ولما وصلت بهما العربة إلى المنزل، أوصت فدوى بخيتا بكتم الأمر عن والدها.
الفصل الرابع والعشرون
سفر والدي شفيق إلى إنكلترا
عاد عزيز بصفقة المغبون وقد ازدادت هواجسه وذهل عقله، فصار في شر بال وسوء حال، وقد أضناه حبه لفدوى، وحسده لشفيق، وحقده على بخيت، فسعى للانتقام من بخيت؛ لئلا يكون عثرة في سبيل تقربه من فدوى. وفيما هو يعمل المكيدة صدرت له الأوامر بالشخوص مع ضباط آخرين إلى الإسكندرية، فصعب عليه الأمر، وأحس بثقل الخدمة العسكرية التي لا مرد لأوامرها، فسار وقلبه في العاصمة.
وفي أثناء غيابه، وقع الخلاف بين مجلس النواب والوزارة على بعض مواد لائحة المجلس المذكور، واشتد الخصام حتى آل إلى استعفاء الوزارة، وتأليف وزارة جديدة برئاسة محمود سامي، وتقلد أحمد عرابي نظارة الجهادية فيها مع رتبة لواء (باشا)، فكان ذلك موجبا لتشامخ الحزب العسكري ورفعة منزلته، فاستفحل أمره، ورافق ذلك تنقل في الآلايات، فجاء آلاي عزيز إلى مصر، وسعى عرابي لترقية جانب من الضباط، فأصاب عزيزا من هذه الترقية أن أعطيت له رتبة يوزباشي، فصارت الشرائط ثلاثا. ولا تسل عن إعجابه بذلك الترقي بعد أن استفحل أمر الجهادية، وأصبحت أزمة الأحكام في أيديهم؛ مما آل إلى خوف الدول الأوروبية على مصالحها بمصر، فاتحدت دولتا إنكلترا وفرنسا، وقدمتا للحكومة الخديوية لائحة تطلب فيها تنزيل الوزارة، وإبعاد عرابي ورفقائه زعماء الثورة، مع حفظ نياشينهم ورتبهم وألقابهم.
أما الوزارة، فلم تر بدا من الاستعفاء، وكانت دوارع الدولتين راسية حينئذ في مينا الإسكندرية، فاستعفت في 26 مايو سنة 1882، فعظم ذلك على العرابيين ولم يقبلوا به، وما زالوا حتى أعادوا الوزارة بالقوة الجبرية، فنتج عن هذا زيادة الضغائن على الأجانب، مع أن عرابي كان يتابع إرسال المناشير للقناصل بضمن الأمن والسلام، حتى كانت مذبحة الإسكندرية في 11 يونيو سنة 1882، التي ذبح فيها قسم كبير من الإفرنج، ونهبت بيوتهم، فصدرت الأوامر من الحكومات الأجنبية إلى رعاياها بمهاجرة القطر المصري حالا في مراكب أعدت لذلك على نفقة الحكومات، فكان ذلك موجبا لسرور عزيز؛ لأن تلك المنشورات تقضي بسفر والدي شفيق لارتباطهما بقنصلاتو إنكلترا، فتحبط آمال فدوى وتضطر إلى القبول به.
أما فدوى فلما علمت بتلك المنشورات ذهل عقلها، وغاب صوابها، فاستدعت بخيتا وكاشفته بوجلها قائلة: إن والدي شفيق مسافران من هذه الديار، فما تكون حالي إذا اضطر البعاد شفيقا إلى إهمال العلائق والمودة بيننا، ثم تنهدت عن كبد حرى وتأوهت، وقد أذهلها الحب، فسحت الدموع ونسيت أن بخيتا بحضرتها فقالت: أينكث بالعهد؟ آه! يا إلهي، لا ترمني بوهدة اليأس، لا، لا. إني أجل ذلك الشهم الباسل عن الخيانة، ولكن إذا قضت عليه الأحوال بنكث العهود، فماذا أعمل ...؟
ها إن والديه مسافران إلى أوروبا، ولا يستطيع المجيء إلينا والبلاد تتقد بنيران الثورة العسكرية، وأهلها يبرحونها، وأنا المسكينة لا أستطيع المجاهرة بما في الفؤاد حتى يقتلني الهوى ويقضي علي بتباريحه، فماذا يوسيني أو يوسيني على الفراق وأنا أرى الشمس على حيطان بيته فأحسبها إياه. وربما أشاهد والدته بغتة فأبهت وتكاد تفارقني الحياة، فمن أين لي الصبر على هجره؟ ثم عمدت إلى مسند أمامها أسندت إليه يديها، واستلقت بهما رأسها، وأخذت تصعد الزفرات، فلما شاهد بخيت منها هذا لم يتمالك عن البكاء، فقال لها: يا سيدتي، خفضي من اضطرابك؛ فليس الأمر على ما تتوهمين؛ فإن شفيقا قد خصه الله بأرق العواطف، ومن كان مثله لا ينكث عهدا.
فلما سمعت اسم محبوبها رفعت رأسها كأنها هبت من رقاد عميق، فرأت بخيتا أمامها فخجلت من نفسها وقد نسيت أنها استدعته، فقالت له: وهل أنت مطلع على كل ما أبديته؟ فيا للخجل! فقال لها بخيت: لا يصعب عليك الأمر يا سيدتي؛ فالحب لا يخفى، والعواطف لا تقهر، إلى أين تظنين والدي شفيق يتوجهان؟ فقالت: قد فهمت من والدته أنهما يريدان إنكلترا لأن شفيقا هناك.
فصمت بخيت مفكرا ثم قال: وما المانع يا سيدتي من أن تكتبي إليه أنك ترغبين في الاطلاع على أحواله؟ فعسى أن تكون النتيجة على خلاف ما تظنين، وما الأمر إلا لله.
Page inconnue