبتش عليك يا منصور، أنا قلت لك كل حاجة، وشرحت لك كل ظروفي، لكن انت زي كل الناس، كنت عاوزني أكدب عليك، كنت عاوزني أمثل عليك دور واحدة بتحبك، لكن أنا قلت لك أنا مش بحبك يا منصور، وكل اللي عاوزاه منك طفل، طفل يعوضني عن ابني اللي راح وماعرفش هو فين، طفل يدي حياتي طعم ومعنى، حياتي اللي ضاعت مع راجل عجوز عقيم، واللي شجعني على كده إنك قلت إنك بتحبني ومستعد تعمل أي حاجة عشان تسعدني، لكن الكلام اللي انت كاتبه ...
منصور :
انتي مش قولتيلي إن جوزك نفسه في عيل عشان يورثه، وإنه ليل نهار يقولك نفسي في عيل يا حسنية يحمل اسمي ويورث أرضي، وإنه بالأمارة حتى مسميه محمود، محمود علي زكريا المحلاوي، وكل شوية يقولك مش حتجيبلنا محمود يا حسنية؟ (يقلد صوت زوجها )
إمتى حتجيبي محمود يا حسنية؟
حسنية :
أيوة صحيح، جوزي عاوز عيل يحمل اسمه ويورث أرضه، لكن أنا لا عندي اسم ولا أرض، الست غير الراجل يا منصور، الست بتعوز الطفل عشان تحبه وتديه قلبها، لكن الراجل ما يعرفش يعني إيه حب، كل همه مين اللي حيورث، مين اللي حيحفظ اسم العيلة، الراجل بيعوز الأطفال عشان يملكهم ويعلمهم زي ما هو عاوز، الراجل اتعود إنه ياخد ياخد، وما يعرفش يعني إيه يدي، لكن الست بتدي على طول، وبتدي قلبها وحياتها، بس يا خسارة في دنيا ما تستهلش.
منصور :
أنا اديتك قلبي يا حسنية، لكن انتي مش بيهمك القلب ورحتي اتجوزتي واحد غني عشان يفرش لك بيت حلو، ويركبك عربية، ويلبسك فورير، ودستي على قلبي يا حسنية، دستي علي عشان أنا راجل فقير، ولولا إني لسة باحبك ماكنتش أقدر أديك قلبي وجسمي وابني كمان. لكن انتي يا حسنية ... إزاي تدي نفسك كل ليلة لراجل مش بتحبيه؟
حسنية :
الدنيا عاوزة كده يا منصور، الست لما بتحب حق وحقيقة بتضيع يا منصور، والكل يدوس عليها، وأولهم الراجل اللي هي حبته، الدنيا عاوزة الستات يكدبوا عشان يعيشوا، ويا ويل اللي تقول الحق، يا ويلها.
منصور :
ويعني تفتكري الدنيا عاوزة مين يقول الحق، الدنيا مش عاوزة حد يقول الحق، لا ست ولا راجل.
حسنية :
ويعني الدنيا هي مين، ما الدنيا هي الرجالة يا منصور، الرجالة هم اللي مالكين كل حاجة في الدنيا.
منصور :
اللي مالكين، لكن فيهم رجالة لا لهم في الطور ولا في الطحين.
حسنية :
اللي مالهمش بيفضلوا يصارعوا عشان يبقى لهم، واللي لهم بيفضلوا يصارعوا عشان ماحدش ياخد منهم حاجة، وكلهم رجالة في رجالة، إنما الستات بره اللعبة دي خالص، الستات زي البيوت، زي الأطيان، زي الأطفال، زي العقارات، ضمن التركة اللي بيورثها دول أو دول، بيتخانقوا عليها وكل واحد عاوز يملك أكتر وأكتر، اللي مالك واحدة ست عاوز اتنين، واللي عنده اتنين عاوز تلاتة، واللي مالك أرض عاوز عمارة، واللي مالك عمارة عاوز اتنين، واللي ماعندوش طفل عاوز طفل، واللي عنده طفل عاوز اتنين ... الرجالة هم اللي بيملكوا وكل حاجة باسمهم، وعشان كده كل الرجالة مغرورين، والواحد من دول يبقى حافي وماحلتوش حاجة ومايعرفش يفك الخط، إنما لما يمشي جنب مراته يتنفخ زي الديك الرومي ويسبقها بعشر خطوات، ولما تيجي تكلمه ولا تناقشه في حاجة يحط مناخيره في السما ويقولها بغطرسة (تقلد صوت الرجل) : أنا الراجل، مش فاهمة يعني إيه أنا الرجل؟ تعرف يا منصور الراجل جوزي عجوز، واتجوز قبلي اتنين ولا خلفش، وكل واحدة اتجوزها يقولها العيب منك، ويبعتها للدكاترة تكشف، وللمشايخ عشان يعملوا لها أحجبة عشان تخلف وبرضه مافيش، ولما اتجوزني عمل معايا كده، وواحد من الدكاترة قالي هاتي جوزك يكشف، ورحت قلت له، تعرف حصل إيه؟
منصور :
حصل إيه؟ (يضيء المسرح في الركن.
