جِدَةٌ يذود البخلُ عن أطرافها ... كالبحر يدفع مِلحَه عن مائهِ
ولقد جوّد البحتري، وإن كان قد أخذ المعنى بأسره وبعض اللفظ.
أعرابيّ:
لقد بان منّا مالك وجياده ... تخمَّطُ فيما بينهن المذاودُ
ولا يبعدنك الله ميتًا فإنّما ... حياة الفتَى سير إلى الموت قاصدُ
من هنا أخذ البحتري قوله:
وكانت حياة المرءِ سوقًا إلى الرَّدى ... وأيامُه دون الممات مراحِلُ
وله مثله:
وما أهل المنازلِ غير ركب ... مناياهم رواحٌ وانتظارُ
أعرابي من كلب، يمدح مسلمة بن عبد الملك:
نزور امرأً من آل مروان لم يزل ... لنا منه عِلمٌ لا يحدُّ ونائلُ
تراه إذا ما أظلمَ الخطبُ مُشرقًا ... كمثل حسام أخلصَتْه الصياقِلُ
أخذه البحتريّ فجوَّد فيه:
يتوقَّدْن والكواكبُ مطفا ... تٌ ويقطعن والسيوفُ نوابي
هذا معنى قد اشترك فيه جماعة، فمن جوّده أبو تمام في قوله:
ترمي بأشباحنا إلى مَلِك ... نأخذُ من ماله ومن أدَبِهْ
وأخذه البحتري فجوّد فيه:
يفيض سماحةً والمزن مُكْدٍ ... ويقطع والحسامُ العَضْبُ نابِ
آخر:
نغدو فإمّا اسْتعرنا من محاسنه ... فضلًا وإمّا اسْتَمحنا من أياديهِ
ولقد أتى ابن الرومي في نهاية التجويد واستيفاء المعنى بقوله:
يقول عليّ مرَّة وأنالني ... وكان عليًّا في معانيه كاسْمهِ
أرى فضلَ مال المرءِ داء لعِرضه ... كما فضل طعم المرء داء لجسمهِ
فرحتُ برفدَيهِ وما زلت رابحًا ... برِفدَين من شتّى نداه وعلمِهِ
أبو قيس بن الأسلَت:
من يذقِ الحربَ يجدْ طعمها ... مُرًّا وتتركْه بجَعجاعِ
قد حصَّتِ البيضةُ رأسي فما ... أطعم نومًا غير تهجاعِ
أعددتُ للأعداء موضونة ... فضفاضةً كالنِّهي بالقاعِ
أحفِزُها عنِّي بذي رونق ... مهنّدٍ كالملح قطَّاعِ
هلاَّ سألتِ القوم إذ قلّصتْ ... ما كان إبطائي وإسراعي
هل أبذلُ المالَ على حبِّهِ ... فيهم وآتي دعوةَ الداعي
وأضربُ القونَس يوم الوغى ... بالسيف لم يَقْصُر به باعي
وقال يزيد بن خذاق العبدي:
لن يجمعوا ودّي ومَعْتبتي ... أو يُجمعَ السَّيفانِ في غِمْدِ
ماذا بدا لك نحتُ أثلتِنا ... فعليكَها إن كنتَ ذا حَرْدِ
ومكرتَ مُلتمِسًا مذلَّتنا ... والمكْرُ منك علامةُ العَمْدِ
وهززتَ سيفك لي تحاربني ... فانظُر لسيفك من به تُردي
أخذ قوله " أو يجمع السيفان في غمد " أبو ذؤيب فقال:
تريدين كيما تجمعيني وخالدًا ... وهل يُجمعُ السيفان ويحكِ في غمْدِ
وأخذه آخر فقال:
إذا جُمع السيفان في الغمد فالتمِس ... صلاحَ بني عمرو وآل رزين
ابن وعلة الشيباني:
غَدونا إليهم والسيوف عصِيُّنا ... بأيماننا نَعلو بهنّ الجماجِما
لعمري لأشبَعْنا ضِباعَ عنيزةٍ ... إلى الحول منهم والنسورَ القشاعِما
ومستلَبٍ من درعِه ورماحِه ... تركتُ عليه الذِّئبَ ينهش قائما
مقاس العائذيّ:
ألا أبلغ بني شَيبان عنّي ... فلا يكُ من لِقائكم الوداعا
