بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم العامل حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى رحم الله وعفا عنه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقة سيدنا محمد وآله وصحبه، هذا كتاب الكشف والتبيين فى غرور الخلق أجمعين. اعلم أن الخلق قسمان: حيوان وغير حيوان.. والحيوان قسمان: مكلف ومهمل.. فالمكلف من خاطبه الله بالعبادة وأمره بها.. ووعده الثواب عليها ونهاه عن المعاصى وحذره العقوبة..
ثم المكلف قسمان: مؤمن وكافر.. والمؤمن قسمان طائع وعاص.. وكل من الطائعين والعاصين ينقسم قسمين: عالم وجاهل..
ثم رأيت الغرور لازما لجميع المؤمنين المكلفين والكافرين. إلا من عصمه الله رب العالمين.. وأنا بحمد الله أكشف عن غرورهم وأبين الحجة فيه.. وأوضحه غاية الإيضاح. وأبينه غاية البيان بأوجز ما تكون العبارة.. وأبدع ما يكون من الإشارة.
والمغرورون من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف: صنف من العلماء.. وصنف من العباد.. وصنف من أرباب الأموال..وصنف من المتصوفة.
1 / 21
غرور الكافر
فأول ما نبدأ به غرور الكافر، وهو قسمان: منهم من غرته الحياة الدنيا.. ومنهم من غره بالله الغرور.. أما الذين غرتهم الحياة الدنيا وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة.. ولذات الدنيا يقين.. ولذات الآخرة شك!!.. ولا يترك اليقين بالشك.. وهذا قياس فاسد.. وهو قياس إبليس لعنه الله تعالى فى قوله: أنا خير منه.. فظن أن الخيرية فى النسب..
وعلاج هذا الغرور شيئان
إما بتصديق وهو الإيمان.. وإما ببرهان.
أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله (وما عند الله خير وأبقى) (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) .. وتصديق الرسول ﷺ فيما جاء به..وأما البرهان: وهو أن يعرف وجه فساد قياسه.. أن قوله: الدنيا نقد والآخرة نسيئة مقدمة صحيحة وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس.. وليس الأمر
1 / 25
كذلك.. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار.. والمقصود فهو خير.. وإن كان أقل منها.. فالنسيئة خير منه.. ومعلوم أن الآخرة أبدية.. والدنيا غير أبدية.. وأما قوله: ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فهو أيضا باطل.. بل ذلك يقين عند المؤمنين..
وليقينه مدر كان: أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء.. والمدرك الثاني: الوحى للأنبياء والإلهام للأولياء.. ولا تظن أن معرفة النبي ﷺ لأمور الآخرة.. ولأمور الدنيا تقليد لجبريل ﵇.. فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة.. والنبي ﷺ حاشاه الله من ذلك.. بل انكشفت له الأشياء.. وشاهدها بنور البصيرة.. كما شاهدت أنت المحسوسات بالعين الظاهرة..
فصل فيمن يشاركون الكفار غرورهم
من المؤمنين بربهم
والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أمر الله تعالى وهى الأعمال الصالحة.. وتدنسوا بالشهوات.. وهم مشاركون الكفار فى هذا الغرور.. فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميعا غرور: فأما غرور الكافرين بالله تعالى فمثاله:
1 / 26
قول بعضهم فى أنفسهم بألسنتهم: إنه إن كان الله معيدنا فنحن أحق بها من غيرنا كما أخبر الله تعالى عنهم فى صورة الكهف حين قال: (ما أظن أن تبيد هذه أبدًا، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا)
ما سبب هذا الغرور؟
وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه الله تعالى.. وذلك انهم ينظرون مرة إلى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا.. فيقيسون عليها نعم الآخرة، ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم (ويقولون فى أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء.. فيزدرونهم ويقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) .. ويقولون: (لو كان خيرًا ما سبقونا إليه) ..
