ثم نهضت على قدميها وهي تقشعر من الغيظ وقالت: اسمع، إنك بعد الآن عدوي الألد، إن عرف أحد حرفا مما دار بيننا لا تدري من أين تنصب عليك البلايا!
فركع أحمد بك عند قدميها وأمسك بحاشية ثوبها متضرعا. - رحماك يا أميرة! رحماك! لست نذلا ولا جبانا إلا لديك؛ لأني أعد نفسي أثيما لك فلا أستحقك، فارحميني واستخدميني لأي مأرب تريدينه. - لا تصلح لشيء؛ لأنك نذل. - كلا يا مولاتي، أفصحت لك السبب. - أي سبب؟! - قلت لك إن في عارا لا يمحى فأدنسك لو كانت لي صلة بك.
فتنبهت الأميرة لكلامه قائلة: ماذا؟! أي عار هذا؟! لا أفهم. - لا أقدر أن أقول لك أكثر مما قلت. - بل تقول، فإما أن أمحي عارك أو أن أعذرك. - عاري لا يمحى، فاعذريني.
فعادت الأميرة إلى مكانها وقعدت مفكرة وقد أخذ اضطرابها أن يسكن، وبعد سكوت هنيهة قالت: أما تقول لي سرك هذا؟! - رحماك رحماك! ليس في وسعي، فأرجوك أن تمني علي بالمعذرة ... - يالله! لم أكن أظن أنك ذو أسرار.
فأطرق أحمد بك هنيهة، وهو يصلي في قلبه أن يخرج من هذا المضيق كما دخل، ثم قالت: إذن تستحيل إزالة هذا الحائل السري بيننا! - نعم! نعم! - ليتني أعرفه لعل لي حيلة فيه. - ليتني أقدر أن أبوح به حتى لنفسي. - أخفتني يا أحمد بسرك هذا. - لا تخافي. - هل له مساس بي؟ - كلا.
ولكن قشعريرة عبرت في بدن أحمد من رأسه إلى أخمص قدميه حتى لمحتها نعمت لمح الوميض. - لقد هجتني إلى معرفة هذا السر. - لا تهتمي به يا مولاتي، فإنه من خصائصي.
ففكرت نعمت برهة وقالت: هل يهم الأمير عاصم؟ - كلا، ولكن ... - لكن ماذا؟ قل: حالا. فإني لا أطيق هذا الكتمان بعد الآن، إنك تضطرني إلى فعل سيئ المغبة.
فنظر أحمد بك إلى عينيها، فذعره التهابهما بنار السخط. - مولاتي، إن الأمير عاصم نهاني نهي الآمر المطلق عن أن أتعرض لك بأمر.
فقهقهت قائلة: أهذا كل سرك؟ - شيء منه. - ولكنك قلت إنه لا يمس الأمير عاصم. - نعم ؛ لا يمسه سري الحقيقي. - لم أزل غير فاهمة. - بربك يا مولاتي، لا تجتهدي أن تفهمي شيئا؛ لأن فهم الأمر لا يفيدك وإنما يضرني. - ألا تثق بي؟! - كل الثقة. - فلماذا لا تقول إذن؟! - لأن لا فائدة من القول. - من العبث أن أستدرجك إلى التصريح على ما أرى. (ثم سكتت برهة وهي تفكر وأحمد بك لا يجسر أن يفوه ببنت شفة ويخاف أن يستأذن للانصراف.) إن كان كل خوفك من تهديد عاصم فبكلمة واحدة أقصره ... - كلا يا مولاتي، لا يخيفني أحد إلا نفسي، فاقتنعي أن الأفضل لك أن لا أتصل بك. - كفى! كفى! امض وانس كل ما كان، بل اصبر، لماذا إذن كنت تتحبب إلي في ما مضى؟ - لأني في بدء الأمر كنت بلا سر، ولما تمكن في حبك لم أعد أقدر أن أكتمه، فاعلمي يا مولاتي أن الحب مقودي في يدك، على أني أحبك وأبقى عازبا لأجلك.
عند ذلك استلقت الأميرة نعمت في مقعدها واهية، وقالت: اذهب عني الآن؛ فإني محتاجة إلى الراحة، لم يعد لي عصب يحتمل المزيد من التأثر.
Page inconnue