إذا وضعَ الهزاهزُ آل قوم ... فزاد اللهُ حيَّكم ارتفاعا
وقد جاورتُ أقوامًا كثيرًا ... فلم أرَ مثلكم حزمًا وباعا
أخذ القطامي قوله " إذا وضع الهزاهز آل قوم " فقال:
إذا ما الله أوضع آل حيٍّ ... فزاد الله حيَّكم ارتفاعا
قال ذو الرمّة:
وليل كجلباب العَروس ادّرَعْتُه ... بأربعةٍ والشخصُ في العين واحِدُ
أحمُّ عِلافيّ وأبيضُ صارِم ... وأعيَسُ مُهْريّ وأشْعَبُ ماجِدُ
أخذه البحتريّ فقال:
يا نديميَّ بالسواجير من ودّ ... بن عمرو وبُحتر بن عَتودِ
اطْلُبا ثالثًا سوايَ فإنّي ... رابعُ العيس والدُّجى والبيدِ
وما نعلم أنّ البحتري أخذ لمتقدّم معنى أو لمحدث إلاَّ زاد فيه أو ساواه بكلام عذب مليح إلاَّ هذا المعنى فإنَّه لم يلحقْهُ وقصَّر عنه. ولله درُّ ذي الرمَّة فلقد طرف كلام بيته الأوّل وقد جوّد قسمة الثاني، وقد ذكر قوم ولم يصحّ عندنا أنّ البحتريّ ردّ هذا المعنى في قصيدة أوّلها:
ما لها أولعَتْ بقطع الودادِ ... كلَّ يوم تروعني بالبعادِ
وإن صحّ هذا الشعر للبحتري فإنَّ ذي الرمّة أجود كثيرًا، يقول فيها:
عُني الخضر بي فصيَّرني بع ... دَك عينًا على عيارِ البلادِ
ثاني العيس ثالث الليل والسّ ... يْرِ نديم النجوم ترب السهادِ
عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ:
رحلنا من الوعساء وعساء مالك ... لحين وكنا عندها بنعيم
فما لبَّثَتْنا العيس أن قذفت بنا ... لذي غربة والعهد غير قديم
فأصبحن قد ودَّعن نجدًا وأهلَه ... وما عهد نجد عندنا بذميم
هذا مثل قول الآخر:
ولئن رحلْنا عن دياركم ... فبِها تعلَّلْنا عن الكَرْبِ
أعرابيّ:
أكْفِ العشيرة أن ولَّوك أمرَهم ... وإن كفَوك فلا تحسد ولا تَعِبِ
احمل مجاهلَهم واضمَنْ مغارِمَهم ... رحب اللبان بها مسترخي اللَّبَبِ
زهراء الأعرابية:
وسائلةٍ بظهر الغيب عنّا ... وما تدري أمُتْنا أم حييْنا
فنحن كما يسرّكِ غير أنّا ... بنا الأيّام بعدكِ يرتمينا
فإنْ نسلمْ نزُرْكِ على قلاص ... يجاذبن الأزمَّةَ والبُرينا
أعرابيّ:
دفعناكم بالحِلم حتَّى بَطِرتم ... وبالرَّاح حتَّى كان دفع الأصابعِ
فلمّا رأينا شرَّكم غيرَ منتهٍ ... وما غاب من أحلامكم غير راجعِ
مسِسْنا من الآباء شيئًا وكلُّنا ... إلى حسبٍ في قومه غير واضعِ
فلمَّا بلغْنا الأمَّهاتِ وجدْتم ... بني عمَّكم كانوا كرامَ المضاجعِ
ما أحسن هذا المعنى وأجوده! وزاد أنَّه قال: ما زلنا نحلم عنكم وندفع بلاءكم بجهدنا، فلمّا رأيناكم غير مقلعين عن مكروهنا ذكرنا آباءكم، وهم أعمامنا، فلم نجد فيكم مطعنًا، فلمّا ذكرنا أمَّهاتكم رأيناهنّ في الشرف دون أمّهاتنا، لأنّ أمّهاتنا أشرف، فعلمتم أنتم أنَّ بني عمّكم كانوا يضاجعون نساء كانوا أكرم ممّن كان يضاجع آباءكم، ففضلنا عليكم بالأمهات، وإن كان الآباء واحدًا.
