أسواق العرب في الجاهلية والإسلام
أسواق العرب في الجاهلية والإسلام
Maison d'édition
-
Numéro d'édition
-
Genres
المقدمات:
مقدمة الطبعة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أقدم الطبعة الثانية من كتابي "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" منقحة، مزيدا فيها فوائد عزيزة غزيرة، آملا أن يكون لي نصيب -ولو ضئيلا- في سدّ فجوة من الفجوات في تاريخنا الحبيب. والحق، إن الطبعة الأولى كأنها لم تكن؛ إذ لم يطبع للبيع إلا ثلاثمائة نسخة استنفدت دمشق حينئذ كلها تقريبا.
ووددت لو استطعت الإشراف على هذه الطبعة، ولا أظن الدار التي ستنشر الكتاب إلا باذلة جهدها في أن تفضُل هذه الطبعة سابقتها صحة وجمالا.
ولا يسعني -في هذه المناسبة- إلا شكر العلماء والأدباء من العرب والمستشرقين الذين استقبلوا الطبعة الأولى من الكتاب استقبالا ما كنت أطمع ببعضه، حامدا لهم عنايتهم ببحوثه وثناءهم على صاحبه، مقدرا حسن ظنهم واقتراحاتهم المشكورة أحسن تقدير، وأخص بالذكر صديقي العلامة المرحوم المستشرق سالم الكرنكوي "فريتز كرنكو" فقد لقيت من نبله في خدمة العلم ما أتمنى أن نتحلى به جميعا.
هذا، وقد أبقيت المقدمة على حالها وإن رغب إليّ بعض المستشرقين في حذفها؛ لأنها تفتح العيون على حملة منظمة علينا، متعددة الميادين، ولهم هم أنفسهم دور ناجح في أحد ميادينها، أبقيتها لأنها تؤرخ نواحي اجتماعية
1 / 3
واقتصادية وسياسية في حياة الشام في غمرة من الغمرات، وتشير إلى ظاهرة روحية قلقة سادت البلد إِبَّان قيام "سوق دمشق ومعرضها عام ١٩٣٦م"، ثم هي في الوقت نفسه تاريخ "لظروف" تأليف الكتاب.
والله أسأل أن يجعلنا أبدا مفيدين مستفيدين، ويرزقنا الإخلاص والسداد.
دمشق ١٣٧٩هـ
١٩٦٠م سعيد الأفغاني
1 / 4
بين يدي الكتاب:
سبق لمدينة دمشق، أن أقامت سنة ١٩٢٧م معرضا للثمار والفواكه، افتتح يوم الاثنين ثاني عشر تشرين الثاني، دام خمسة أيام واشترك فيه "١٥٠٠" عارض من مختلف بقاع الشام "سورية"، وكان أثره في نهضة الزراعة وانتعاشها مباركا محمودا: علَّم الزراع ما لم يكونوا يعلمون، وحمل إلى الناس ما تنتج أرض الوطن في مختلف البقاع من ثمار تتشابه في النوع وتتباين في الصفة، فأغنى الناس بعض الإغناء عن رحلة زراعية واسعة في البلاد السورية، ووفر عليهم زمنا ومشقة وأموالا، وخطا في سبيل تعليم الجمهور خطوة ميمونة العاقبة. ورأى فيه الزارعون من يعنى بهم ويريد لهم الخير واطراد الرقي، وتسابق فيه العارضون وفاز المعتنى بثماره منهم بجوائز المعرض، وزاره من الرجال والنساء والأطفال ما يزيد عددهم على الأحد عشر ألفا١.
ثم أقامت معرضا ثانيا للصناعات الشرقية في المجمع العلمي العربي "المدرسة العادلية في باب البريد" افتتح يوم الثامن من آذار سنة ١٩٢٨م، فخصصت الردهة الكبرى للآثار الشرقية الحديثة، ولم يسعف الزمن القصير أن تشترك فيه مدن الشام فاقتصر على دمشق، وكان ما عرض فيه "٦٢٧" من القطع المنوعة من "السجاد والنحاس والأخشاب والأسلحة والمخطوطات والجلود والصور والأقمشة وكل ما هو
_________
١ انظر التقرير الذي رفعه رئيس لجنة إدارة المعرض إلى وزير الزراعة والتجارة يومئذ، السيد نصوحي البخاري.