يظهر زوج حسنية (رجل غليظ فظ)
يقف أمام زوجته حسنية غاضبا، يصفعها على وجهها صفعة قوية، ويقول بصوت غاضب غليظ ...)
زوج حسنية علي زكريا المحلاوي :
إزاي تتجرئي وتقولي كلام زي ده، أنا أروح أكشف؟ أنا راجل، فاهمة يعني إيه راجل؟ ومش ممكن العيب من الراجل، روحي دوري على نفسك، شوفيلك دكتور عدل يعالجه، ولا شوفيلك شيخ من المشايخ، ولا زار زي كل الستات اللي زيك.
حسنية :
كده تضربني يا علي! هو أنا قلت لك حاجة، مش بقولك كلام الدكتور؟
الزوج (في غضب) :
عاوزة تقولي إيه أكتر من كده؟
حسنية :
أنا باقترح عليك اقتراح يا علي.
الزوج :
اقتراح؟ اقتراح إيه يا ست؟ تقولي إنك بتفكري وعندك مخ؟ الستات ناقصات عقل ودين يا هانم، الاقتراحات بتاعتك دي خليها في المطبخ، في تنظيف البيت، في تفصيل الفساتين. (بسخرية)
اقتراح آل،
فلوسه على أكلهم وشربهم وجزمهم وفساتينهم. (يطفأ النور في الركن.
يعود المشهد إلى حسنية ومنصور.)
حسنية :
كل يوم يا منصور يعايرني بالمصروف اللي يدهولي لما طهقت وعاوزة أسيبله البيت وأمشي، لكن أروح فين؟ ماليش حد، وماحدش دلوقت بقى بيستحمل حد ... وماليش شغلة آكل منها عيش، لو كنت كملت تعليمي واشتغلت كنت استغنيت عن راجل بالشكل ده، لكن أعمل إيه يا منصور، أبويا طلعني من المدرسة ومارضاش يخليني أكمل. (تبكي في ألم وأسى.
منصور صامت يفرغ كأسا ويشربه، ثم يفرغ كأسا آخر.)
حسنية :
ياما فكرت إني أتعلم حرفة، أي حرفة؛ خياطة، تفصيل، تطريز، تدليك، تكفين، تغسيل، أي حاجة، أي حاجة أحسن ما أمد إيدي لجوزي كل يوم وآخذ المصروف، أكتر حاجة بتذل البني آدم إنه عاوز ياكل. وإذا كان بإيد غيره يعمل إيه يا منصور؟
منصور (يبتسم في سخرية) :
كلامك تمام بالضبط زي كلام واحد صاحبي، دكتور بيقول نفس الكلام، نفس المشكلة، هو برضه عايش في ذل عشان عاوز ياكل ويوكل ولاده، كل يوم يكدب كدبة آد كده هو، ويموت ناس آد كده هو، ويقول لي أعمل إيه يا منصور، عاوز آكل وأوكل ولادي.
حسنية :
يا خي جته السم يهري مصارينه ومصارين ولاده، ده الدكاترة دول ماحدش يغلبهم أبدا، كل فلوس البلد في جيوبهم، وياما خدو مني، مرة نفخ، ومرة كحت، ومرة أشعة، ومرة كهربا ولادة. لازم صاحبك ده مش دكتور بصحيح.
