Les secrets des palais
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Genres
فقال له فؤاد: وهل تعلق كبير أمر على تلك المصافحة؟ - نعم؛ لأني نسخت بها عادة ثلاثين سنة، وهذه المصافحة الأوروبية هي العربون الذي يجب أن يكون بين تركيا والدول المتحابة، وهكذا برهنت لكما أني من رأيكما بوجوب الاتفاق من أجل سلامة المملكة ونجاحها؛ إذن إن العادات تتغير بتغير السنين والأيام، فأجابه فؤاد: لا تتغير لسوء الحظ إلا السنون. - لا شيء يرضيك باشا أفندي حضرتلري. - لا غرابة فقد صرت كهلا ...
ثم صعد السلطان إلى ظهر يخته يتبعه أركان حربه وكبار حاشيته، وكان الربان قد أوقف اليخت أمام سراي طلمه بغجه، وانحدر السلطان منه إلى زورقه المذهب البديع حتى أسفل سلم السراي، وكان العلماء والوزراء والكبراء قد احتشدوا من مدخل القصر حتى القاعة الكبرى؛ لتقديم واجبات التهنئة لجلالة السلطان بالعود المجيد من تلك الرحلة الأوروبية الجديدة في تاريخ آل عثمان.
الفصل الخامس
بطل المستقبل
بينما كان السلطان عبد العزيز يستقبل وفود المهنئين أرجو القارئ الكريم أن يتبع فارسين قد أعمل كل منهما المهماز في شاكلة جواده وهما ينهبان الأرض نهبا مسرعين نحو محلة «أورطه كي» أحدهما: شاب في الثانية والعشرين من عمره أسمر اللون خفيف العارضين اسمه «صلاح الدين بك» من ياوران جلالة السلطان ونجل أحد قواد الدولة المتقاعدين، والثاني: شاب يافع شركسي الأصل اسمه «حسن» لا يعرف له أصل ولا نسب ولا أهل إلا شقيقة فتاة ربتها والدة السلطان في حرمها، وقد ارتبط هذا مع صلاح الدين بك بمودة شديدة، وكان والده مقيما على هضبة بالقرب من قرية «أورطه كي» في بيت بسيط تحيط به حديقة فيها كثير من أشجار الفاكهة المختلفة.
فلما وصلا البيت قفز صلاح الدين عن جواده كالغزال، وأول سؤال وجهه إلى خادمه كان عن صحة والده الشيخ الجليل، ثم سار إلى السلاملك يصحبه صديقه حسن، فضمه والده حميد باشا إلى صدره وعانقه شديدا، ثم أمره بالدخول إلى الحرم لتقبيل يدي والدته نعمت هانم، وكانت جالسة مع السراري تنتقي زهر الورد لطبخه بالسكر، وكانت منذ سمعت إطلاق المدافع تبشيرا بقدوم السلطان تنتظر وصول ابنها بذاهب الصبر، فكانت ترسل كل هنيهة إحدى جواريها تتفقد وصوله، وكان صلاح الدين هذا وحيدا لوالديه، وموضوع حبهما، قد تلقى علومه في كلية فينا الكبرى، وانتقل منها إلى فرنسا حيث أكمل دروسه الحربية في مدرسة «سان سير»، فأخذ عن الفرنسيين ما اشتهر عنهم من الظرف واللطف ورقة المعاشرة، ولم تطمح أنظاره إلا لخدمة وطنه وأمته، فانخرط في سلك دعاة الحرية والمصلحين، وكان ورعا من غير تعصب جريء القلب بطلا مقداما، وقد سر جدا لما عرف أن جلالة السلطان قد انتقاه ليكون من ياورانه ورفيقا له في رحلته الأوروبية، وقد علق على هذه الرحلة كبير أمل من التأثير على أفكار السلطان؛ ليدفعه إلى الصعود في معراج التمدن والحرية. فلما دخل الحرم أخذ يدي والدته يقبلهما بشوق، وقامت الجواري والسراري فرحات مسرورات يقبلن طرف ثوبه، وأكثرهن كن يعددن لرجوعه الأيام والساعات، وقد أملن جميعا أنهن يحظين بالتفات منه، أما هو فاستقبلهن بلطف، ثم تحول عنهن، وانطرح على الديوان بالقرب من والدته يقص عليها أخبار رحلة السلطان.
ولبث ساعتين يروي ظمأ اشتياقه، وإذا بجارية دخلت وأبلغته أن والده الباشا قد اضطر للخروج من أجل رد بعض زيارات، وأن صديقه حسن باق وحده في السلاملك.
فهب صلاح الدين حالا إليه يعتذر عن قصوره، فوجده واقفا بالقرب من النافذة ينقر زجاجها بأصابعه تسلية وإضاعة للوقت، فتقدم إليه صلاح الدين وقال: أرجوك العذر لقلة أدبي ... ولكن من غاب عن والدته شهرا كان الشهر عنده دهرا. - أصبت ... ثم تنهد، وقال: طوبى لمن له عائلة ... أما أنا فإني يتيم وحيد أشعر بثقلي أين ذهبت وكيف اتجهت؟ - ما هذا القول يا حسن ...؟ أتجهل محبة أصدقائك، واعتبارهم لك؟ والأصدقاء الصادقون هم كالأهل، بل خير منهم؛ إذ الإنسان له فيهم خيار الانتقاء.