1 / 5
من الفنون الجميلة". و"كان الإقبال على معرض الصناعات فوق ما كان يرجى؛ وذلك لتعطش الجمهور لمثل هذه المظاهر الفنية والصناعية واهتمامه بالنهضة الاقتصادية. وقد زار المعرض نيف وأربعون ألفا خلال ثمانية الأيام "٨-١٥ حزيران" التي ظلت أبوابه مفتحة فيها، منهم ثلاثة عشر ألف سيدة". و"كانت نتائج المعرض مرضية محسوسة، شعر بها من عرضوا مصنوعاتهم في القاعتين الخاصتين بالنفائس والأعلاق النفيسة"١.
والمعرض الشامي الثالث كان للصناعات الوطنية، أقيم في صرح الجامعة السورية، في شهر آب سنة ١٩٢٩، وعرض فيه مصنوعات المناسج على اختلافها والمصابغ والمطابع والمطاحن والمزايت والمصابن عدا النفائس الشامية من القطع الخشبية والنحاسية والمصوغات، هذا إلى ما اشتهرت به دمشق من عمل "السكاكر" والمربيات والزجاج ... إلخ. وكان الإقبال على هذا المعرض أكثر من سابقيه؛ لشموله أكثر صناعات الشام واشتراك مدن سورية الشمالية. وقد تجلت فيه مواهب العرب في سورية، واستعدادهم للإسهام في الصناعات العالمية. وقوي الأمل في أحفاد من أقاموا بأيديهم وفكرهم وجهودهم، المجد الصناعي لقرطبة وبغداد ودمشق ومصر، يوم لم تكن صناعة إلا صناعتنا ولا حضارة إلا ما تنعم به الإنسانية على يدنا وبمسعانا.
وفي ربيع هذا العام "١٩٣٦م" قامت الاستعدادات على قدم وساق لإنشاء معرض عام يمثل ذكاء العربي وتقدمه في جميع المناحي. وقد وافق هذا التأهب كلبا من الزمان، وحربا من العدو، وفقرا
_________
١ انظر التقرير الخامس بأعمال المجمع العلمي العربي سنة ١٩٢٨ ص٣٨.
1 / 6
عاما، ومصيبة شاملة، فكان الناس مشغولين بذوات أنفسهم عما سواها، فالسماء شحيحة ما تبضّ بقطرة، والأرض مجدبة ما تهتزّ عن خضرة، والموارد ناضبة لا تسعف، وأجزاء البلاد يُرْجى فيها السموم وتبث بينها العقارب، حتى خبطتها فتنة عمياء تنكّر فيها الساحلي للداخلي، وتجهّم العربي للعربي، رغم الدم الصارخ في عروقهما من الفرقة، الداعي لهما إلى الألفة والاتحاد. وغذّى هذا الشر أناس أقيموا ليهدوا الناس إلى الخير والأخوة والمحبة والسلام، فكانوا دعاة للشر وعمالا على الإفساد والتفريق والشفاء. وجعلوا من الدين الذي أنزله الله ليزيد الأواصر قوة والوشائج لحمة، ويفيض على القربى والرحم محبة ورحمة، وتعاونا وعطفا ... جعلوا من هذا الدين وسائل سافلة تستغل سذاجة العامي الغفل، وتموّه عليه السم بالدسم؛ ليسعى إلى حتفه بظلفه، ويقتل نفسه وأخاه معا.
بهذا اشتغل الناس يومئذ وحق لهم الشغل والتفكير في هذه القطيعة المجرمة، إذ متى عاش رأس بلا جسم وهل استغنى قلب عن وريد وشريان، وأين شرع الله للجارين من جنس واحد أن يعملا على شقائهما معا، ويسعيا إلى التعس السعي الحثيث، ويزجا بأعقابهما وذراريهما من بعدهما في العذاب الأليم والانقراض المحتم؟ ثم يعملان في أبدانهما سلاحا دسه العدو في أيديهما، وهو يتربص بكليهما الشر ليسود دارهما وحده لا شريك له١.