منصور :
لا هو دكتور بصحيح، لكن أصل حكاية الأكل دي حكاية واسعة قوي، كل واحد بيشوفه شكل، فيه واحد عنده الأكل صنية مكرونة بالباشمل سخنة من الفرن ومعاها حتة لحمة أو حتتين أو حتة كبدة طرية، بصراحة كدة يا حسنية أنا مش بافهم حكاية الأكل دي أبدا، وعشان كدة لا فهمك ولا فاهم توفيق صاحبي، الأكل عندي مش مشكلة، المشكلة الحقيقية في نظري هي الشرب. أنا ممكن أعيش من غير أكل، والله يا حسنية أقسم بالله إني أعيش تلات أيام أو أربعة من غير أكل أو على رغيف عيش وحتة طعمية، إنما الشرب يا حسنية، أجيب شرب منين؟ أجيب أزايز منين؟ ومن غير أزايز أعيش إزاي يا حسنية؟
حسنية :
وبتشرب يا منصور؟
منصور :
أي حاجة، الموجود، أنا مش بادقق، أي حاجة تشيل القشرة الفوقانية (يشاور على رأسه )
أي حاجة، وأنا نفسي حلوة، طول عمري نفسي حلوة يا حسنية. (يتجول في الحجرة وهو يترنح.)
منصور (بصوت يكاد يكون منهارا) :
تعرفي يا حسنية، أنا عمري ما ذليت نفسي لحد عشان لقمة العيش، عمري ... أنا منذلتش أبدا يا حسنية إلا لما بقيت أشرب، مافيش غير الشرب، لكن أعمل إيه؟ الشرب بيخليني أقدر أحتمل ... بيخليني أقدر يا حسنية ... أقدر أحافظ على نفسي، أقدر أحافظ على الحتة اللي فاضلة من نفسي. (صوته ينهار)
انتي أقوى مني يا حسنية، انتي أحسن مني، انتي لسة بتقاومي ... كل الناس فرضوا عليكي الكدب وهزموكي، لكن انتي بتقاومي، لسة مانهزمتيش قصاد نفسك، لكن أنا انهزمت يا حسنية، أنا خلاص انهزمت ... مافيش حد في الدنيا قدر يهزمني ... مافيش حد يقدر يهزم حد زي ما قلتي، الإنسان بينهزم لما ينهزم قصاد نفسه. (يفرغ آخر كأس من الزجاجة ويشربه. يفرغ آخر قطرة.
حسنية صامتة تنظر إليه في تأثر وألم.)
حسنية :
أنا كنت غلطانة يا منصور، انت أحسن مني. أنا بعت نفسي لجوزي عشان آكل كويس، وألبس كويس، وأعيش في بيت كويس ... لكن كل ده مالوش قيمة جنب إن الواحد يبيع نفسه. كل الكلام اللي انت كاتبه عني صح يا منصور، انت كتبت الحقيقة، والحقيقة زي ما انت قلت مفزعة لما الواحد يشوفها لأول مرة، أنا بعت نفسي، ولسة لغاية النهاردة بابيع نفسي لراجل ما بحبوش. لكن انت يا منصور، انت عمرك ما بعت نفسك، وعشان كده كنت دايما باهاجمك، كنت باخاف منك يا منصور، طول عمري أخاف منك، اللي باع نفسه دايما يخاف من اللي لسة ما باعاش، وكل ما يشوفه يحس بنقص ويتمنى بينه وبين نفسه إنه يبقى زيه بس ما يقدرش، ويمكن ده السبب اللي خلاني عاوزة أجيب منك طفل يا منصور، ماكنتش قادرة أبقى زيك، وقلت على الأقل ابني يكون زيه. (تقترب منه وتنظر إليه في حب.)
حسنية :
أنا باحبك يا منصور، عرفت دلوقت بس إني باحبك، وعرفت إنك الوحيد اللي حبيته، مافيش حد حبني غيرك يا منصور، ماحدش أداني قلبه غيرك يا منصور، كلهم كانوا بينهشوا في زي حتة لحمة، ماحدش خلاني أحس إني إنسانة غيرك، انت اللي اديتني قلبك، قلبك الغالي اللي زي الذهب.
منصور :
قلب الفقير مهما غلي رخيص يا حسنية.