وترتيب القياس الذى نظم فى قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعم الدنيا.. وكل محسن فهو محب، وكل محب فهو محسن، وليس كذلك.. بل يكون محسنًا ولا يكون محبًا.. بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على الاستدراج.. وذلك محض الغرور بالله عز
1 / 27
وجل.. ولذلك قال النبي ﷺ: (إن الله تعالى يحمى عبده من الدنيا كما يحمى أحدكم مريضه عن الطعام والشراب وهو يحبه) .. ولذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا، وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا.. وقالوا: مرحبا بشعار الصالحين، فقد قال الله تعالى: (فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه) ..وقال تعالى: (أيحسبون أَنَّمَا نُمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) .. الآية.. وقال تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملى لهم إن كيدى متين) .. وقال تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) ..
فمن آمن بالله تعالى يأمن من هذا الغرور..
ومم ينشأ هذا الغرور؟
ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله تعالى.. وبصفاته.. فإن من عرف الله تعالى فلا يأمن من مكر الله.. وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم.. مع أن الله تعالى أعطاهم من المال.. وقد حذر الله
1 / 28
تعالى مكره فقال تعالى: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) .. وقال تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) .. وقال تعالى: (فمَهل الكافرين أمهلهم رويدًا) .. فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة.
فصل فى غرور عصاة المؤمنين
وهم من يتكلون على عفو الله ويهملون العمل
وأما غرور العصاة بالله من المؤمنين فقولهم: غفور رحيم، وإنما يرجى عفوه فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال وذلك من قبل الرجا فإنه مقام محمود في الدنيا. وأن رحمة الله واسعة ونعمته وشاملة وكرمه عميم، وأنا موحدون نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان.
منشأ ذاك الغرور
وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلاح الآباء والأمهات.. وذلك نهاية الغرور فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا خائفين.. ونظم قياسهم الذى سول لهم الشيطان: من أحب إنسانًا أحب أولاده.. فإن الله قد أحب أباكم فهو يحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعات، فاتكلوا على ذلك واغتروا بالله، ولم يعلموا أن نوحا عليه
1 / 29
السلام، أراد أن يحمل ولده فى السفينة فمنع، وأغرقه إليه ﷾ بأشد ما أغرق به قوم نوح..
وإن نبينا محمد ﷺ استأذن فى زيارة قبر أمه.. وفى الاستغفار: فأذن له فى الزيارة ولم يؤذن فى الاستغفار لها..
ونسوا قوله سبحانه وتعلى: (أَلاَّ تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى) ..
ومن ظن أنه ينجو بتقوى أصله كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يروى بشراب أبيه..
والتقوى فرض عين لا يجزى فيها والد عن ولده (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) .. إلا على سبيل الشفاعة..
ونسوا قوله ﵊: (الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه وهواها وتمنى على الله الأماني) .
وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) .
1 / 30
وقال تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون) .. وهل يصح الرجا إلا إذا تقدمه عمل وإلا فهو غرور لا محالة..
فصل فيمن اغتر بحسناته مع قلتها وكثرة سيئاته
ويقرب منهم غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن لغة حسناتهم ترجح أكثر من كفة السيئات.. وهذا غاية الجهل، فيرى الواحد يتصرف بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما تناوله من أموال الناس والشبهات أضعافا وهو كمن وضع فى كفة الميزان عشرة دراهم ووضع فى الكفة الأخرى ألفًا وأراد أن تميل الكفة التى فيها العشرة وذلك غاية الجهل..
فصل فى غرور من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه
وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذى يستغفر بلسانه أو يسبح فى الليل والنهار مثلا مائة مرة أو ألف مرة ثم يغتاب المسلمين وتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار، ويلتفت إلى ما ورد فى فضل التسبيح.. ويغفل عما ورد فى عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين.. وذلك محض الغرور فحفظ لسانه عن المعاصى آكد من تسبيحاته.
