Aslah al-Adyan lil-Insaniyyah Aqeedah wa Shari'ah
أصلح الأديان للإنسانية عقيدة وشريعة
Maison d'édition
غير معروف
Genres
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: أصلح الأديان للإنسانية عقيدة وشريعة
المؤلف: أحمد عبد الغفور عَطار
الناشر: غير معروف
سنة النشر: ١٤٠٠ هـ - ١٩٨٠ م
مكة المكرَّمة (حرسها الله تعالى)
عدد الأجزاء ١
تنبيه:
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مصدر الكتاب نسخة مصورة قام الشيخ الجليل نافع - جزاه الله خيرا - بتحويلها
وقام الفقير إلى عفو ربه الكريم القدير بتصويبه
والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
1 / 19
أيُّ الأديان أصلح للإنسانية عقيدة وشريعة
واقع الوجود الإنساني يثبت أن الإسلام دين الإنسانية
عقيدة وشريعة، فمنذ ظهوره حتى اليوم وإلى قيام الساعة
وهو خير دين وأكمله، ولهذا جعله الله خاتم الأديان كما
جعل الرسول الذي بعثه به خير الرسل وأفضلهم وخاتمهم،
فلا دين غير الإسلام، ولا نبي بعد محمدٍ عليه الصلاة
والسلام.
وبراهين ذلك واضحة بشرط أن يكون العقل الذي
يتلمسها عقلًا مجردًا عن الهوى، منزهًا عن المواريث التي
تؤثر فيه.
وأكتب هذا وأنا مجرد عن الهوى، ومنزّه عن المواريث
التي تؤثر في عقلي، وأحب أن يكون لي دين من هذه
الأديان التي بين أيدينا، على أن يكون دينًا صحيحًا يحوي
العقيدة والسلوك والعاملة، يحوي المسجد والسوق والآداب
1 / 20
والأخلاق الفاضلة، ويستقبل الحياة بالتفاؤل والابتسام،
ولا يتجهم لها ولا يتشاءم، ويسيطر على الحياة والوجود
كليهما.
وبين يديّ حشدٌ من الديانات والمذاهب الاجتماعية، فما
الدين أو المذهب الذي يختاره العقل السليم والضمير
الصالح؟.
وطبيعي أن يبهون الدين المختار حاويًا العقيدة
والشريعة، لأن دين الإنسانية يجب أن يجتمع له ما يحتاج
إليه الإنسان في داخل نفسه وخارجها، حتى يكون صالحًا
للإنسانية كلها، لأنه لا يصلح لها دين يغفل أحدهما،
بل لا بد أن يجتمع له الدين والدنيا.
وعلى هذا نعرض للمذاهب والأديان المعروفة قديمًا
والقائمة في العالم اليوم لنختار منها الدين الصالح للإنسانية
في كل العصور القادمة.
وطبيعي ألا نعرض من المذاهب والأديان إلا ما كان
متبوعًا من فريق كبير من بني الإنسان أو كان متبوعًا في
عصر من العصور السالفة، إذ من الجائز أن يكون في ديانة
مندثرة أو مذهب اجتماعي مبتغانا.
1 / 21
الشيوعية
وبين أيدينا وفي عصرنا الذي نعيش فيه مذهب
اجتماعي هو المذهب الماركسي أو الشيوعي الذي سيطر على
شعوب كثيرة يبعد مجموع أفرادها أكثر من بليون.
فهل تصلح الشيوعية أن تكون دين الإنسانية عقيدة
وشريعة؟.
الشيوعية، آخر مذهب اجتماعي، له حكم وسلطان ودولة
عظمى، ويدين به مئات الملايين من البشر، وتعترف بأن
مذهبها مبني على الإلحاد والكفر وإنكار وجود الله.
وعندما تنكر الشيوعية وجود الله تعلن هذا الجحود
وتفاخر به، وتحارب كل دين ومعتقد، وتبذل النكيثة في
سبيل إحلال الإلحاد محل الاعتقاد الديني، وتنشر الكفر
والإلحاد، وتعاقب على التدين، وتحْرم المتدينين من
حقوقهم المدنية، بل تحرمهم من الحقوق الطبيعية.
