الفصل السابع والثمانون
كشف السر
فقالت فدوى: بورك فيك يا بخيت. لقد نطقت بالصواب؛ فهيا بنا نعود إلى المنزل؛ لأن الشمس قد أغربت. فنهضت، وفيما هما في الطريق لحظ بخيت على طريق العربة المؤدية إلى القرية رجلا عرفه من ملابسه أنه ساعي البريد قادما من بيروت، فأنبأ سيدته، فقالت: إليك به؛ لعل لنا معه كتبا من والدتي. فأسرع إليه، فلما التقى به عرفه الساعي فقال: لدي كتاب لسعادة الباشا. وهم إلى (الجزدن) ودفع إليه كتابين، فإذا بأحدهما أكثر سماكة من الآخر كأن فيه أكثر من كتاب، فقالت له فدوى: لعل لي في هذا الكتاب كتابا خاصا بي، ومتى وصلنا إلى والدي نعلم الحقيقة. ولما وصلا البيت لقيا الباشا وقد فرغ صبره في انتظار البريد، فأخذ الكتابين وجلس وابنته في الحجرة، وفض أول كتاب وقرأه، ثم فض الآخر وإذا في طيه كتاب آخر ورقه قديم - وكانت فدوى أثناء قراءة الكتاب صامتة تنظر إلى ما يبدو من والدها - فإذا به وهو يقرأ قد ظهر على وجهه علامات التعجب، فخفق قلبها ورغبت في استطلاع الأمر، لكنها لم تشأ أن تقطع قراءة والدها، ثم رأته قد تناول الكتاب الآخر القديم وفتحه، وأخذ يقرأ فيه وهو في انذهال، فلم تعد تستطيع صبرا، فأخذت تخطر في الحجرة، فأدرك والدها منها ذلك، فتظاهر بانشغاله في أمر مهم خارج الغرفة، وخرج ثم عاد وقد أخفى أحد الكتابين، فأدركت فدوى أن في الكتاب الآخر ما يهمها، فصبرت نفسها، ولكنها سألت والدها عن الأخبار، فقال: إن والدتك في خير وهي تود المجيء إلى هنا، فقالت: ولماذا؟ قال: لقضاء فصل الصيف والذهاب إلى دمشق لمشاهدة والديها .
فقالت فدوى: حبذا مجيئها، فإني أستأنس بها في هذه الديار، فهلا ألححت عليها بالمجيء، قال: سأكتب إليها بشأن ذلك.
أما فدوى فما برحت تفكر بالكتاب الذي أخفاه والدها عنها، ولم تعد تعلم كيف تصبر نفسها، فبعد العشاء وذهاب الباشا إلى غرفة منامه خلت ببخيت وأخبرته الخبر، فقال لها: طيبي نفسا؛ فإن علي بتلك الورقة وإطلاعك عليها.
قالت: أريد منك ذلك عاجلا.
قال: علي به الليلة - إن شاء الله - وسآتيك بالكتاب في أثناء هذا الليل.
قالت: سر وفق الله مسعاك.
ومضى بخيت واستلقت فدوى على فراشها للرقاد وجفنها لم يغمض قط، وكانت إذا سمعت صوتا تظن بخيتا قادما، فمضى نصف الليل ولم يأت. وفي نحو الساعة الثانية بعده، سمعت وقع أقدام في الغرفة - وكان النور فيها ضعيفا - فانتبهت وجلست وأشعلت شمعة، فناولها بخيت الورقة، فدنت من الشمعة وأخذت تقرأ فإذا فيها.
اعلمي يا امرأتي العزيزة أن حكاية ذلك الصندوق وذلك الشعر الملوث بالدماء حكاية قد كتمتها عن جميع المخلوقات نيفا و23 سنة، وقد كنت عازما على كتمانها إلى أن يقضي الله بما يشاء، على أن إلحاحك وسفرنا في البحور الآن حملاني على كتابة هذا إليك، حتى إذا أصابني سوء في البحر أو البر، فتقرئين هذه الورقة وتعلمين حكايتي وأصلي وفصلي.
Page inconnue