حسنية :
القلب اللي يقدر يحب صحيح هو القلب اللي مالوش حاجة، اللي مش خايف على حاجة في الدنيا، القلب اللي مش عاوز حاجة، مش عاوز ياخد ولا يملك ولا يتملك، وعشان كده بيبقى قلب كبير بيساع الدنيا ويفرد دراعاته ويحس إنه مالك الدنيا، أصل الدنيا ما لهاش صاحب يا منصور، واللي مالوش حاجة فيها هو اللي بيملكها، وعشان كده كنت باحسدك وأقول يا رتني زيك، ويا رتني أبقى زيك، ويكون لي ابن زيك. (تقترب منه أكثر)
أنا باحبك يا منصور، باحبك (تعانقه وتبكي) . (ظلام)
الفصل الثالث
المشهد الأول (المسرح خال ومظلم، موسيقى بطيئة وحزينة، ضوء خفيف يظهر منه مدخل المسرح من ناحية اليمين، يظهر في الضوء تمورجي حاملا نقالة جسم مغطى بملاءة، تمورجي آخر يحمل النقالة من الناحية الأخرى.
يجتازون المسرح ببطء مع الموسيقى الحزينة، يخرجان من الناحية اليسرى.
يختفي الضوء ويصبح المسرح مظلما تماما.
ضوء خفيف يظهر من ناحية اليمين، وامرأة ترتدي السواد تجري بسرعة كالمذهولة، ومن خلفها أطفال صغار يجرون خلفها، يخرجون من الناحية اليسرى.
يختفي الضوء، المسرح مظلم وخال.
يسمع صوت نحيب مكتوم، وصرخة طفل صغير يبكي.) (ظلام)
المشهد الثاني (ظلام) (يسمع صوت السوط وهو يضرب بشدة، وصوت رجل يئن من الألم.)
صوت السجان :
قول مافيش.
صوت شهدي :
فيه.
صوت السجان :
قول مافيش.
صوت رجل آخر :
فيه.
صوت السجان :
مافيش.
صوت رجل آخر :
فيه ... فيه. (يسمع صوت السوط وهو يضرب.) (ظلام) (شهدي راقد على الأرض مقيد القدمين، إلى جواره رجلان آخران مقيدان. السجان واقف بعصاه الغليظة يراقبهم من بعيد.)
أحد الرجلين (بصوت ضعيف) :
يظهر مافيش فايدة يا شهدي.
شهدي :
فيه فايدة.
الرجل (يشاور على السجان) :
وده يا شهدي، وده اللي نازل فينا ليل نهار، الأيام والليالي بتفوت يا شهدي ومافيش أي أمل بيبان في الجو، مافيش حاجة بتتغير.
شهدي :
إزاي مافيش حاجة بتتغير؟ هو صحيح نازل ضرب فينا، لكن هو واحد وفاضل واحد، إنما احنا بقينا تلاتة، وبكرة نبقى أربعة، كل يوم جديد حيجيلنا واحد جديد، واحنا بنكتر، لكن هو فاضل واحد، وحيفضل واحد.
الرجل :
خايف على ولادي يمشوا في الشوارع يشحتوا يا شهدي.
شهدي :
ما تخافش، مافيش حد بيموت من الجوع، الناس بتموت من الخوف والذل. (ظلام) (يسمع صوت السوط وهو يضرب.)
صوت السجان :
قول مافيش.
صوت الرجل :
فيه.
السجان :
مافيش.
الرجل :
فيه. (ظلام)
المشهد الثالث (سور حديدي يقسم المسرح نصفين.
المسرح مظلم، ثم يظهر ضوء قوي في النصف الأيسر من المسرح، ويظهر باب أنيق مغلق بالجوخ الأخضر، عليه رقعة نحاسية لامعة كبيرة جدا مكتوب عليها «المدير»، ولمبة حمراء فوق الباب، أمامه باب آخر أنيق عليه رقعة نحاسية أقل حجما من الرقعة السابقة، مكتوب عليها «مدير المكتب»، ولمبة حمراء فوق الباب، ثم باب ثالث عليه رقعة أقل من السابقة كتب عليها «السكرتير الفني»، ثم باب رابع عليه رقعة أقل من السابقة كتب عليها «السكرتير الإداري».