في غمرة هذه النزوات الطائشة، وفي شدة مقاومة المقيد الذي شعر أنه إنما يساق إلى الموت، وهو أشد ما يكون تعشقا للحياة وتمسكا
_________
١ أما الآن في سنة ١٩٦٠ فقد أزال الله الأجنبي، فزال بزواله أكثر ما بذر من أسباب القطيعة وعاش الإخوان -كل في داره- جيرانا متحابين.
1 / 7
بحبالها، قام "معرض دمشق وسوقها" وأعلن في أقطار الشرق موعد افتتاحه! فاعجب إن كنت عاجبا لهذه الأمة الكريمة التي تنبض عروقها قوة غريبة وحيوية عنيفة، إنها لم تشغلها مصيبة عن واجب؛ فما أهاب بها الداعي حتى هبت هبة واحدة تنظم معرضها وتمده بكل ما في بقاع الوطن من تحفة فريدة في بابها. وزحفت صناعات الشام تتمثل في المعرض للعالمين، وازدهى هذا المعرض بعبقرية الوطن تتجلى في الفكر الخصب، واليد الصناعة.
افتتح المعرض مساء الأحد الحادي والثلاثين من حزيران سنة ١٩٣٦م، في مدرسة التجهيز الجديدة، حيث أجمل بقعة في دمشق وأنزهها وأحفلها بآثار العرب في القديم والحديث. فصروح الجامعة السورية الحديثة وبناء دار الآثار ونزل "خوام" عن يمين بردى ... إلى جانب القباب الأثرية والمآذن الشاهقة، تلك تقفك على نشاط العربي ابن العصر العشرين، وهذه تذكرك بعنفوان مجده في القديم.
ومن غريب الاتفاق أن تقوم معارض دمشق الثلاثة، في المجمع العلمي العربي "كان"، والجامعة السورية، ومدرسة التجهيز؛ أكبر المعاهد العلمية وأعودها بالخير على البلاد، لتثير في الناس أثرين مزدوجين، يرتبطان أشد الارتباط ولا ينفكان، مرتبطين أبدا أو يفنيان معا: عبقرية الفكر وعبقرية اليد. لا تقوم حضارة على علم وحده ولا على صناعة وحدها، ولا بد من الاثنين معا. وقد فهمنا هذه الظاهرة وأخذنا في العمل لتحقيقها، وقطعنا في هذا أشواطا نسأل الله أن يرعاها بعنايته حتى نبلغ بها الغاية.
1 / 8
وهناك اتفاق آخر فطن له كثيرون، وعجبوا له العجب كله، وهو افتتاح المعرض في ليلة ذكرى المولد النبوي، في الليلة التي يستعيد فيها المسلمون ذكرى ما قدموا للإنسانية من نظم وحضارة وعدل وسعادة، في الليلة التي ولد في مثلها قبل أربعة عشر قرنا، خير طفل حملته الأرض، وكان له يد ومنة على كل من نعم بسعادة وشمل برحمة وتمتع بعدل واغتبط بعرفان.
افتتح معرض دمشق وسوقها في مساء الليلة التي يقول فيها المسلم والعربي غير المسلم: كان منا هادٍ أفاض الرحمة على الإنسان والحيوان والجماد ... فتفاءل الناس خيرا، وأيقنوا أنهم لا بد بادئون تاريخهم من جديد وقد ولد ليلة المولد هذا المعرض، وهو فاتحة مباركة في تاريخ بعثنا الحديث إن شاء الله.