فهل يصلح مذهب ينكر وجود الخالق لأن يكون
مذهب الإنسانية وهو خِلْو من العقيدة الدينية؟ طبيعبى
أن يكون الجواب: لا يصلح، لأنه خلو من الروح كله.
إن الدين أو المذهب الذي يصلح للإنسانية كلها يجب
1 / 22
أن يحوي الشريعة والعقيدة معًا، ويجب أن تكون العقيدة
صحيحة وسليمة، والشريعة خيِّرة وصالحة، وقد جاهرت
الشيوعية بالكفر والإلحاد والدعوة إليهما ونشرهما، ومحاربة
كل الأديان والمتدينين.
وأي دين أو مذهب يخلو من المعتقد الديني لا يصلح
لأن يكون للإنسانية، بل لا يصلح للحكم والسيادة، لأن
الشيوعية فرضت نفسها بالقوة والإرهاب والحديد والنار،
وإذا انحسرت عن بلد فإنه يعود إلى طبيعته متدينًا.
وإذا تركنا العقيدة ورضينا بالشريعة من الشيوعية
فهل تصلح لأن تكون شريعة متبعة للإنسانية أو لأمة أو
مجتمع؟.
إن أعظم مزية للإنسان الحرية: حرية المعتقد، وحرية
الفكر والرأي والقول والحركة، فهل نجد هذه الحريات في
كنف الشيوعية؟.
يجيب الواقع وهو نفسه البرهان القاطع، وجوابه:
لا وجود لأي ضرب من هذه الحريات، وأقرب مثال:
السياحة، فنحن نجد كل أبناء البلدان الحرة لا ينقطعون
ْعن السفر بالملايين، ولا نجد بينهم من الكتلة الشيوعية
غير الجواسيس والموظفين.
1 / 23
والبلدان المقدسة كالقدس ومكة والمدينة تزدحم
بقاصديهن على مدار أيام السنة من جميع أقطار العالم،
فأبناء الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام لا
تنقطع سيولهم الغزيرة المتدفقة عن المقدس الشريف،
وأبناء الإسلام من كل بلدان الأرض يهرعون بمئات
الألوف إلى مكة المكرمة - حرسها الله - للحج والعمرة،
وإلى المدينة المنورة زادها الله شرفًا وتعظيمًا للزيارة.
وليس بين الملايين من الحجاج والعُمّار والزوار من
دول الكتلة الشيوعية أحد، مع أن القاصدين منها قبل
الشيوعية كانوا بعشرات الألوف.
ولا وجود للفرد في الشيوعية، فهي تحتم ذوبانه في
المجموع، ولهذا لا نجد فيها فردًا مستقلًا ولا حرًا، فقد
ذوَّبته تذويبًا.
والمذهب الذي يخلو من الروح خلوًا تامًا، ولا إله لديه
غير المادة، وبناؤه كله قائم على أساس العنف العنيف لا
يمكن أن يكون مذهبًا موصوفًا بالصحة والسلامة، بل هو
مذهب العاهات والآثام، ومذهب كهذا لا يصلح لأن
يكون مذهب الإنسانية، لأنه خال منها، ولأنه لا وجود
لصفة إنسانية فيه.
1 / 24
البراهيمية
وإذا عدنا إلى الوراء لنختار من الأديان دينًا وجدنا
في الهند (البراهمية". وغيرها من مئات الديانات، وقد
سبقت دياناتٌ الديانةَ البراهمية، مثل الفيدية التي سبقتها
ديانات، وكانت الديانات في الهند تتعايش فيما يشبه
السلام، ومن الديانات الكبيرة في القارة الهندية: البراهمية
التي ما تزال حتى اليوم، ولعل أتباعها يزيدون على ثلاثمائة
مليون.