حجرة مكتب السكرتير الإداري تظهر وبها مكتب أنيق وتليفونات، السكرتير الإداري جالس إلى المكتب، يرتدي بدلة أنيقة وكرافتة، يتحدث في التليفون ويبدو عليه الانهماك والاضطراب والغضب.)
السكرتير الإداري في التليفون :
يعني إيه الكلام ده يا أستاذ عبد السميع، انت المسئول عن المصنع وعن انتظام العمل فيه، يعني إيه فيه وفد عاوز يقابل البيه المدير، اللي عنده شكوى يكتبها على عرضحال وعليه دمغة بعشرة قروش ويديهالك وانت تجيبهالي وأنا أعرضها على السيد السكرتير الفني وهو يعرضها على سامي بيه، وإذا سامي بيه شاف إنها تستاهل العرض على البيه المدير حيعرضها. (يضاء النصف الأيمن المسرح، ويرى مكتب حجرة الأستاذ عبد السميع، نحيل وغارق في عرقه واقف وراء مكتبه يتكلم في التليفون في اضطراب وخوف. باب حجرة عبد السميع مغلق، ومن راء الباب يقف شرطي أمام حاجز على شكل كردون، من ورائه يقف جمهرة من العمال والعاملات بالمصنع تتوسطهم زكية.)
عبد السميع (في التليفون، يجفف عرقه) :
يا فندم أنا قلت لهم الكلام ده ماحدش راضي يسمعني، هم مصرين على مقابلة البيه المدير، وعددهم كبير يا فندم، وبيقولوا إنهم مندوبين عن كل عمال المصنع. المسألة باين خطيرة يا فندم، وأنا مش عارف أعمل إيه. (العمال والعاملات يتحدثون بعضهم مع بعض، ويبدو عليهم الانفعال والغضب، وزكية بينهم.)
زكية (تخاطب الشرطي) :
حنقابل المدير يعني حنقابل المدير، بالذوق والعافية حنقابل المدير، حكاية العرضحال دي عملناها ولا نفعتش، كل حاجة جربناها ولا نفعتش.
أحد العمال :
مش ممكن نستنى أكتر من كده، الصبر له حدود يا ناس.
عامل آخر :
المصنع ضالمة ورطوبة وكله عيا وصحتنا عدمت.
عاملة :
كل واحد فينا يقع ويموت ويسيب عياله جعانين في الشوارع.
اسمع يا شاويش، احنا بقى لنا ساعة واقفين على الباب، يا تفتحه وندخل، يا نزؤه ونكسره.
الشرطي :
اصبروا يا ناس، الصبر طيب.
زكية :
نصبر لغاية ما نموت ولا إيه؟ افتح الباب ده يا شاويش، لازم نقابل المسئولين (بعض العمال يدقون بأيديهم على الباب بقوة) . (الأستاذ عبد السميع يخرج إليهم.
يتظاهر أمامهم بالحزم والغطرسة ليسيطر عليهم.)
عبد السميع :
إيه الهيصة دي؟ ده اسمه شغب، ده اسمه خرق للنظام، كل واحد يروح ورا المكنة بتاعته يشتغل، واللي له شكوى يكتبها ويجيبهالي.
زكية :
المرة اللي فاتت اختارنا عننا أربع مندوبين، راحوا فين يا أستاذ عبد السميع؟ مش تاني يوم طلع لهم قرارات فصل؟!
عبد السميع :
ما انتم أصلكم لم تحسنوا الاختيار، انتم عارفين البيه المدير مش بيحب المشاغبين، بيحب كل حاجة تتم في هدوء.
عامل :
هدوء إيه يا أستاذ! إحنا بنموت.
عامل آخر :
ولادنا جعانين وعريانين.
عامل آخر :
كل يوم نلم فلوس من جيوبنا لبيوت زمايلنا اللي ماتوا.
عامل :
واللي اترفدوا.
عاملة :
واللي اتمسكوا.
عامل (بصوت قوي) :
لنا مطالب لازم تتحقق. (يرد عليه العمال الباقين بصوت قوي واحد على شكل هتاف):
لنا مطالب لازم تتحقق.
نريد العدالة،
نريد الحرية.
أين حقوق الإنسان؟! (ظلام) (يضاء النور في مكتب السكرتير الإداري في النصف الأيسر من المسرح.