أعرابيّ:
فإن يكُ إحسانٌ يقرّبُ حاجتي ... إليك ويُدنيها فقد حان حينُها
وقد أقسمَتْ جهدا التجحد دَينَنا ... فقد حَرِجت فينا وبرّتْ يمينُها
سوّار بن المُصرَّب السَّعديّ:
فلَو سألتْ سراةَ الحيّ سَلمى ... على أنْ قد تلوَّنَ بي زماني
لخبَّرَها ذَووا أحسابِ قومي ... وأعدائي فكلٌّ قد بلاني
بأنِّي لا أزالُ أخا حُروبٍ ... إذا لم أجْنِ كنتُ مجِنَّ جاني
طفيل الكلابي:
طُلِّقتِ إن لم تسألي أيُّ فارس ... حليلُكِ إذ لاقى صُداءً وخَشْعَما
أكُرُّ عليهم دَعْلجًا ولبانَهُ ... إذا ما اشتكى وقعَ الرماح تَحمْحَما
وهذا مثل قول عنترة:
ما زلتُ أرميهم بغرَّة وجْهه ... ولبانه حتَّى تسَرْبل بالدَّم
وازْورَّ من وقع القنا بلبانه ... وشكى إليَّ بعَبرةٍ وتحمحُم
لو كان يدري ما المحاورةُ اشْتَكى ... أو كان لو عرف الكلامَ مكلِّمي
ومثله قول عمر بن أبي ربيعة:
لَشكى الكميتُ الجَرْي لمّا جهدتُه ... وأفصحَ لو يستطيع أن يتكلَّما
ومثله وأومَى إلى فرس الممدوح فقال:
كم كم تجرِّعه المنون فيصبِرُ ... لو يستطيعُ شكا إليك الأدْهَمُ
أُنَيف بن زبّان الطَّائي:
دَعَوا لنزارٍ وانتَمينا لطَيِّءٍ ... كأُسْدِ الشّرى إقدامُها ونِزالُها
فلمّا التقينا بيَّن السيفُ بيننا ... لسائلةٍ عنّا حفِيٍّ سُؤالُها
الفرّارُ السُلَميّ:
وكتيبةٍ لبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتَّى إذا التَبَستْ نفضتُ لها يدي
فتَركتُهم تقِصُ الرماحُ ظهورَهم ... وقُتلتُ دون رجالهم لا تَبْعدِ
ومثل هذا قول الحارث بن هشام المخزوميّ:
اللهُ يعلمُ ما تركْتُ قتالَهم ... حتَّى عَلَوا فرمى بأشْقَر مُزبِدِ
وعلمتُ أنّي إنْ أقاتلْ واحدًا ... أُقْتَلْ ولا يضرُرْ عدوّيَ مَشهدي
فصدَدتُ عنهم والأحبّةُ فيهم ... طمعًا لهم بعقاب يومٍ موصدِ
كان سبب هذا الشعر أنَّ الحارث بن هشام، وهو أحد الفرّارين، فرَّ من وقعة كان شهدها فقال فيه بعض الشعراء وهو حسان بن ثابت:
إنْ كنتِ كاذبةَ الَّذي حدَّثتني ... فنَجوت مَنجى الحارث بن هشامِ
ترك الأحبَّةَ أن يُقاتلَ دونهم ... وبحا برأس طمِرَّةٍ ولجامِ
فلمّا بلغ الحارث الشعر قال يعتذر بالشعر الَّذي قدمنا ذكره، وإلى هذا نظر البحتري في قوله:
وقعدتُ عنك ولو بمهجة فارس ... غيري أقوم إليهم لم أقعُدِ
ما كان قلبك في سواد جوانحي ... فأكون ثمَّ ولا لساني في يدي
وللشعراء في ذكر الفرار أشعار تكثر وتتسع جدًّا ونحن نأتي بأشياء من نظائره في غير هذا الموضع.
قال الحصين بن الحُمام المُرّي:
تأخَّرْتُ أستبقي الحياةَ فلم أجِدْ ... لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدّما
ولَسْنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ... ولكن على أقدامنا تقطُرُ الدَّما
وأطرق إطراقَ الشّجاع ولو يَرى ... مساغًا لنابَيهِ الشجاعُ لصمَّما
لِذي الحلم قبل اليوم ما تُقرَعُ العصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلاَّ ليعلما
قوله " تأخرت أستبقي " البيت، مثل قول الخنساء:
نهين النفوسَ وهونُ النفو ... سِ يومَ الكريهة أبْقى لها
ومثله أيضًا:
ولا يُنْجي من الغمرات إلاَّ ... براكاءُ القتال أو الفِرارُ
وقوله " ولو يرى مساغًا لنابيه الشجاع لصمَّما " يقول: يصيب صميم القلب بسنّه فيقتل، وقد روي " فسمَّما " من طريق السمّ، وهذا جائز إلاَّ أنّ الأول أجود تمييزًا.