والبراهمية منسوبة إلى براهما، وقد كان - كما تذكر
البراهمية - عدمٌ ولا وجود، ثم كان البدء بوجود ماء
وعماء، ثم طفت على سطح الماء بيضة ذهبية احتوت سر
الوجود، فخرج براهما من هذه البيضة، براهما الإله
الأعظم الذي خلق الكون، وعُمْر براهما
١٥٥.٥٢٠.٠٠٠.٠٠٠.٠٠٠ سنة.
ومن معاني البراهما: الانقطاع عن الدنيا إلى العبادة
والفناء فيها، والصلاة، وهو أحد الثالوث المقدس المكون
من براهما نفسه ومن فشنو وسيفا.
وبراهما روح العالم غير المُحَسُّ به، وخالق الكون
ابتداء، وبدأت منه الآلهة، وإليه تعود، لأنه مُوجدها،
1 / 25
والروح الإنسانية شعلة من نيرانه المقدسة، وهو نفسه بدء
الخليقة.
ونسي القائلون بذلك أنما الماء سابق في الوجود لبراهما،
كما أن البيضة الذهبية سابقة على وجوده، أو ظاهرة على
خروجه منها، وعلى هذا نفَوْا عنه صفة القِدم كما نفَوْا عنه
صفة، (الأول" ونفوا عنه أيضًا صفة " الآخر " والخلود
السرمدي الأبدي الذي لا نهاية له، وزعموا أنه هو
" أجنا " إلهة النار المقدسة، لأنهم رأوه صاحب النيران
المقدسة.
وفشنو ثاني الثالوث الإلهي، وموصوف بأنه الباقي
والحافظ، ولئن كان يأتي بعد براهما فإن فشنو قد زاحمه
وانتزع منه صفة الخالق بعد أن سقطت هيبته التي انتهت
بانتهاء بدء الخلق الذي تمَّ على يديه، وانتقل منه إلى
فشنو "عملية " الخلق الثاني فالثالث وما بعد، وهو حافظ
الخلق ورازقه.
والإله سيفا ثالث الثالوث، وموصوف بأنه المبيد
المفني، وانتهى به الأمر أن صار موصوفًا بالإله العظيم.
وعندما انتقلت الديانة الهندية من الفيدية ذات
الثالوث إلى البراهمية ذات الثالوث أيضًا أصبحت قائمة
1 / 26
على المعرفة والفهم والبصيرة والإدراك والنطق، واقتضى
هذا التطور نشوء طبقة من الفقهاء والكهان تقاسموا
معرفة الأسرار وتفسير النصوص ورعاية آداب الديانة،
وطبيعي أن تكون هي وحدها الطبقة الأولى العليا، وفي
وقت متأخر عن نشوئها أطلق لفظ البراهما على كل فرد
فيها.
ويوصف براهما بأنه الإله الواحد، خالق الخلق، ولكن
هذه الوحدانية لفظ يعطل معناه وجود فشنو وسيفا،
أحدهما انتزع من براهما القدرة على الخلق الذي أعقب
بدء الخليقة وهو فشنو، والآخر سيفا موصوف بالخالق
الأعظم، وبذلك جرّد هذان الإلهان الإله الأول الأكبر من
أعظم صفاته ومزاياه.
ومن عقائد البراهمية التناسخ ووحدة الوجود، وكانت
هذه العقائد موجودة فيما سبق من الديانات مثل الفيدية،
ولهذا لا فناء للنفس أو الروح، لأنها عندما تكون مذنبة لا
تموت بموت صاحبها، بل تنتقل من جسد إلى جسد، وليس
حتما انتقالها إلى جسد آدمي، بل يجوز انتقالها إلى حيوان
أو نبات، وهذا هو عقاب الذنب، فإذا صَفَتْ الروح
سواء من أول مفارقتها صاحبها أو بعد التناسخ المتكرر
تندمج في الكل الذي لا يفنى، وهذا هو الثواب، وذلك
1 / 27
لاندماجه في " النرفانا " حيث تتساوى أرواح البشر
وأرواح الآلهة لتبقى في حالة الاندماج إلى ما لا نهاية.