السكرتير الإداري جالس إلى مكتبه، تقف أمامه زكية وثلاثة من العمال.)
زكية :
المصنع شغال بدراعاتنا وبينتج وبيجيب فلوس، مين قال مافيش فلوس؟ فيه فلوس مش مافيش، إنما هي فين؟ ومع مين؟ وبتتصرف في إيه؟ وعلى مين؟
عامل :
الناس الغلابة اللي زينا مالهومش حاجة، الواحد منا يموت ويترمي وماحدش يرعى ولاده.
زكية :
إنما فيه ناس تانيين غاليين، غاليين قوي، كل حتة فيهم غالية، بيوتهم غالية، ولادهم غالية، هدومهم غالية، ضوافرهم غالية، اللون اللي بيدهنوا به ضوافرهم غالي، كحتهم غالية، الواحد من دول يكح كحة واحدة بس يصرف عليها آلافات، إنما احنا ... احنا نحيا ونموت بالكوم، ولما نطالب بحقوقنا تقولنا مافيش فلوس.
السكرتير الإداري :
أنا ماقلتش مافيش فلوس يا ... انتي قولتلي اسمك إيه؟
زكية :
زكية إبراهيم.
السكرتير الإداري :
أنا قلت يا زكية إن المطالب بتاعتكم حتكلف الإدارة فوق طاقتها، وانتم عارفين إن احنا في الإدارة عندنا متخصصين في كل حاجة، عندنا دكاترة متخصصين عشان حالة العمال الصحية، وعندنا مهندسين، وعندنا مخططين بيرسموا الخطط المدروسة. المسائل ماتجيش كده بالعافية، فيه نظام، وفيه تخطيط، وفيه علم. علم، عارفين يعني إيه علم؟!
زكية :
العلم ده بيتعلموه فين؟
السكرتير :
في المدارس والكليات طبعا.
عامل :
يعني كلهم شهادات عالية.
السكرتير :
أيوة، هم دارسين مشاكل المصنع، ودارسين مشاكلكم كويس خالص، ومافيش داعي أبدا للهيصة اللي انتم عاملنها دي.
زكية :
بقى لك سنين تقولنا الكلام ده، ماحدش بيعرف مشاكل حد يا أستاذ، احنا اللي عارفين مشاكلنا، احنا اللي إيدنا في النار وحاسين بحالتنا. احنا صحيح مش معانا شهادات عالية، بس عارفين وحاسين، المدارس مش بتعلم ... الدنيا هي اللي بتعلم، التعليم اللي بيخدوه في المدارس مش تعليم، دي كلها محفوظات بيحشوا بيها روسهم زي الكوسة لما تنحشي بالرز، ويفضل إحساسهم زي ما هو إحساس مش متعلم، إحساس ما عندوش إحساس، ما بيحسش، ما يحسش حاجة غير نفسه، غير جسمه هو بس، ما يحسش إلا الإبرة اللي تتغرز في جسمه، إنما الإبر اللي تدخل أجسام غيره ، السكاكين اللي تقطع بيها أجسام غيره، هو ما يحسش بيها.
السكرتير الإداري (غاضبا) :
إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟ انتي فقدتي عقلك ولا إيه؟
زكية (غاضبة) :
أنا مافقدتش عقلي، انتم اللي فقدتم إحساسكم، انتم اللي عارفين إن فيه زرقا في المصنع بتاكل فينا وساكتين، وماحدش فيكم بيرضى ينزل المصنع، حتى الدكاترة بيخافوا يمروا في المصنع، كلكم عارفين وساكتين، عشان انتم بعيد، والزرقا مش ممكن تطولكم، الزرقا مش ممكن توصل لغاية مكاتبكم أو بيوتكم أو أولادكم. (السكرتير يضغط على الجرس، يدخل ثلاثة من السعاة واثنين من الموظفين.)
السكرتير :
أنا لا أسمح إن واحدة عاملة زيك تكلمني بالطريقة دي.
عامل :
تسمح إيه أو ماتسمحش إيه يا أستاذ؟ احنا حياتنا مهددة.
السكرتير :
كرامتي لا تسمح أبدا بالتهزيء ده.
