فرفعت فدوى رأسها منادية: لا لا، لا أظن قلبه يطاوعه على السفر.
فقال شفيق: لو أردت مطاوعة قلبي يا عزيزتي ما كلفتك هذا العناء، وإنما هو الشرف والشهامة اللذان أنا عبد رق لهما. والآن، ما لنا وللخوض فيما لا فائدة لنا منه؛ فقد جئتكم مودعا. وأما عن القلب وما أصابه، فلا تسألوا؛ فليس لنا إلا التمسك بالصبر الجميل، والاتكال على الله.
ثم التفت إلى الباشا قائلا: وأما وصيتي لك يا سيدي، فالعناية بوالدي إذا جاءا القطر أثناء غيابي، وأما أنت يا عزيزتي، فلا تحتاجين إلى الوصية، وإنما أطلب إليك أن تسمحي لي برسمك حتى أستأنس به في سفري، إذا أمر بذلك سعادة والدك، ثم مد يده إلى جيبه وأخرج رسمه، وناولها إياه قائلا: وهذا رسمي يبقى عندك تذكارا ريثما أعود، إن شاء الله.
فأخذت فدوى رسمه بعد أن استأذنت والدها وهي تبكي، ولم تستطع النهوض حتى تأتيه برسمها إلا بعد العناء، فسارت وركبتاها ترتجفان، ثم عادت فناولته رسمها فتأمله، وإذا هو رسم فوتوغرافي كثير الشبه بها؛ يمثلها جالسة على كرسي ملثمة باللثام التركي كأنها تمعن في شيء، وفي يدها شيء، فتأمله، فإذا هو الزر الذي أعطاها إياه تذكارا. وبعد أن تأمل الرسم مدة، وضعه في جيبه. وكان يريد تقبيله، فمنعه الحياء. أما هي فكانت تنظر إلى الرسم ولا تتمالك عن البكاء.
ثم رأى شفيق أن مكثه أكثر من ذلك ربما زاد الطنبور نغمة، فنهض وقبل يد الباشا، فقبله وعيناه تدمعان، ثم مد يده إلى فدوى وضغط على يدها قائلا: أرجو أنك لا تنسين شفيقا. فخنقتها العبرات ولم تستطع جوابا.
فقال وهو يخرج يده من يدها: عسى أن تجمعنا الأقدار ثانية، فننسى هذه الأكدار وخرج تاركا فدوى في حالة يرثى لها من القلق والاضطراب، فأخذ والدها يطيب قلبها ويهون عليها، وكذلك والدتها، حتى سكن روعها.
الفصل الثاني والأربعون
القنوط من حياة شفيق
أما شفيق فإنه سار إلى معسكره، فرأى هيكس وأركان حربه على أهبة المسير، فأعد ما يحتاج إليه وكتب كتابا إلى والده في لندرا يخبره بحقيقة ما هو فيه، وكتابا إلى والدته يلح عليها أن تستطلع أفكار والده وتخبره، ويقول أخيرا إنه خاف أن تكون قد أطلعت والده وهو لم يقبل فكتمت عنه ذلك.
وفي اليوم التالي، سافرت الحملة عن طريق السويس فالبحر الأحمر إلى سواكن، ومن هناك في الصحراء إلى مدينة بربر على النيل، على نية أن يتخذوا النيل بعد ذلك خطة مسيرهم إلى الخرطوم؛ حيث يمكثون ويتحدون، ومن هناك يسيرون إلى الأبيض.
Page inconnue