1 / 31
فصل فى بيان المغرورين وأقسام كل صنف
1 / 32
الصنف الأول
من المغرورين العلماء
والمغرورون منهم فِرق:
الفرقة الأولى
فرقة منهم لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية تعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصى، وإلزامها الطاعات فاغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان.. وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله تعالى مثلهم، بل يقبل عليهم ويقبل فى الخلق شفاعتهم، ولا يطالبهم بذنوبهم، وخطاياهم وهو مغرورون فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان: (١) علم معاملة.
(٢) وعلم مكاشفة.
وعلم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وبصفاته.. ولا بد من علم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة وهى العلم بمعرفة الحلال الحرام ومعرفة أخلاق الناس المذمومة والمحمودة..
1 / 36
ومثالهم مثال طبيب طب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه ولم يفعل.. وهل ينفع الدواء بالوصف؟!.. هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد الحمية.. وغفلوا عن قوله ﷾: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسها) ولم يقل من يعلم تزكيتها وأهمل علمها وعلمها الناس..
وغفلوا عن قوله ﷺ: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه) .
وغير ذلك كثير..
وهؤلاء المغرورن - نعوذ بالله منهم - وإنما غلب عليهم حب الدنيا وحب الآخرة وحب الراحة.. وظنوا أن علمهم ينحيهم فى الآخرة من غير عمل.
الفرقة الثانية
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر وتركوا المعاصى الظاهرة وغفلوا عن قلوبهم فلم يمحو منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلا وإرادة الثناء على الأقران والشركاء وطلب الشهرة فى البلاد والعباد، وذلك غرور
1 / 37
سببه غفلتهم عن قوله ﵊: (الرياء الشرك الأصغر) .
وقوله: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) .
وقوله: (حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) .
إلى غير ذلك من الأخبار.. وغفلوا عن قوله تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم) .
فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم.. ومن لا يصفى قلبه لا تصح طاعته.. ويكون كمريض ظهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلاء وشرب الدواء.. فاشتغل بالطلاء وترك شرب الدواء.. فأزال ما بظاهره.. ولم يزل ما بباطنه.. وأصل ما على ظاهره مما فى باطنه.. فلا يزال جربه يزداد أبدا مما فى باطنه..
فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة فى القلب يظهر أثرها على الجوارح، فلو زال ما فى باطنه استراح الظاهر.
الفرقة الثالثة
وفرقة أخرى علموا هذه الأخلاق.. وعلموا أنها مذمومة من وجه الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون.. وأنهم أرفع
1 / 38
عند الله من أن يبتليهم بذلك.. وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم فى العلم.. فأما هم فإنهم أعظم عند الله من أن يبتليهم.. فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة.. وطلبوا العلو والشرف.. وغرورهم أنهم ظنوا ذلك ليس تكبرا.. وإنما هو عز الدين، وإظهار لشرف العلم.. ونصرة الدين.. وغفلوا عن فرح إبليس به.. ونصرة النبي ﷺ لماذا كانت؟.. وبماذا أرغم الكافرين؟ وغفلوا عن تواضع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.. وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم حتى عوتب عمر رضى الله عنه فى بذاذته عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم عزنا الله بالإسلام.. ولا نطلب العزة فى غيره..
ثم هذا المغرور يطلب العز للدين بالثياب الرفيعة.. ويزعم أنه يطلب عز الدين وشرفه.. ومهما أطلق اللسان فى الحسد فى أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد.. ويقول: إنما هو غضب للحق ورد على المبطل فى عدوانه وظلمه.. وهذ مغرور.. فإنه لو طعن في غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب، بل ربما يفرح - وإن أظهر الغضب عند الناس بأنه يحبه.. وربما يظهر العلم ويقول: غرضى به أن أفيد الخلق.. وهو هراء لأنه لو كان غرضه صلاح الخلق لأحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله أو فوقه.
وربما يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثنى عليه.. فإذا سئل عن
1 / 39
ذلك قال: إنما غرضى أن أنفع المسلمين.. وأن أرفع عنهم الضرر.. وهو مغرور. ولو كان غرضه ذلك فرح به إذا جرى على يد غيره ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع فى أحد يغضب.. وربما أخذ من أموالهم فإن خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك قوام الدين.. وهذه ثلاثة تلبيسات.
