فقال الباشا: ماذا تجعلون لي إذا جئتكم به؟ فحسبوه يمزح. أما بخيت فقال وقد أقعده التعب: إني أعطيك روحي يا سيدي، وها هي في قبضة يدك، فقال أحمد: لا، بل أنا أهب روحي فداء لسيدي وحبيبي. فزادت فدوى في البكاء ثم قال عبد الرحمن وهو يمسح دموعه وامرأته إلى جانبه تندب وتنوح: أرغب إليك يا سعادة الباشا ألا تهيج أشجاننا أكثر من ذلك؛ فقد كفانا ما قاسيناه وما لم نتخذ هذه العزلة إلا من أجله.
فقال الباشا: أمهلوني بضع دقائق فأخبركم الخبر اليقين. قال ذلك وخرج، فظنوه لا يزال مازحا، وأنه إنما خرج يريد شيئا لنفسه، فجلسوا يتحادثون ويتساءلون بعضهم عن بعض، ويتأسفون بصوت واحد على شفيق.
أما الباشا فخرج إلى حيث شفيق ينتظره، فوقف له شفيق، فأقعده وجلس إلى جانبه فقال له: لقد وعدتني يا سيدي بمشاهدة العائلة، ولا أزال في انتظار ذلك، فهل هن في شغل؟ قال: لا، ولكن لي عندك سؤالا أسألك الإجابة عنه.
فقال شفيق: سل ما بدا لك .
قال : أتذكر أني سألتك عندما قابلتك في مصر قبل سفرك إلى السودان عن أبيك فلم تجبني جوابا صريحا، ولكنك قلت إنك ستكتب إليه في لندرا ليكتب إلي، فهو لم يكتب إلي بعد، ولما سألتك عن وطنه ومذهبه لم تجبني قطعيا، فهل علمت الآن أين هو وطن أبيك؟ وما هو مذهبه؟
فتأوه شفيق وأراد الإجابة فسبقته العبرات، ثم تنهد وقال: آه يا سيدي! لا تذكرني بمصائبي؛ لأني لا أعلم أين مقر والدي الآن، وقد سألت عنهما في مصر فقيل لي إنهما غادراها إلى حيث لا يعلم أحد، وإنما يرجحون أنهما قصدا لبنان ليعتزلا عن الدنيا. أما سعادتكم فعلمت أنكم في بر الشام فلحقت بكم، وما زلت أسأل حتى علمت أنكم في دمشق، فسرت برفقة هؤلاء العساكر اللبنانيين حتى التقيت بكم كما علمت، وقد كنت أظن أني بالتقائي بكم أعرف شيئا عن والدي، فهل لك أن تفيدني شيئا تعرفه عنهما؟
قال الباشا: لم يكن علمي عنهما أكثر من علمك أنت حتى هذه الليلة، بل هذه الساعة، فقال بلهفة: وهل عرفت عنهما شيئا الآن؟ قال: قد عرفت أنهما على مسافة قريبة من هنا.
فنهض شفيق عن الأرض قائلا: قل بالله أين مقرهما. آه وا والده! وا أماه!
قال: هما في مكان قريب من هنا، وفي الصباح أبعث معك بمن يهديك إليهما.
فصاح شفيق: كيف أنتظر إلى الغد؟ فها إني أسير إليهما في هذه اللحظة، وأرغب إليك يا سيدي أن تفيدني عن مكانهما الآن، ولك الفضل علي. فضحك الباشا قائلا: إنهما في هذا البيت يا ولدي.
Page inconnue