فإنا كما شرعنا نصل حلقات السلسلة التي انقطعت، بجهادنا للحرية والحق، والعدل والنور، افتتحنا ليلتنا هذه بوصل حلقة مجدنا الصناعي والتجاري. وإن الإنسانية لتنتظر على أحر من الجمر، وبفارغ الصبر، الشعب الذي نعمت في ظلاله ليتبوأ مكانه من جديد، ويقوم برسالته في هذا العالم الذي ملئ اليوم رذيلة وعسفا ومادية. وإن انتعاش الشعب العربي انتعاش للخير والإنسانية، ونصرته نصرة للعدل والعمران، وما كانت الإنسانية لتنسى الذين كانت على عهدهم حقائق ملموسة فأصبحت اليوم طلاء ودهانا، بل الإنسانية اليوم -إذا دققنا في حقيقة أعمال من يدّعون حمايتها- شقاء باسم السعادة، وظلم باسم الرحمة، ووحشية باسم الحضارة، ولصوصية باسم الحق، ودناءة وحطة وإماتة ضمير وخذلان خلق وبهيمية.. باسم التمدين..
1 / 9
كنت في هذا الجو من الغبطة والذكرى والتأثر، لما عرضت في ذهني حلقات تاريخنا وأين انقطعت كل حلقة ومتى عهدنا بوصلها، فكان أول ما جال في خاطري وأنا في معرض دمشق وسوقها: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، وكيف كانت تزخر بالناس من تجار وصناع، وأدباء وشعراء وخطباء، وساسة وأشراف ...
عجبت لهذه الذكرى وقد أعاد هذا المعرض لنا أسواقنا -مع مراعاة الفارق بين الزمانين- وذكرت أن المجمع العلمي بدمشق -وكان إذ ذاك اسما على مسمى- سيقوم بمهرجان للمتنبي في آخر أسبوع من تموز، وقد اختار لهذا المهرجان مكان المعرض وزمانه، لتتم لنا صورة عن أسواق العرب ومحافلهم فيها. فكملت بهذا أداة هذه السوق العربية الكبرى بما سيلقى فيها من أدب وشعر وعلم، وبمن سيؤمها من العلماء والأدباء من المشرق والمغرب؛ عربا وأجانب ومستشرقين. وأصبح من كان يتمنى أن ينعم بمرأى عكاظ في الجاهلية، يستطيع أن يشهد عكاظ العرب في القرن العشرين، فينظر كيف انقلب الزمن وكم قطعت الحضارة بين العكاظين من أشواط.
ولعل القارئ أحس مما قدمت مقدار الحاجة إلى بحث يعرض لأسواق العرب وما كانت عليه في الجاهلية والإسلام، وما قامت به من عمل في خير العرب ولغتهم؛ ليقف على شأنها في تاريخنا ويستطيع أن يفاضل بين رسالتها قديما ورسالة المعارض حديثا. وما زالت هذه الأسواق تقتعد الذروة من اهتمام الأمم مذ كان اليونان وأولمبياهم وأعيادهم. وقد رغب إلي من أرضى رأيه أن أسد هذه الثلمة في المكتبة العربية، فعكفت على أمهات المصادر -وهي في موضوعنا هذا جد شحيحة- أنقب فيها وأفليها لأخلص منها بكل ما يفيدني في بحثي، حتى تمت لي مادة
1 / 10
هذا الكتاب الذي تنحصر بحوثه بين عهد الجاهلية والقرن الثاني للهجرة. ولعل الله ييسر لي في المستقبل أن أصل هذا البحث عصرا فعصرا في أمصار العرب حتى عصرنا الحاضر.
ومن مارس التنقيب في مصادرنا العربية، القديمة منها خاصة، واطلع على ما تزخر به من كنوز مبعثرة هنا وهناك، لا تجمعها جامعة ما، عرف مقدار العنت والنصب اللذين يتعرض لهما الباحث، ولا سيما في موضوع كهذا لم يعالج بعد. وأنا أعفي القارئ من وصف ما لقيت من عناء، فما أريد أن أمن عليه وحسبي أن أكون في وجداني قد أبلغت نفسي عذرها.
وقد مهدت للكلام على الأسواق ببحوث رأيتها لازمة، وثيقة العلاقة بموضوعي كبيوع الجاهلية ورباها، وأسهبت في الكلام على قريش؛ لأنهم في الحقيقة هم عنوان الفريق التاجر من العرب، وحرصت كل الحرص أن أنقل القارئ إلى جو تلك الأسواق فيراها كما هي.