أحدها: أنه مال لا مالك له.
والثانى: أنه لمصالح المسلمين.
والثالث: أنه إمام..
وهل يكون إماما إلا من أعرض عن الدنيا كالأنبياء والصحابة..
ومثله: قول عيسى ﵇: العالم السوء كصخرة وقعت فى الوادى فلا هى تشرب الماء ولا هى تترك الماء يخلص إلى الزرع..
وأصناف غرور أهل العلم كثيرة.. وما يفسد هؤلاء أكثر مما يصلحونه..
الفرقة الرابعة
وفرقة أخرى حكموا العلم.. وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات.. واجتنبوا ظاهر المعاصى.. وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء.. والحسد والكبر والحقد.. وطلب
1 / 40
العلو.. وجاهدوا أنفسكم فى التبرى منها وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية.. ولكنهم مغرورون إذ بقى فى زوايا القلب بقايا من خفايا مكايد الشيطان.. خبايا خدع النفس ما دق وغمض.. فلم يفطنوا لها.. وأهملوها.. ومثالهم كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه.. وفتش عن كل حشيش فقلعه.. إلا أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز فلما غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع. وهؤلاء إن غيروا تغيروا.. وربما تركوا مخالطة الخلق استكبارا.. وربما نظروا إليهم بعين الحقارة.. وربما يجتهد بعضهم فى تحسين نظمه لئلا ينظر إليه بعين الركاكة..
الفرقة الخامسة
وفرقة أخرى تركوا المهم من العلوم.. واقتصروا على علوم الفتاوى فى الحكومات والخصومات.. وتفصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش.. وخصصوا اسم الفقيه.. وسموه: الفقيه وعلم المذهب.. وربما ضيعوا مع ذلك علم الأعمال الظاهرة والباطنة ولم يتفقدوا الجوارح.. ولم يحرسوا اللسان من الغيبة والبطن عن الحرام.. والرجل عن السعى إلى السلاطين.. وكذلك سائر الجوارح.. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد.. وسائر المهلكات.. وهؤلاء مغرورون من وجهين:
1 / 41
احدهما: من حيث العمل وقد ذكرت وجه علاجه فى الإحياء، وأن مثالهم كمثل المريض الذى تعلم الدواء من الحكماء ولم يعلمه أو يعمله وهؤلاء مشرفون على الهلاك حيث أنهم تركوا تزكية أنفسهم وتخليتها.. فاشتغلوا بكتاب الحيض والديات والدعاوى والظهار واللعان.. وضيعوا أعمارهم فيها.. وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم ورجوع أحدهم قاضيا ومفتيا.. ويطعن كل واحد فى صاحبه.. وإذا اجتمعوا زال الطعن.
والثانى: من حيث العلم وذلك لظنهم أنه لا علم إلا بذلك وأنه المنجى الموصل.. وإنما المنجى الموصل حب الله.. ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته..
بمن تتحقق معرفة الله؟ ومعرفته ثلاث: معرفة الذات، ومعرفة الصفات.. ومعرفة الأفعال.. ومثال هؤلاء مثال من اقتصر على بيع الزاد فى طريق الحاج.. ولم يعلم أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى ومعرفة صفاته المخوفة. والزاجرة ليستشعر القلب الخوف.. ويلازم التقوى كما قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين) .
ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولا يهمه إلا العلم
1 / 42
بطريق المجادلة والإلزام.. وإقحام الخصم، ودفع الحق لأجل المباهاة.. وهو طول الليل والنهار فى التفتيش فى مناقضات أرباب المذاهب، والتفقد لعيوب الأقران.. وهؤلاء لم يقصدوا العلم.. وإنما قصروا مباهاة الأقران ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيرا لهم من علم لا ينفع إلا فى الدنيا.. ونفعه فى الدنيا التكبر.. وذلك ينقلب فى الآخرة نارا تلظى..
