فإليك بعد اليوم معذرةً ... لاقَتك بالتَّصريح مُنكشِفا
لا تُسدِيَنَّ إليَّ عارفةً ... حتَّى أقومَ بشكر ما سلفَا
وأتى بهذا المعنى دعبل بقوله:
فأُقسمُ لا عن جفوةٍ لا ولا قِلى ... ولا مَلَل أبطأتُ عنك أبا بكرِ
ولكنَّني لمَّا أتيتُك زائرًا ... فأفرطتَ في بِرِّي عجزتُ عن الشكرِ
فمِلآنَ لا آتيكَ إلاَّ مسلِّمًا ... أسلِّم في الشَّهرَينِ يومًا وفي الشَّهرِ
فإن زدتَني برًّا تزيَّدتُ جَفوةً ... فلا نلتقِي حتَّى القيامة والحشرِ
وهذه الأبيات دون أبيات أبي نواس، لأنَّ أبيات أبي نواس جيدة الألفاظ صحيحة المعنى، والَّذي أبدع في هذا المعنى حُسن لفظ واستيفاء معنى البحتري بقوله:
إنِّي هجرتك إذ هجرتك وحشةً ... لا العَودُ يُذهبُها ولا الإبداءُ
أخجلتَني بندى يدَيكَ فسوَّدتْ ... ما بينَنا تلك اليدُ البيضاءُ
وقطعتني بالجودِ حتَّى إنَّني ... متخوِّفٌ أن لا يكونَ لقاءُ
صلَة غدتْ في النَّاس وهي قَطيعة ... عَجَبًا وبرٌّ راحَ وهْوَ جَفاءُ
وقد ردَّه البحتري أي هذا المعنى في شعر آخر وهو قوله:
إيهًا أبا الفضل شكري منك في نصب ... أقصِرْ فما ليَ في جدواك من أربِ
لا أقبلُ الدَّهرَ نَيلًا لا يقومُ به ... شكري ولو كانَ مُسديهِ إليَّ أبي
ولئن كان لأبي زُبيد فضيلة السبق وجودة الاختراع فإنَّ للبحتري حسن اللفظ واستيفاء المعنى، بل هو أحقّ بهذا المعنى من كلِّ من أتى به من المتقدمين والمحدثين. ومن جيد ما قيل في هذا المعنى أيضًا قول مسلم ابن الوليد:
ولِي صاحبٌ ما زالَ يُصبح رِفدَهُ ... ويُمسِي بلا منٍّ عليَّ ولا كِبْرِ
رأَى أنَّ شكري مستقلٌّ ببذله ... فرَبَّ بعَودٍ لا بكيٍّ ولا نَزْرِ
متى أشكر النُّعمى وسَهلٌ يَرُبُّها ... سيعجزني لا من جُحودٍ ولا كُفرِ
وقد أخذ معنى أبي نواس والبحتري بعض الشعراء فقال:
إذا كنتَ قد قلَّدتني لك منَّة ... وحمَّلتَ نُعمى لا أُطيقُ بها نَهْضا
فدَعني أُخفِّفُ ثقلَها بتشكُّري ... لعلَّ اضطلاعي بالتَّشكُّر أن يقضا
وما غبتُ عن عينيكَ مذ غبتُ عن قِلى ... ولا كانَ إغفالي زيارتكم رَفْضا
بلَى جزتَ حدّ البرّ حتَّى فضَضْتَ عن ... كتاب احْتشامي خاتمًا لم يكن فُضَّا
فإن زدتَني برًّا تزيَّدتُ جفوةً ... فلا نلتقي ما أمطرتْ مزنَةٌ أرضَا
وهذه الأبيات لفظ دعبل برمَّته وأخذ هذا المعنى وأتى به وزاد فيه قليلًا بقوله:
فإن يكُ أربَى شكري على ندى ... أُناسٍ لقد أرْبَى نداه على شكري
زيادته في هذا المعنى والبيت أنَّه ذكر أنَّ شكره قد أربى على ندى أقوام، وإنَّ ندى هذا الممدوح قد أربى على شكره، وقد نظر البحتري أيضًا إلى هذا المعنى في مكان آخر فقال:
كلَّما قلتُ أعتقَ المدحُ رقِّي ... رجعتْني له أياديه عبدا
ولسعيد بن هاشم الخالديّ في هذا المعنى قوله:
ووالله ما عارضتُ جودَك ساعةً ... بشعري إلاَّ كانَ اشعر من شعرِي
كأنَّ عطاياك الجسيمة أقسمَتْ ... بأنِّي لا أنفكُّ مهتضم الشكرِ
1 / 52