عامل :
كرامتك إيه يا أستاذ دلوقت؟ بنقول فيه ناس بتموت!
السكرتير (يخاطب الموظفين) :
الأربعة دول يحولوا إلى التحقيق فورا.
زكية :
تحقيق إيه يا أستاذ؟
السكرتير :
أي كلمة زيادة ححولك على المحكمة التأديبية.
زكية :
هي التأديبية دي تطلع إيه يا أستاذ؟ احنا ناس مالناش حاجة، وعشان كده مش بنخاف، حنخاف على إيه، اللي لكم خدوه، واحنا اللي لنا حانخده، بالذوق حانخده، وبالعافية حانخده.
العمال الثلاثة :
فين العدالة؟ (السعاة والموظفون يدفعون زكية والعمال الثلاثة نحو الباب.)
العمال الثلاثة :
فين العدالة؟ (يظهر د. توفيق عند الباب هذه اللحظة.
زكية وتوفيق يقفان لحظة متواجهين صامتين، تتركه وتسير مع العمال والسعاة والموظفين، يخرجون جميعا ويبقى السكرتير الإداري وحده في مكتبه وأمامه د. توفيق.)
السكرتير الإداري :
العاملة دي باين عليها تعرفك يا د. توفيق، انت تعرفها؟
د. توفيق :
لا أبدا، يمكن شفتها في المصنع مرة وأنا بامر. ليه؟ فيه حاجة؟
السكرتير :
لا أبدا ولا حاجة، شوية مشاغبين وحنعرف نأدبهم، أي خدمة يا د. توفيق؟ سيادتك عاوز تقابل سعادة المدير؟
د. توفيق :
أيوة، فيه لجنة فنية.
السكرتير :
اتفضل على طول، اللجنة مجتمعة جوه وهو منتظر سيادتك.
د. توفيق :
متشكر (توفيق يزرر الجاكتة قبل أن يدخل ويشد الكرافتة حول رقبته) . (ظلام)
المشهد الرابع (السور الحديدي يقسم المسرح إلى قسمين، القسم الأيسر به حديقة وكراسي مريحة ومنضدة وسلم رخامي يقود إلى منزل من منازل الأثرياء.
النصف الأيمن شارع ورصيف، وصفيحة قمامة مقلوبة.
المسرح مظلم.
يضاء النصف الأيسر من المسرح وتظهر حسنية بملابسها الأنيقة جالسة على فوتيل في الحديقة، وإلى جوارها زوجها، وبجوارهما عربة صغيرة من عربات الأطفال داخلها طفل.
حسنية تلاعب الطفل، تأخذه من العربة وتحمله بين ذراعيها وتلاعبه.)
حسنية :
تعرف إنه شبهك تمام يا علي، العينين والمناخير.
الزوج (ينظر إلى الطفل ويداعبه في سرور ...) :
سبحان الله، مع إن كل الناس بيقولوا إنه شبهك انتي يا حسنية.
حسنية :
الحقيقة بقى يا علي، هو مشكل، هو أخد الحجات الحلوة اللي في، والحجات الحلوة اللي فيك، وعشان كده طالع قمر ... قمر والله. (تهشك الطفل وتداعبه في سرور.
يضيء النصف الأيمن من المسرح.
يظهر منصور في الشارع سائرا كالهائم على وجهه بملابسه التي تنم عن الفقر، وحركاته التي تنم عن السكر، يعبث بقدمه في القمامة، يعثر على عقب سيجارة، يلتقطها ويدخنها. يسير بخطوات بطيئة مترنحة، يدندن ويغني.)
منصور :
فين الناس، فين الناس، أنا وحيد.
عاوز حد،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب. (يقابل الأطفال الشحاذين، يبحثون في القمامة عن لقمة، يجرون وراء المارة ويشحذون وهم يغنون.)
الأطفال (يغنون) :
حسنة يا سيد،
حسنة يا ست.
احنا يتامى،
واحنا غلابة،
مالناش حد.
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
مليان حب. (أحد المارة يلقي لهم قرشا، يجرون إليه.
الطفل سعيد يضع قدمه على القرش وينضم إليه بعض الأطفال منهم حسن ابن زكية.)
الطفل سعيد (يغني مع فريق) :
اوعى إيدك تتمد.
