قال: ليس لي أهل فيها، ولكن لي بعض الأصدقاء، وقد جاءوا إليها لقضاء بضعة أشهر.
فقال الشيخ: هل لك أن تخبرني عن هؤلاء الأصدقاء؛ لأننا قادمون من دمشق في صباح هذا اليوم، فلعلنا نعرف شيئا عنهم، وإلا فأسألك الإغضاء عن جسارتي في هذا السؤال.
فقال الفارس وقد أزاح اللثام عن وجهه تاركا الكوفية على رأسه: العفو، يا سيدي، ليس في سؤالك ما يوجب الاعتذار، ولكن أصدقائي المشار إليهم غرباء، والأغلب أنكم لا تعرفونهم؛ لأنهم من بلاد مصر.
فقال: إن صهري الذي رأيته الآن معنا قادم من مصر، فلعله يعرف أحدا من أصدقائك. قال ذلك ودخل يدعو صهره، فجاء وهو لا يزال ملثما، وهم توا إلى ذلك الفارس وحياه بكل لطف، وبدأ بالاعتذار إليه على عدم مجيئه من بادئ الرأي؛ لاشتغاله بتضميد جراح الجريح، ثم أخذ يشكر همته وغيرته وهو مطرق خجلا، فقال الشيخ: إن حضرة الفارس قادم من مصر يريد دمشق لمشاهدة بعض أصدقائه من المصريين. فقطع الباشا عليه كلامه قائلا: قد لحظت في كلام حضرته عندما خاطبته الآن لغة مصرية، ولكن من هم أصدقاء حضرتك؟ قال: هم عائلة مصرية يقال لها عائلة فلان باشا.
ولم يتم كلامه حتى تقدم الباشا إليه وتأمله قائلا: إن الذي تطلبه هو هذا الداعي، ومن حضرتك؟
فأمعن الفارس بالباشا قليلا ثم رمى بنفسه عليه صارخا: مرحبا بسيدي وعمي. وطفق يقبل يديه، فبهت الباشا لذلك وأدرك على ضعف النور هناك أن الشاب الذي يكلمه هو شفيق بعينه، فوقع في حيرة بين الانذهال والاضطراب، واليأس والرجاء، ولكنه لم يستطع التوقف عن تقبيله وضمه إلى صدره، فأسرع شفيق في السؤال عن باقي العائلة، وقد أراد السؤال عن فدوى خاصة، فقال: هي في خير، وستراها قريبا.
ثم أجلسه وهو يقول له: كيف أننا سرنا كل هذه الطريق معا ولم يعرف أحدنا الآخر؟ قال: إني كنت في شاغل عن كل ذلك بتطلعي نحو دمشق؛ حيث قيل لي إنكم مقيمون، وقد ساعد على ذلك مبالغتكم في التلثم. فهم الباشا أن يعرفه بذلك الشيخ، فسمع ضوضاء في حجرة السيدات فتركهما مستأذنا وهما - فيما علمت - من اللهفة والاستغراب، ودخل ليسأل عن سبب ذلك، فرأى امرأته وامرأة عمه وصاحب المنزل اللابس اللباس الأسود المستطيل متعانقين يبكون ويقبلون بعضهم بعضا، فاندهش أيما اندهاش وسأل عن سبب ذلك، فإذا بامرأة عمه قد أغمي عليها وهي تقول: وا ولداه! وفلذة من كبداه! أأنت حي بعد ولدي عبد الرحمن؟ فأسرعت امرأة صاحب المنزل؛ لأنها كانت أقدر الجميع على المشي، وجاءت بالماء ورشت المغمي عليها حتى أفاقت، ففهم الباشا أنه أخو امرأته الذي كان مفقودا، فحقق النظر فيه، فإذا هو إبراهيم والد شفيق، فوقف مبغوتا ولحيته ترقص على صدره من شدة التأثر؛ لغرابة ذلك الاجتماع، وتساقطت عبراته، ولم يعد يعلم ماذا يقول، فظنوه مبغوتا من منظرهم، فقالت له امرأته: هذا هو شقيقي الذي لم أره منذ 25 سنة، فنشكر الله على وجوده. فأخذ الباشا يهنئهم بالسلامة وهو يفكر بذلك الاتفاق العجيب، وحدثته نفسه أن يخبرهم عن شفيق، ولكنه خاف على الوالد والوالدة أن يموتا من شدة الفرح، فصبر حتى كفوا عن البكاء. أما إبراهيم وامرأته فإنهما ما زالا يشهقان من البكاء وقد شاركتهما في ذلك فدوى؛ لأنهم تذكروا فقيدهم العزيز وولدهم وحبيبهم شفيقا، فقال إبراهيم: آه آه من الدهر الذي قصم ظهري، ونغص عيشي! أما كان يحسن به أن يتم عقد اجتماعنا، ويكون فيه ولدي وحبيبي، ومهجة كبدي، ومنتهى أملي شفيق ... آه من الزمان ...! آه من الدهر! آه يا لتعاسة حظي! وأخذ يلطم وجهه، فأراد الباشا أن يخبره بأن شفيقا في الجانب الآخر من المنزل، فخاف عليه من غائلة العواطف لئلا يصيبه سوء، فأخذ يخفف عنه قائلا: إن الله قادر أن يجمعكما به، فتأس الآن بأختك ووالدك. وها إني ذاهب لأدعو لك والدك، وخرج فلقيه الشيخ قبل وصوله إلى المسطبة وسأله عن سبب تلك الضوضاء، فقص عليه الخبر بأسلوب لطيف بحيث لا يتأثر، فدخل ذلك الشيخ وألقى نفسه على ولده وقبله حتى أغمي عليه، فرشوه بالماء حتى أفاق، وجلس الجميع يهنئون بعضهم بعضا. أما الباشا فخرج إلى شفيق والتأثر ظاهر على وجهه، فسأله شفيق عن سبب ذلك - وكان قد أشفق على فدوى لئلا تكون قد أصيبت بسوء - فقال الباشا: خيرا يا ولدي، ولكني أسألك أن تمهلني قليلا لآتيك بالخبر اليقين. فجلس كأنه على جمر الغضا.
ودخل الباشا الغرفة وأغلق الباب وراءه، فإذا هناك الشيخان وولداهما وكنتهما وحفيدتهما، والجميع يندبون شفيقا، فوقف في وسطهم قائلا: من ينقصكم الآن حتى يتم عقد اجتماعكم؟ فصاحوا بصوت واحد: شفيق شفيق.
وكان بخيت في غرفة قريبة من تلك، فلما سمع كلمة «شفيق» هب من فراشه كأنه ليس عليه بأس، وجاء ماشيا وقد نسي أوجاعه، ودخل بلهفة قائلا: أين شفيق يا أسيادي؟ وجاء من الجهة الأخرى الخادم أحمد بمثل تلك اللهفة، فقال الباشا: وما الذي أقامك من فراشك يا بخيت؟ قال: والله، يا سيدي، إن شفيقا ليقيمنني من القبر وليس من الفراش فقط! فأين هو؟
فلما سمعت فدوى كلام بخيت علمت أنه يتكلم بلسان حالها، فتهيجت عوطفها وازدادت في البكاء، فقال بخيت: قد سقط بيدي، فهل سيدي شفيق ليس هنا؟
Page inconnue