وقد صح عن الرسول -صلوات الله عليه وسلامه- حديث الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، ثم إلى حيث شاء الله من ملكوته في غير حديث، فروى البخاري ومسلم حديث الإسراء عن أبي ذر، وابن عباس، وأنس بن مالك، ومالك بن صعصعة، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، من طرق جماعة، ورواه غير البخاري ومسلم من هذه الطرق، ومن طرق أخرى عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم- قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كانت ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة فظعت بأمري، وعرفت أن الناس لا يصدقوني، قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل عدو الله، فأتاه فجلس إليه، فقال كالمستهزئ به: هل استفدت من شيء؟ قال: نعم، قلت: نعم أسري بي الليلة، قال إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا، قال: نعم! قال: فلم ير أبو جهل أنه يذكر الحديث مخافة أن يجحده الحديث، قال: أتحدث قومك بما حدثتني؟ قال: نعم! قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي: هلم، فانتفضت المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك ما حدثتني، قال نعم! أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا، قال: نعم! قال فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب، وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقالوا: هل لك من صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قد قال ذلك؟ قالوا: نعم! قال: لئن كان قال لقد صدق، قالوا: وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم! إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق، قالوا: وفي القوم من قد سافر هناك، ومن أتى المسجد، فقالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد، قال: نعم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي، قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل، فنعت المسجد وأنا أنظر إليه، فقال القوم: أما النعت فقد والله أصاب، ثم قالوا: يا محمد! أخبرنا عن عيرنا فهي أهم .. .. (¬1) قال، نعم، مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح من ماء، فعطشت فأخذته وشربته، ثم وضعته كما كان، فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه؟ قالوا: هذه آية، قال: ومررت بعير بني فلان، وفلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي مر فنفر بكرهما مني فانكسرت يده، فسلوهما عن ذلك؟ قالوا : هذه آية أخرى، قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن، قال: مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ قال: كنت في شغل عن ذلك، ثم مثلت له مكانه بالحزورة بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها، قال: نعم، هيئتها كذا وكذا، وفيها فلان وفلان: يقدمها جمل أورق، عليه غرارتان مخيطتان، تطلع عليكم بعد طلوع الشمس، قالوا: وهذه آية أخرى، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية، وهم يقولون: والله لقد قص محمد شيئا وثبته، حتى أتوا كدأ، فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه، إذ قال قائل منهم: والله هذه الشمس قد طلعت، وقال آخرون: وهذه والله الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق، فيها فلان وفلان كما قال لهم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا، وقالوا: ما سمعنا بمثل هذا قط، إن هذا إلا سحر مبين.
والإسراء بالجسد إلى السماء لا ينكره ذو دين، فقد رفع الله إدريس إلى السماء الرابعة باتفاق أهل العلم من كل دين، ورفع عيسى إلى السماء أيضا، فلا عجب في ذلك لمساواة من هو خير منهما فيه، وقد زاده الله عليهم في العلو لزيادته عليهم في الفضل والعلوم.
Page 550