ارفع ضهرك،
ارفع راسك،
واوعى إيدك تتمد.
ارفض، اغضب، ثور،
واوعى تقول:
حسنة يا سيد،
أو حسنة يا ست. (يظهر الطفل حسن (ابن زكية) بين الأطفال، يرى منصور سائرا، يناديه ويجري إليه.)
الطفل حسن :
عم منصور، عم منصور.
منصور :
انت مين يا ابني؟
حسن :
أنا حسن ابن زكية.
منصور :
ازيك يا حسن يا ابني، وإزاي أمك زكية.
حسن :
أمي بقى لها كام يوم ما رجعتش البيت يا عم منصور، مش عارف راحت فين!
منصور :
حتروح فين يا ابني، لازم حترجعلك بعد شوية.
حسن :
أنا خايف يكون جرى لها حاجة يا عم منصور، دي عمرها ما غابت كده.
منصور :
زكية أمك قوية وجامدة زي الحديد، عمر ما يجرى لها حاجة يا ابني، ما تخافش عليها يا حسن، بكره ترجع ومعاها حاجات كتير. وانت خلي بالك من نفسك واوعى تشحت مع العيال يا حسن. (حسن يجري وينضم إلى العيال.)
الأطفال (يغنون) :
حسنة يا سيد،
حسنة يا ست.
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
في قلب حنين،
يدينا حب.
حسن (يغني مع سعيد وفريقه من الأطفال) :
ما تقولش يا سيد،
ما تقولش يا ست،
واوعى إيدك تتمد.
ارفض، اغضب، ثور.
ودايما قول:
لا لا مش ممكن،
مش ممكن أشحت من حد.
الأطفال (يردون بالغناء) :
احنا يتامى،
احنا غلابة،
عاوزين ناكل،
عاوزين ندفى،
مالناش حد. (يظلم نصف المسرح الأيمن ويختفي الأطفال.
يظهر نصف المسرح الأيسر، وتظهر حسنية بجوار سور الحديقة تحمل طفلها وتداعبه. زوجها جالس في فوتيل، وأمامه على المنضدة فنجان قهوة، يشرب ويراقبها في سرور.
منصور سائر في الشارع يترنح، يرى حسنية من خلال السور الحديدي، يقف كالمذهول، يرى الطفل بين يديها.
حسنية تنظر إليه في خوف، تضم طفلها بين ذراعيها وتبتعد عن السور متجهة ناحية زوجها.)
الزوج :
إيه! فيه إيه يا حسنية؟
حسنية :
لا أبدا يا علي، مافيش حاجة.
الزوج :
مين ده الواقف جنب السور؟
حسنية :
لازم واحد غلبان عاوز حسنة ولا حاجة.
الزوج :
اديله قرش ولا الاتنين عشان ربك يبارك لنا في ابننا محمود. (الزوج يخرج من جيبه قرشا وينهض ويسير إلى السور، ويسقط القرش في يد منصور، القرش يسقط على الأرض.
الأطفال الشحاذون يجرون ويلتقطون القرش.
يظلم نصف المسرح الأيسر، وتختفي حسنية والطفل والزوج، يظل منصور ممسكا بالسور كالمذهول، يبدو عليه التأثر والحزن والدموع في عينيه.
يجلس على الرصيف.
الأطفال الشحاذون يحيطون به.)
أحد الأطفال (يناوله القرش الذي سقط) :
القرش ده نصيبك يا عم. (حسن يجلس إلى جوار عم منصور ويرى دموعه وذهوله.)
حسن :
مالك يا عم منصور؟ باين عليك تعبان، ياللا بينا نروح، يمكن نلاقي أمي رجعت البيت. (حسن يساعد منصور على النهوض، ويسيران معا، يقف فجأة.)
حسن :
سامع يا عم منصور؟ (يسمع صوت هتاف قوي يأتي من بعيد): فين العدالة؟ فين العدالة؟ (منصور يتحمس ويبتسم ويعود إليه بعض النشاط.)
حسن :
سامع يا عم منصور؟ سامع؟
منصور :
أيوة يا ابني، سامع.
حسن :
ياللا بسرعة يمكن أمي رجعت. (يشد منصور من يده ويسيران بحماس.) (النهاية)
Page inconnue