وكان يقضي أكثر وقته في باريس، وماري سميرته وجليسته وخليلته، وكانت تنعم وتهنأ من فضله.
وأما أحمد بك فما زال وكيلا لأملاك الأمير عاصم، ومطاوعا له كأنه ريشة في يد الأمير، وبقي أيضا يلتفت لأملاك الأمير نعيم والأميرة نعمت بالرغم من نقمة هذه وغضبها عليه؛ لأنه كان معروفا بإخلاصه لبيت صدقي باشا.
وأما سنتورلي وعاصم بك فلما علما أن الشرطة لم يجدوا جثة جوزفين في قصر الأميرة نعمت، تحيرا منتهى الحيرة وفكرا طويلا في ذلك.
وخطرت لهما عدة أفكار كان أرجحها أن سنتورلي لم يحسن حقنها بالسم، فسلمت، ولما علمت الأميرة نعمت خبرها سفرتها إلى خارج مصر؛ لكي لا تبقى عارا على أخيها. •••
وحدث بعد عشر سنين من تلك الحوادث أن الأمير نعيما اعترته حمى تيفوئيدية شديدة، حتى أضاعت صوابه وصار يهذي ولم يعد يعي شيئا، واستدعى أهله أكثر الأطباء لمعالجته، وكان في مقدمتهم الدكتور ف. فلازمه معظم الوقت واستدعى له ممرضة من مستشفى أوروبي في القاهرة تدعى «سار ماري»، بذلت كل عنايتها في تمريضه، وكان إذا خفت عنه الحمى قليلا فتح عينيه ونظر إلى الممرضة، وقال: «جوزفين! جوزفين! متى أتيت إلى هنا؟! لماذا أتيت؟! من قال لك أني مريض؟! جوزفين، هل تبت؟ جوزفين، ألم تزالي تحبينني كالأول؟ جوزفين، هل صفحت عن خشونتي السابقة؟ جوزفين، أتخدمينني؟ لماذا؟!»
إلى غير ذلك من مثل هذه العبارات، ولكن «سار ماري» لم تكن تجيبه؛ لأن الكلام لغيرها، ولا سيما لأنه يهذي، وكان الدكتور يسمعه يتكلم هذا الكلام فيحسبه يهذي، وقد سأل أخته عن سبب هذيانه باسم جوزفين فحكت له موجز قصته معها.
على أن الأمير نعيما وإن كان غائب الرشد هاذيا، فإن قلبه لم يكن مختبلا كعقله، فلم تغب عليه جوزفين وإن تنكرت باسم «سار ماري» تحت ثوب الراهبة الممرضة الأسود، وغطت عينيها النجلاوين العسليتين بنظارة سوداء.
وتحرير الخبر أن جوزفين بعدما يئست من استعطاف الأمير دخلت ديرا في باريس درست فيه فن التمريض، وطلبت أن تخدم في أحد المستشفيات في مصر، فأجيب طلبها، وقد ابتغت من ذلك أن تتنسم أخبار الأمير حينا بعد آخر.
واتفق أن الحكيم ف. الذي يعالج الأمير كان حينئذ يزور المستشفى كل يوم ساعة لمعالجة أمراض خصوصية، فذكر أمام الممرضات خبر حمى الأمير نعيم وحدتها، فاضطربت جوزفين ولكنها أخفت اضطرابها في الحال، واغتنمت فرصة التمست فيها من الدكتور ف. أن يقترح على أهل الأمير نعيم قبول ممرضة له، وأن ينتدبها لهذه المهمة، فأجاب الدكتور طلبها لظنه أنها تطمع بأجرة وافرة من جراء هذه الخدمة، وكان يودها ويجلها، فأحب أن يخدمها هذه الخدمة.
ولما صحا الأمير نعيم من سرسام الحمى وخبالها لم يبق في حافظته من تذكار جوزفين إلا ظليل خيال ضعيف، فظنه وهما من تصويرات الحمى فلم يعبأ به.
Page inconnue