إذا كان يحق للإنسان انتقاء أخ فأنت أخي الوحيد. - عزيز علي يا حسن ألا يكون عندي شقيقة تثبت لك صدق قولك، ولكن أنت تعلم أني وحيد لوالدي. - وأما أنا فلي شقيقة يا صلاح الدين أحبها حبا شديدا، اجتزت وإياها منذ خمس سنوات بلادنا الشركسية يوم قادونا كالأغنام للبيع في الأستانة، فقدر النصيب أن اشترت والدة السلطان شقيقتي - مهرى - ووضعتها في حرمها ... وهكذا حرمت من مشاهدتها كل حين، ولا يسعدني الحظ بذلك إلا متى انتقل الحرم السلطاني إلى المصيف. - ولكن سمعت اليوم من رئيس الخصيان أن جميع السراري قد ذهبن للاستحمام في البحر عند قصر «بكلربك» الذي هو قبالتنا. - فأبرقت أسرة حسن فرحا، وقال: أحقيقي ما تقول؟ وكيف يمكننا تحقيق ذلك؟ - أمر سهل لا يكلفنا كبير عناء ... تعال نكتري زورقا، ونذهب لتحقيق ذلك، فنسأل رئيس الخصيان إذا كانت شقيقتك بين السراري أو إذا كانت بقيت في السراي الهمايوني، وكيفما كان الحال نكون قد قضينا نزهة لطيفة. - ما أكرم أخلاقك وألطف طباعك ...! هيا بنا. - هذا من واجباتي؛ فقد تركتك وحدك منذ ساعتين وأنا أتنعم بلذة مشاهدة والدتي، فوجب علي الآن التعويض، واكتريا زورقا للحال واجتازا البوسفور، فوصلا في أثناء عشر دقائق إلى شاطئ آسيا إلى بيكلربك، وهي القرية التي بنى السلطان فيها قصرا على شاطئ البحر في غاية من الظرف، فصعد الصديقان إلى باب السراي، فلما رأى الخدم والحشم صلاح الدين عرفوا من ملابسه أنه من ياوران جلالة السلطان، فسأل حسن أحد الخصيان عن مهرى هانم فأجابه أنها في السراي وأنه يمكنه مشاهدتها؛ فسر كثيرا، ثم التفت إلى صديقه صلاح الدين، وقد أخذته الحيرة بوجوده، وقال: ما العمل؟ - خفض عنك، فإني سأتمشى على هذه الطريق المحاذية لحديقة السراي حتى تشماليجة، ثم أعود إلى هذه الساحة أنتظرك في قهوتها فلا تضيع وقتك، واعلم أني أكون مسرورا إذا كنت سهلت عليك هذا الاجتماع، وسأنتظرك بسرور مهما طال اجتماعك، ثم مد يده فصافحه، وتبع حسن الخصي وعاد صلاح الدين وحده متجها نحو الطريق التي سار إليها، فلما صعد إلى أعلى الهضبة وقف أمام بستان السراي يحيط به شجر الجوز الكبير وحائط رفيع لا يرى منه إلا رءوس الأشجار، فوقف يسرح الطرف في ذلك المشهد البديع، وإذا به يسمع صوتا رخيما مناديا. - مهرى هانم ... مهرى هانم ... تعالي التقطي الخوخ ...
وسمع في الوقت نفسه هز شجرة صوت الثمار تتساقط على العشب الأخضر، فرمى بنظره إلى الشجرة فرأى غادة تركية قد تسلقتها كالسنجاب وقد تطاير منديلها الشفاف عن رأسها، فأبان وجها صبوحا وعينين نجلاوين وشعرا حالكا مسترسلا على أكتافها غدائر، وكانت أوراق الشجرة وأغصانها الملتفة حجابها الوحيد، ويظهر أن السبب في مناداتها لرفيقتها بصوت عال كان استلفاتا منها لنظر صلاح الدين الذي لما سمع الصوت ورأى الغادة وقف مبهوتا ذاهلا من جمالها الفتان، وهي لما رأت مركزها الحرج حاولت عبثا الاختباء وراء الأغصان والأوراق، ثم سمع صوتا من أرومة الشجرة يقول: عائشة هانم لم لا تلقين الخوخ؟ - لم يبق ثمر في الشجرة. - إليك هذا الغصن المدلى على الطريق، فقد رزح من كثرة الثمر، فمدت عائشة يدها اللطيفة إلى الغصن فهزته بعنف وتساقط الخوخ على الطريق أمام صلاح الدين، فهم بالتقاطه، وفي الحال فتح باب صغير للحديقة، وخرجت منه فتاة تركية مسرعة لالتقاطه أيضا، فلما رأت صلاح الدين أمامها صاحت مذعورة، وهرولت ناكصة على أعقابها تاركة الأثمار غنيمة باردة له، واغتنمت عائشة فرصة انحناء الرجل لالتقاط الثمر فانحدرت عن الشجرة بعجل، ولم يكد صلاح الدين يتم التقاط الثمر حتى مر به خصي، فنظر إليه نظرة المرتاب، وأراد الدخول إلى البستان، فوجد الباب موصدا، ولم يفتح له حتى عرف بنفسه فقال بصوت عال: مهرى هانم جاء أخوك حسن إلى السراي يريد مشاهدتك. - ها أنذا ... ها أنذا حاضرة.
Page inconnue