سيكون في هذه البحوث أدب جم، وتاريخ كثير كما فيها صناعة وتجارة، وستعرض فيها عادات العرب في أسواقها ومجالسها الأدبية وبلاغتها النثرية والشعرية، حتى النحو سيكون له بعض النصيب لأن إحدى الأسواق كانت تقصد من أجل مادة يستعين بها النحو في تنظيم قواعده وتبويب فصوله.
وبعض هذه الحوادث والأخبار والأشعار التي سأعرضها -وإن كان مظنة أنه مصنوع- قد اجتهد صانعه أن يقلد فيحسن التقليد ويحاكي الأصل فيحكم الحكاية، فإن شككنا في نسبة الخبر لم نشك أبدا فيما يدل عليه أو يستخلص منه. وذكرت من هذه الأحداث هنات جوزت لنفسي نقلها في هذا الكتاب مع تصريحها بما يحتشم منه؛ لأنها لا تتم الصورة
1 / 11
إلا بها، ولأني أحرص على أن يتمثل القارئ حالة الأسواق تمثلا صادقا صحيحا كاملا على قدر الإمكان.
وقد عنيت بشرح ما يشكل من غريب أو معنى مغلق؛ لأكون قد بلغت جهدي واستفرغت وسعي في الاجتهاد لأن يكون هذا العمل أقرب من كمال وأبعد من نقص. وأنا أشكر لمن أطلعني على عيب أو نبهني لإصلاح، فما يزال الإنسان بحاجة إلى من ينبهه ويصلح عمله. والله المستعان ومنه الرضى والمثوبة.
غرة ربيع الثاني سنة ١٣٥٥هـ و٢ حزيران سنة ١٩٣٦م.
سعيد الأفغاني
1 / 12
الباب الأول: شؤون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام
تجارة العرب:
لبلاد العرب موقع جغرافي متوسط، بين بلاد أعظم الدول وأقدم الحضارات. فإلى شمالها الشرقي بلاد فارس وإلى شمالها الغربي بلاد الروم ومصر، وإلى غربها الجنوبي وراء البحر بلاد الحبشة، وفي جنوبها البحر الهندي الذي يفصلها عن بلاد الهند.
ولا نكون إلى الغلو إذا قلنا: إن معظم تجارات العالم منذ القديم حتى القرون الوسطى هي بين هذه البلاد التي عددنا. فالدولتان العظيمتان اللتان تنازعتا النفوذ والسيادة في العالم، وهما فارس والروم، كانتا على علاقات تجارية وسياسية مع بلاد العرب في الشمال والجنوب. وقل نحوا من ذلك في علاقة الحبشة والهند مع اليمن وعمان والبحرين، وإن كانت علاقة أضيق حدودا.
وكان للمواصلات التجارية في جزيرة العرب طريقان، أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس برا ثم يجوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام،
1 / 15
يمر التجار فيه على أسواق اليمن والعراق وتدمر وسورية، ويبيعون في كل قطر ما لا يكون فيه، ويأخذون منه إلى غيره ما يروج فيه.
والطريق الثاني وهو الأهم غربي يصل اليمن بالشام، مجتازا بلاد اليمن والحجاز، ناقلا أيضا بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة، وإلى الهند في البحر.
وقد أطمع هذا الموقع الجغرافي لبلاد العرب كثيرا من الفاتحين، فغزاها الإسكندر فارتد عنها في غير طائل، وطمع فيها قديما ملوك الفرس وبابل ونينوى ومصر. والغريب أنها احتفظت بمكانتها هذه حتى العصر الأخير، إذ بسط سلطتهم شرقي الجزيرة وغربيها فملكوا "عدن" ميناء اليمن الطبيعي١ حيث ترسو السفن من الحبشة ومن الهند، وملكوا العقبة٢ "أيلة" محط رحال القوافل العربية في القديم وأول الثغور الرومانية التي يحلها تجار العرب، ففازت إنجلترا بمناطق نفوذ على هذين الخطين التجاريين ضمانا لطريق الهند وتجارتها.