وليس للنرفانا حقيقة ووجود إلا بالإسم، فهي أقرب
إلى أن تكون "لا شيء "
هذه البراهمية من ناحية العقيدة، ولم نُرد أن ندخل
بالقارئ في متاهاتها التي تنتهي بالسير إلى عالم الوهم غير
المحدود.
أما الشريعة في البراهمية فتتلخص في كلمات، إنها
انصراف عن الواقعِ وعزوف عن الدنيا.
وبدأ ظهور البراهمية في الفترة التي تقع بين القرن
الثامن والقرن السادس قبل الميلاد، وهناك ديانات
سبقتها بآلاف السنين، وأخذت الديانات البدائية تتدرج
حتى انتهت إلى الفيدية فالبراهمية فغيرها، وليس هذا
بالنسبة لكل الديانات البدائية، بل لما تطور منها، مع
بقاء كثير منها على ماكان عليه من البدائية.
ومع أن بضع مئات الملايين في القارة الهندية ما تزال
تدين بالبراهمية فإنها لا تصلح لأن تكون ديانة الإنسانية
لا من ناحية العقيدة التي تسيطر عليها الأساطير
والأوهام، ولا من ناحية الشريعة التى تمحو في النفس
1 / 28
الإنسانية دوافع العمل من أجل تعمير الأرض والتمتع
بطيبات الحياة، وتدفع بها إلى الإخلاد إلى الجمود
والخمول.
البراهمية لا تصلح للإنسانية شريعة، لأن أتباعها
أنفسهم قرّروا فقدان صلاحها قبل غيرهم، فاستبدلوا بها
قوانين الغرب وما وضع فقهاؤهم من قوانين.
والإنسان المتطور المتقدم حضاريًا لا تطيب له ديانة
تُميت فيه دوافع العمل والكفاح، وتجعل عالم الغيب أو
الآخرة عالمًا لا وجود له إلا في ضباب الأوهام.
وإذا كانت البراهمية غير صالحة لأن تكون دين
الإنسانية شريعة وعقيدة فإن بالقارة الهندية ديانات
أخرى مثل الجينية والبوذية نكتفي بهما عن سواهما، لأنهما
أكبر من غيرهما.
وخرج في الهند نفسها ومن أهلها على الفيدية
والبراهمية علماء وفقهاء كفروا بهما أشد الكفر، ونالوهما
بالنقد والتجريح، بل اتهموا الديانتين الكبيرتين حتى بلغ
بهم السخرية بالكهنة البراهميين أن شبهوهم بالكلاب،
1 / 29
يأخذ كل كلب بأسنانه ذيل أخيه في خط طويل هاتفًا:
لنأكل ولنشرب.
وفي بعض الأسفار إنكار لوجود الإله، وجحود بكل
ما في الديانة البراهمية، وإتهام لمؤلفي اليوبانيشاد بانهم
مرضى وحمقى ومهووسون.
وكان هناك فلاسفة ملحدون أعلنوا كفرهم
بالديانتين، وجاهروا بكفرهم وإلحادهم، وسخروا بهما أشد
السخرية، كما كان هناك فلاسفة مشّاءون يتنقلون من غابة
إلى غابة، ومن بلد إلى بلد وهم يعلنون الحرب على
الديانتين في عنف وضراوة، ووجدوا معجبين ومريدين
وتلامذة وأتباعًا وقفوا معهم على نقيض التزهيد
والتشاؤم، وأخذوا بالدعوة إلى انتهاب اللذات، وانتهاز
كل فرصة تتاح فيها المتعة واللذة، فما مضى لن يعود،
وليس هناك وحدة وجود، بل لا وجود لبراهما نفسه.
وبلغ الإلحاد والكفر بآلهة الديانتين حدًا قصيًا من
قبل هؤلاء الكافرين بها حتى قال بعضهم: لا فرق في
1 / 30
الحقيقة بين فشنو وأي كلب من الكلاب.