وأما أدلة المذاهب فيشتمل عليها كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ، وما أقبح غرور هؤلاء.
الفرقة السادسة
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم..
واستكثروا من علم المقولات المختلفة.. واشتغلوا بتعلم الطريق فى مناظرة أولئك وإفحامهم.. ولكنهم على فرقتين: إحداهما: ضالة مضلة، والأخرى محقة.
أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها عن ضلالتها وظنها بنفسها النجاة.. وهو فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا.. وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا شروط الأدلة ومناهجها.. فرأوا الشبه دليلًا.. والدليل شبهة.
1 / 43
وأما غرور المحقة، فمن حيث أنهم ظنوا بالجدال أنه أهم الأمور وأفضل القربات فى دين الله تعالى.. وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يتفحص ويبحث.. وإن من صدق الله تعالى من غير بحث وتحرير دليل فليس ذلك بمؤمن وليس بكامل ولا بمقرب عند الله، ولم يلتفتوا إلى القرن الأول.. وأن النبي ﷺ شهد لهم بأنهم خير الخلق ولم يطلب منهم الدليل وروى أبو أمامة عن النبي ﷺ. أنه قال: (ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه. إلا أوتوا الجدل) .
الفرقة السابعة
اشتغلوا بالوعظ.. وأعلاهم نية من يتكلم فى أخلاق النفس وصفات القلب.. من الخوف والرجاء.. والصبر والشكر والتوكل.. والزهد واليقين والإخلاص والصدق وهم مغرورون لأنهم يظنون بأنفسهم إذا تكلموا بهذه الصفات.. ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بها.. وهم منفكون عنها إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين.. وغرورهم أساس الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب..
ويظنون أنهم ما تبحروا فى علم المحبة إلا وهم من الناجين عند الله تعالى وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلودهم من العمل وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم لأنهم يظنون أنهم يحببون فى الله
1 / 44
ورسوله.. وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون ولا وقفوا على خطايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون.. وكذلك جميع الصفات.. وهم أحب فى الدنيا من كل أحد.. ويظهرون الزهد فى الدنيا لشدة حرصهم على الدنيا.. وقوة رغبتهم فيها.. ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين.. ويظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون ويخوفون بالله وهم منه آمنون ويذكرون بالله وهم له ناسون.. ويقربون إلى الله تعالى وهم منه متباعدون.. ويذمون الصفات المذمومة وهم بها متصفون ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا.. لو منعوا عن مجالسهم التى يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الأرض بما رحبت ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق.. ولو ظهر من أقرانه أحدهم ممن أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا.. ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله تعالى إليه، فهؤلاء أعظم الناس غرورا وأبعدهم عن التنبيه والرجوع إلى السداد.
الفرقة الثامنة
وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهج الواجب فى الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله ﵎.. فاشتغلوا بالطامات.. والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للإغراب.
1 / 45
وطائفة اشتغلوا بطيارات النكت ونسجيع الألفاظ وتلفيقها.. وأكثر همهم فى الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال.. والفراق.. وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض فاسدة.. وهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا.. فإن الأولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم.. وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن السبيل.. ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصى.. ورغبة فى الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيل والمراكب ويقنطهم من رحمة الله تعالى.
الفرقة التاسعة
وفرقة أخرى منهم فتنوا بكلام الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا فيعيدونها على نحو ما يحفظونه من كلام حفظوه من غير إحاطة بمعانيها.. فيعظهم بفعل ذلك على المنابر.. وبعضهم فى المحاريب.. وبعضهم فى الأسواق مع الجلساء.. ويظن أنه ناج عند الله.. وأنه مغفور له بحفظه لكلام الزهاد مع خلوه من العمل.. وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم.
الفرقة العاشرة
وفرقة أخرى شغلوا أوقاتهم فى علم الحديث.. أعنى سماعه.. وجمع الروايات الكثيرة منه.. وطلب الأسانيد الغريبة العالية.. فهمة
1 / 46