كان من المعقول أن يمارس الكثير من العرب التجارة رجالا
_________
١ وبه يسمى البحر، فيقال: بحر عدن. انظر طبقات الأمم لصاعد: ص٧١.
٢ كان ذلك قبل أن يستقل شرق الأردن باسم المملكة الأردنية الهاشمية.
1 / 16
ونساء، وخاصة الذين تقع بلادهم قريبة من إحدى هاتين الطريقين، ومن لم يتاجر منهم أفاد من التجارة بالواسطة فعمل في هذه القوافل إما دليلا وإما سائقا وإما منتظما في جملة حماتها الذين يؤجرون أنفسهم وسلاحهم ودوابهم فيها.
ولم يبعد إسطرابون حين قال: "العرب تجار وسماسرة" و"قوم تجارة وبيع وشراء؛ ولذلك لم يكونوا أمة حرب لا بالبر ولا بالبحر"١.
وقد شغلت دول العرب القديمة كتدمر وسبأ والمعينيين، المراكز الممتازة في تجارة الشرق حتى ذكرتهم التوراة ووصفت ثروتهم وتجارتهم. وحمل أهل تدمر في القديم إلى مصر وجنوب أوروبا صادرات بلاد العرب والعراق والهند، وكانت النفائس التي يحملها التدمريون من بلاد الشرق أثمن ما يتغالى به الملوك القياصرة.
توسط تدمر بين الدولتين الفارسية والرومانية، بين العراق والشام وجزيرة العرب، جعلها محط القوافل جميعا بين هذه الأقطار منذ أقدم العصور، فازدهرت تجارتها وعظم غناها واشتهرت أسواقها
_________
١ انظر مجلة المجمع العلمي العراقي ٢/ ٢٦٤.
1 / 17
حتى أصبحت "قبلة التجار من الهند والفرس "وجزيرة العرب" والعراق وسورية وفلسطين ومصر وأوروبا ...
وكانت روما التي خضع لنيرها أغلب العالم القديم تهاب قبائل تدمر وتتودد إليها وتقدم لها الهدايا وتوفد إليها الوفود ... وعرفت تدمر كيف تستثمر في ظروف كثيرة منافسة الدولة الفارسية والدولة الرومانية لمصلحتها التجارية"١.
ولما ازدهرت الدولة المعينية في اليمن تعاطى أهلها التجارة، وساعدهم عليها امتداد نفوذهم حتى شواطئ البحر المتوسط وموانئ خليج العجم.
أما سبأ فليس مكان غناها وتجارتها بالمجهول، فقد ذكرت التوراة أن ملكة سبأ "قدمت إلى سليمان "١٢٠" وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة"٢ وحسبك هذا دليلا على وفرة مالها وخيراتها.
والسبئيون قديما أغنى العرب ثروة وأوسعهم تجارة، يحملون ما يأتيهم من بضائع الحبشة والهند إلى مصر والشام والعراق فبسطوا بذلك
_________
١ انظر "تاريخ اللغات السامية" لإسرائيل ولفنسون ص١٢٧، ١٢٨.
٢ انظر سفر الملوك الأول من العهد القديم، الإصحاح العاشر.
1 / 18
نفوذهم التجاري واستأثروا بالتجارة بين تلك الأقطار المذكورة.
جاء في تاريخ العرب الأدبي لـ "نيكلسون"١:
"قال مولر: قامت السفن منذ زمن بعيد تمخر عباب المياه بين موانئ بلاد العرب الشرقية والهند، محملة بالبضائع وكانت منتجاتها الأخيرة وخاصة الطيب والبخور والحيوانات النادرة "كالقردة والطواويس" تنقل إلى ساحل عمان، ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت لهم دراية بالخليج الفارسي حيث كانوا ييممون شطر مصر يبيعون فراعنتها وأمراءها بضائعهم، وقد كانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر سببا في تفضيل الطريق البري للتجارة بين اليمن وسورية، وكانت القوافل تقوم من "شبوت" في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ، ثم تتجه شمالا إلى مكربة "مكة فيما بعد" وتظل في طريقها من بترا حتى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وظل رخاء السبئيين قائما حتى أخذت التجارة الهندية تهجر البر وتسلك عبر البحر على طول شواطئ حضرموت وخلال مضيق باب المندب. وكانت نتيجة هذا التغير -الذي يظهر أنه حدث في القرن الأول
_________
١ ترجمة حسن حبشي في العدد "١٧٥" من مجلة الرسالة.