وتقوَّضت دولة الإيمان بالديانتين وآلهتهما في نفوس
ملايين من المؤمنين، وكثر عدد من كفروا بهم، وبلغَ الملايين،
وانتصر الملاحدة انتصارًا مؤزَّرًا في مجال الفكر والمنطق
والمادية حتى أن الديانتين اللتين جاءتا بعد الديانتين
السابقتين قد خلتا من الإله ومن الطقوس الدينية التي
ابتدعها الكهان.
وهاتان الديانتان الملحدتان هما الجينية والبوذية
اللتان كانتا من ثمار الحرب التي شنها الملاحدة على
الديانتين السابقتين.
***
الجينية
وتنتسب الجينية إلى جينا بمعنى القهار، وسميت
الديانةُ " الجينية " لأن مؤسسها الأول قهر نفسه فأطلق
عليها ذلك الاسم، واسم المؤسس فارذامانا
"المعروف بلقب ماهافيرا " بمعنى البطل العظيم،
وهو الاسم الذي خلعه عليه أتباعه المخلصون.
وعاش ماهافيرا ما بين ٥٩٩ - ٥٢٧ قبل الميلاد،
1 / 31
وقيل: ما بين سنة ٥٤٩ - ٤٧٧ ق. م، وعاش منعمًا مترفًا
في ثراء أبيه ومجده حتى فجع في والديه اللذين آثرا
الانتحار جوعًا، إذ كانا ينتميان إلى عقيدة تحبب
الانتحار الذي يحسب فيها نعمة لا تعد لها الحياة التي هي
لعنة في معتقدهم.
وخرج الابن حاقدا على المجد والثراء والنعيم والمسرة
إذ رأى غاية والديه الأليمة فتنكر للحياة نفسها، وارتدى
القشف والجوع والحرمان، وأخذ يتجول في إقليم البنغال
ينشد تطهير النفس وصفاء الروح ثلاث عشرة سنة حتى
انتهى إلى قهر نوازع نفسه، وسلطان شهواته وغرائزه.
وأعجب به الناس، ورأوْا (جينا" أي القهار بين
أيديهم يُبعث من جديد لينقذ الهند التي غرقت في أوحال
اللذات والآثام، واعتقدوا أنه "الماهافيرا" المنتظر بُعث
لينقذ الغرقى ويهدي الضالين، فالتفَّت الجماهير حوله
واتخذوه زعيمهم ورمزهم، وأطلقوا على مبادئه " الجينية "
نسبة إلى "جينا" بمعنى القهار.
بل ليست "الجينية " مبادئ وإنما ديانة، ولهذا رضي
أتباع ماهافيرا أن يحيَوْا حياة غاية في القَشَف والقسوة
والحرمان وتعذيب الجسمم والروح إلى حد لم يعرف في أي
دين.
1 / 32
فالجينية تحرم كل متعة ولذة وسرور، فأكل اللحم
حرام، وقتل كل ذي روح حرام، وكما الحرام إيذاء أي
كائن، سواء أكان إنسانًا أم حيوانًا أم نباتًا أم جمادًا،
والزواج حرام، لأنه متعة، والمتعة محرمة، والإعجاب
بالجمال أو حبه حرام.
وأسرف أتباع الديانة الجينية في الزهد وحرمان
النفس من كل شيء يبعث اللذة أو الراحة النفسية أو
البدنية، ويجب على الجيني أن يكون أكبر من الألم
والضيق، فلا يتبرَّم بألم الجوع والظمأ والبرد والحر، وألا
يضيق أو يتضايق بلذع الحشرات، وألا يشعر بالخزي أو
العار أو الخجل من العري، ولا يتبرم من النوم على
الأرض دون فراش، فحرام النوم على فراش.
ومن الفرائض ألا يشعر بالأسى على نعيم فقده، لأنه لا
أسف ولا حزن على حرام متروك.