فأما قوله " لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا " البيت، فالأصل فيه أنّ ذا الأصبع العَدواني كان حكم العرب في أيامه، يقضي بينهم في المشكلات في أمورهم حتَّى أسنّ وتغيَّر عقلُه، فكان ربّما أنى بالشيء الَّذي لا يجوز حتَّى يتبيَّنه ثمَّ يرجع. وكان له ابن عم يتصدّر للحكومة، فقال أهل ذي الأصبع له: إنّك ربّما خلطت في أحكامك، ونحن نخاف أن ينزل بنا بلاء من هذا الأمر، قال: فاجعلوا بيني وبينكم علامة، إذا خلطت عرفتموني بغير كلام حتَّى أنْتَبه. فقالوا: إنّا نقيم أمَتَك فلانة لهذا الأمر، وكانت فهمة لبيبة، فإذا خلطتَ قرعتِ العصا بالأرض فتعلم الخبر، فقال: افعلوا، فكانت الأمة لا تفارقه، فإذا اختلط قرعتِ العصا فانتبه وعلم أنَّه قد أخطأ فيرجع إلى فكره ويزول عنه خلطه. وقد ذكر أيضًا في قرع العصا شيء آخر، وهو أنّ بعض الأعراب كان في ناحية عمرو بن هند الملك، وكان غالبًا عليه، وكان عمرو بن هند جبَّارًا لا يراجع في قول ولا فعل أمر، وكان لهذا الرَّجُل أخ عاقل لبيب، فإذا أراد عمرو توجيهه إلى ناحية يرتاد فيها الكلأ لينتجعه توجّه إلى تلك الناحية وحدّ له أيامًا، فتجاوز الحدّ بأيام أُخر، فغاظ ذلك عمرًا، فقال: والله إن جاءني حامدًا للموضع أو ذامّا له لأقتلنَّه. ثمَّ ندم على يمينه وقال لأخيه: قد ندمت، ولا بدّ من إمضاء الأليّة، فقال له أخوه: أبيت اللعن! دعني أنذره ليتخلَّص. فقال: افعل فلمّا قدم على الملك قرع له أخوه العصا وكأنّه علم ما في نفسه، ثمَّ قال له الملك: كيف وجدت الأرض، قال: لم أجد خصبًا يحمد ولا جدبًا يذمُّ، فتخلَّص من سطوته، وضربت العرب بقرع العصا مثلًا. والأول من الخبرين أصحّ عندنا وأثبت في العقل. وقد قيل في ذلك أيضًا إنّ جذيمة الأبرش لمّا سار إلى الزبّاء، وقد وجَّهت إليه أن يصير إليها لتتزوّج به، وكانت ملكة شرقي الفرات، وكان مولاه قصير قد نهاه عن المصير إليها وحذَّره إياها، فلم يقبل. فلما شارف بلادها رأى أمارات استوحش لها، فقال لقصير: إيش الرأي عندك؟ قال: ببَقةَ أُبْرم الرأي، وكان أشار عليه، وهو نازل ببقّة أن يأتيها، وبقّة ناحية الأنبار، فلم يقبل، فذهبت كلمته مثلًا، وقال له جذيمة: دع عنك هذا، ما الرأيُ؟ وكانت لجذيمة فرس يقال لها العصا لا تُجارى ولا يشقُّ غبارها، فقال له قصير: قد صرنا في بلدها ودارت بنا عساكرها، فإذا قرعت لك العصا بالسوط فاعمَل على أن تطرح نفسك عليها وتنجو بحشاشتك فضربت العرب بضرب العصا مثلًا للرجل ينبَّه على الأمر الَّذي تخشى عاقبته.
قال إياسُ بن قبيصة الطائي وقد هرب من كسرى:
ما ولدتْني حاصِنٌ ربَعيَّة ... لئن أنا مالأتُ الهوَى لاتّباعِها
ألم ترَ أنَّ الأرضَ رحبٌ فسيحة ... فهل تُعجزنّي بقعة من بقاعِها
ومبثوثةٍ بثَّ الدَّبى مُسيطرَّةٍ ... رددْنا على بِطائها من سراعِها
وأقْدَمتُ والخطّيّ يخطُر بيننا ... لأعلمَ من جَبانُها من شجاعِها
أعرابي قتل أخوه ابنًا له فقدَّم إليه ليقْتاد منه فألقى السيف من يده وقال:
أقولُ للنفس تأساءً وتعزيةً ... إحدى يديَّ أصابتني ولم تُرِدِ
كلاهما خلَف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولَدي
1 / 48