1 / 19
للميلاد- أن أخذت قوتهم تتضعضع شيئا فشيئا".
وحل محل هؤلاء الحميريون الذين جعلوا عرب الحجاز تحت سيطرتهم، فاستخدموهم في نقل تجاراتهم إلى أن تخلص الحجازيون منهم، وصاروا هم نقلة التجارة في الجزيرة قبيل البعثة.
قام اليمنيون في القديم إذًا بنقل المتاجر بين بلاد العرب والبلاد المجاورة، وظل ذلك دأبهم على اختلاف دولهم في الأزمان التي تقدمت القرن السادس الميلادي، فاستأثروا بتجارة الجزيرة مع غيرها من الممالك، يحملون التمر والزبيب والأدم والبخور والحجارة الكريمة والمنسوجات من مواطنها ثم يستبدلون بها بضائع أخرى، مع ما يصنعون هم أنفسهم من الأطياب والعطور التي يتخذونها في بلادهم ويبيعونها في أسواق العالم القديم: آسيا وإفريقيا وأوروبا. فكانوا حينا غير قصير مشرفين على تجارة العالم كله.
وقد نشأت مع الزمن -وسط هذه الطريق التي كثيرا ما سلكوها قبل الميلاد- محطتان تجاريتان عظيمتان هما: مكة والمدينة١، وعظم
_________
١ وقبل هذا الزمن ازدهرت تيماء وأيلة "العقبة" وسلع شمالي الحجاز، فكانت محط القوافل الكبرى ومراكز ممتازة للتجارات وبيوت المال، منها يتسوق العالم الروماني واليوناني معظم ما يحتاج إليه.
1 / 20
أمرهما وصار أهلهما يشاركون في الاتجار قبائل اليمن. فلما كان القرن السادس انتقلت التجارة من أيدي اليمنيين بالتدريج، إلى قريش القبيلة المكية التي ارتفع أمرها وقويت ونشطت، وبدأت تحل محل الأولين في الاستئثار بتجارة جزيرة العرب، ولا سيما عند اضطراب الأمن وتعذر المرور على الأحباش والأنباط، وكان وقوع الحروب والأزمات والمنافسات بين فارس والروم من أعظم العوامل في نشأة التجارة المكية وازدهارها، إلا ما كان من تجارة فارس، فإنها بقيت في أيدي عرب الحيرة وهم يمانيون.
كانت أقطار العرب غير متساوية في الخصائص والمرافق، فبينا نجد نجدا أرضا قاحلة رملية لا زراعة لأهلها، نجد في اليمن مزارع خصيبة تفيض بالخير الواسع. ونجد بعض مدن الحجاز كمكة تشبه نجدا في جدبها وبعضا آخر فيه مزارع ونخيل كالمدينة والطائف وإن لم تكونا بدرجة اليمن. قال الألوسي: "وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة؛ لما في بلادهم من الخصب والرخاء والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة وغير ذلك من أسباب الثروة والغنى. وأما أهل نجد فكانوا دون غيرهم في الثروة والتجارة؛ لما أن الغالب على أرضهم الرمال فكانت بلادهم دون
1 / 21
سائر بلاد العرب في رفاهية العيش ورواج التجارة". على أن لطيء ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب، هذا عدا أخلاطا من أمم شتى تتسرب تجارهم إلى الجزيرة، وأكثر هؤلاء هم الأنباط فقد بقوا حتى بعد ظهور الإسلام يجلبون الزيت من الشام إلى المدينة.