ويأخذ الجيني نفسه بالقسوة التي لا قسوة بعدها، فعلى
الجيني أن يضع على لهب سراجه حاجزًا يمنع اقتحام فراش
أو حشرة لئلا تحترق، ومن الفرائض ألا تدخل في فمه أو
أنفه حشرة، فهو - لهذا - يحمل بيده مروحة يذود عنهما
الحشرات والهوامّ، ومن تلك الفرائض ألا يطأ حشرة عمدًا
أو غير عمد، بل لا يجوز أن يدعسها وهو لا يعلم، ولهذا
1 / 33
يحمل بيده مكنسة حين يمشي يكنس ما بين يديه حتى لا
تقع قدمه على حشرة فيقتلها أو يؤذيها.
وفرض على الجيني ألا يبكي أو يشكو أو يتأوه إذا
أصيب بما يؤلمه، بل يجب ألا يشعر بضيق من أي أذى أو
مصاب.
ويجب أن يتخلّق بالأخلاق الحسنة، ويتنزه عن كل
الآثام صغيرها وكبيرها.
وعندما يستطيع الجيني أن يخضع لدينه اثني عشر عامًا
يتبع ما رَسَم فإنه يصل إلى الدرجة العليا التي تمكنه من
قتل نفسه، فإذا استطاع أن يتنعم بالانتحار جوعًا مثل
ما فعل والدا الماهافيرا فقد أدرك النعيم.
وقد فارق كثير من زعماء الجينية الحياة على هذا
النحو، وما يزالون حتى أيامنا هذه ينعمون بهذا الانتحار،
ويبلغ عدد الجينيين حوالى المليونين في القارة الهندية.
ولا وجود في الديانة الجينية لإله، فعى لاهوت بلا إله
ولعل فيما ذكرناه في الجينية يغني عن المزيد، لأن أي
إنسان في الوجود كله من غير هؤلاء ذوي الفجائع
1 / 34
والعاهات والمصائب يرضى بأن يدخل في الجينية، ولم يؤثَر
أن أحدًا من أي بلد في العالم رضي بها دينا غير أناس من
الهند.
فالجينية لا تصلح لأن تكون دين الإنسانية عقيدة
وشريعة، بل لا تصلح لأن تكون دينًا على الإطلاق لغير
أولئك القوم.
***
البوذية
والبوذية من أديان الهند، وهي كالجينية ديانة ملحدة،
لا وجود فيها لإله ولاهوتها بغير إله.
والبوذية منسوبة إلى بوذا المولود سنة ٥٦٨ قبل
الميلاد بشمال الهند من إقليم نيبال من أب حاكم، وذكروا له
من الخوارق في حمله ومولده الشيء الكثير، كما ذكروا أن
والدته توفيت بعد ولادته بسبعة أيام لئلا تعيش فتحمل
غيره.
واسم بوذا هو سدذارتا، ومعناه: الذي حقق أمله،
وأما بوذا فمعناه: المستنير، وكانت له وهو أميرٌ ابن ملك
ألقاب، وعاش كأمثاله غارقًا في المتع والنعيم والجواهر
1 / 35
والذهب والترف حتى بلغ التاسعة والعشرين حيث تغير
مجرى حياته، فقد رأى ذات مرة مريضًا وذات مرة ميتا،
وأخرى شيخًا فانيًا فتأثر بما رأى، وساوره شعور لا يخلو
من التجديف.
وذات ليلة قرر أن يبحث عن الحقيقة فغادر القصر
مودِّعًا زوجه وولده، وعاش بين النساك حتى صار من
أئمتهم، ودرس أسفار الفيدا واليوبانيشاد، وغرق في
النسك والقشَف والتأمل، وانتهى إلى أعلى المراتب بين
النساك حتى صار مرشدهم، ودرس البراهمية وأطلع على
أسرارها، ولكنه لم يجد بها ما يرجو، ولم تبح له بسرِّ
الوجود والحياة، فانصرف إلى غارٍ بالبنغال، وقسا على
نفسه أشد القسوة، وتقلب في أشد ضروب الزهد والحرمان
وإذلال الجسد وإرهاق النفس، وتبعه خمسة من النساك
جعلوه إمامهم، وقضوا ست سنوات أشرفوا في نهايتها على
التلف وكادوا يهلكون.
وذاع صيت بوذا في الآفاق وهو على حاله حتى انتهى
به تعذيب الجسد وإرهاق النفس إلى حد السكون التام، لا
يتحرك، فكانت الطيور تقف عليه آمنة وكأنها تقف على
عود ثابت، بل كانت الوحوش تتحرك خلفه مطمئنة لا
تقربه بسوء، وعاش على ذلك ست سنوات دراكًا ومعه
1 / 36
خمسة النساك، إلا أنه صحا من سكونه ومن الحياة التي
حييها على جديد من الأمر، فقد أحس أن التجربة التي
خاضها لم تحقق مأمله، وصمم على الانتقال إلى حياة غير
الحياة السابقة، وحدَّث زملاءه الخمسة، فلم يستطيعوا ثَنْيَه
عن عزيمته فأخفقوا، فاتهموه بالردة والمروق، فاعتزلوه
وتركوه وغادروا المكان إلى مرج الغزال في مدينة بنارس.
أما بوذا فكان قد استرد بعض قواه ونشاطه، وانتقل
إلى شجرة جلس تحتها متربعًا، ضامًّا يديه وفخذيه وساقيه،
وعزم ألا يبارح مكانه ولا يفك حبوته ولو نخرت عظامه
وجف جلده أو يتنزل عليه نور الحكمة والمعرفة.
وما كاد سنا الفجر يشرق حتى أشرق معه نور الحقيقة
والمعرفة وأضاء قلبه وأدرك ما كان يرجو، أدرك أن
الماضي والحاضر والمستقبل كلٌّ لا يتجزأ، ويصف سر
الحياة والموت، ورحلة الروح في مختلف الأجساد حتى
تصعد إلى " النرفانا " حيث العدم العام وفناء النفس، وهما
السكينة والفناء، إنه وجود يفنى في وجود، مثل فناء
ألوان الطيف الشمسي في البياض الناصع الذي لا لون له،
ولا يمكن الوصول إلى النرفانا إلا بعد صفاء النفس
والفضاء في عالم الحس، أما تعذيب النفس والجسد
والعبادة الظاهرة فليس ذلك بسبيل إلى النرفانا.
1 / 37
لقد هبطت عليه (الاستنارة" فكان بوذا، وكثر
أتباعه، ومضى إلى مرج الغزال ببنارس يريد زملاءه
الخمسة الذين ما كادوا يرونه حتى عزموا فيما بينهم أن
يقاطعوه، وألا يكلموه، وما كاد يصل إليهم حتى هبوا
لاستقباله، فقد محت هيبته عزيمتهم المصممة، واحتفَوا
به، وأخذوا منه أول درس، فإذا النور يشرق في قلوبهم
ويفيض على وجوههم مسرة.
وبعد هذا التحول في حياة بوذا، كانت الديانة البوذية
وقوامها: أن براهما نفسه الإله الأعظم عند البراهمية
يصيبه التغير والفناء، مثله مثل أي كائن، وجحِدت
الفكرة القائلة: إن براهما يستمد وجوده من ذاته، كما
تنفي البوذية عن براهما أنه كائن روحي منزه بن شوائب
المادة، وتجحد أنه مصدر المعرفة والإلهام، ولا تؤمن بوجود
الآلهة، وتنفي عنها ما يعتقده فيها عبَّادها.
وتعتقد البوذية بالتناسخ، وهو عندها وعند أصحاب
البراهمية التي تعتقده قصاص، لأن النفس الشر يرة لا
تمضى إلى النرفانا لتفنى فيه، فلا ولادة) وإنما تمضى إلى
التناسخ الذي هو عقوبة الروح الشريرة الق تولد من
جديد لتحل في كائن آخر قد يكون إنساناَ أو حيوانًا أو
نباتا أو جمادا، وهكذا كلما مات الجسد الذي حلت فيه
1 / 38