ولا بد لنا من التنبيه على حدة، إلى العنصرين التجاريين اللذين عملا في بلاد العرب، وهما الأنباط واليهود، فقد كان الأولون يختلفون بين بلاد الشام والحجاز والعراق في الجاهلية، وكان أكثر ما يحملون من بضائع على ما علمت الزيت والدرمك "دقيق الحوارى"١ يحملونهما من الشام إلى الحجاز وإلى العراق ويرجعون من هذين القطرين بالأدم والتمر وغيرهما من الحاصلات، فكانوا يشاركون القوافل العربية في تجاراتها ويقيمون لأنفسهم أسواقا في البلاد العربية ذاتها، فابن سعد يذكر أن هاشما في بعض أسفاره إلى المدينة "نزل بسوق النبط، فصادف سوقا تقوم بها في السنة يحتشدون لها"٢. ولما
_________
١ الحوارى: لُباب الدقيق وكل ما حُوِّر أي: بُيِّض من طعام.
٢ طبقات ابن سعد ج١ ص٤٥، وانظر شرح المواهب ج٣ ص٢٣.
1 / 22
كانت الفتوحات والغزوات، قام الأنباط التجار بمهمة نقل الأخبار بين الشام والحجاز١.
وأما اليهود فقد "كانت التجارة بنوع خاص من أهم مرافق الحياة عند يهود الحجاز، حتى صار لبعضهم فيها شهرة عظيمة وصيت بعيد كأبي رافع الخيبري الذي أرسل بضاعته بوساطة القوافل إلى الشام، واستورد منها الأقمشة المختلفة. ويمكن أن يقال: إن تجارة البلح والشعير والقمح كانت خاصة بهم في شمال الحجاز"٢.
لكن شأن اليهود فاق شأن الأنباط؛ لاستيطانهم في جزيرة العرب فاستفحل أمرهم، وزاحموا السكان الأصليين على مرافقهم وكانت لهم خبرة في الزراعة والتجارة وتنمية المال، فاستغنوا وبنوا لأنفسهم القرى والمزارع والحصون، وأشهر مراكزهم العامة في المدينة وخيبر.
ومما تجدر ملاحظته أنهم بعد أن شاركهم في مغانمهم التجارية
_________
١ ومن هؤلاء الأنباط التجار علم الرسول ﷺ بتجمع الروم على الحدود، فأخذ أهبته وأخفى جهته في الغزوة المشهورة غزوة تبوك. انظر شرح الزرقاني للمواهب ٣/ ٦٣.
٢ تاريخ اليهود في بلاد العرب ص١٨.
1 / 23
أهل يثرب وخاف اليهود هذه المزاحمة، وكانوا عاجزين عن التغلب على اليثربيين قوة وعنوة، لجئوا إلى الإيقاع بين الحيين الأوس والخزرج، فلما وقعت العداوة واتصلت الحروب جعل اليهود يضرمون نارها كلما خمدت، فشغلوا بعضا ببعض وانصرفوا هم إلى تجاراتهم وإنماء ثرواتهم. فلما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسلم أهلها، بغى اليهود الغوائل لهم وصاروا يحرضون عليهم المشركين من قبائل العرب وينقضون عهودهم للنبي، ويطعنون المسلمين من خلفهم. إزاء ذلك رأى النبي ضرورة التخلص منهم، فأجلى بني قينقاع ثم بني النضير فحطوا بأذرعات من أرض الشام، ثم تخلص من بني قريظة١ أيضا، فخلت المدينة وما حولها من جماعاتهم وتحولت تجاراتها إلى أيدي أهلها من العرب.
لا بدع في أن تكون التجارة من أول أسباب المعاش للحجازيين فعكفوا عليها، وتمادحوا بكسب المال، وأخذوا يضربون في الأرض يبتغون الرزق من هذه المهنة، فعرفوا قبل الإسلام بكثير، كثيرا من مدن الشام كبصرى وغزة وأيلة والمشارف، ومدن العراق
_________
١ انظر أسباب جلاء هذه القبائل اليهودية في كتب السيرة النبوية.
1 / 24