ولحميد أيضًا من قصيدة:
قضَى اللهُ في بعضِ المكاره للفتى ... برُشدٍ وفي بعض الهوَى ما يُحاذرُ
ألم تعلمِي أنِّي إذا الإلفُ قادَني ... سوى القَصد لا أنقادُ والإلفُ جائرُ
وقد كنت في بعض الصَّباوة أتَّقي ... أمورًا وأخشَى أن تدور الدَّوائرُ
وأعلمُ أنِّي إن تغطَّيتُ مرَّةً ... من الدَّهر مكشوفٌ غِطائي فناظرُ
وما خلتنا إذ ليس يحجِزُ بيننا ... وبين العِدَى إلاَّ القنا والحوافرُ
ووصل الخُطَى بالسَّيف والسَّيف بالخطَى ... إذا ظنَّ أنَّ السيفَ ذو السيفِ قاصرُ
إلى أن نزلنا بالفضَاء وما لنا ... به معقِلٌ إلاَّ الرّماح الشّواجرُ
أما قوله: " قضى الله في بعض المكاره " البيت، فمثل من أمثال العرب جيّد، وذلك أنَّه لم يقل: " قضى الله في المكاره " فيجمعها كلها فصيَّر الرشد في بعضها وكذلك في بعض الهوى، وهو مثل قول الله سبحانه:) وعسَى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم (فالله ﷿ إنَّما ذكر شيئًا من أشياء كثيرة، وكذلك الشاعر جعل في بعض الكره رشدًا، وفي بعض الهوَى حذَرًا، وقد قال بعض المحدثين في هذا المعنى وجوَّد:
توكَّلْ على الرحمن في كلِّ حاجةٍ ... طلبتَ فإنَّ اللهَ يقضي ويقْدرُ
وقد يهلِكُ الإنسانُ من وجه أمْنِه ... وينجو بإذن الله من حيثُ يحذَرُ
وأما قوله: " ووصل الخطى بالسيف " البيت، فمأخوذ من قول الأنصاريّ:
إذا قَصرتْ أسيافُنا كان وصلُها ... خطانا إلى أعدائنا فنُضارِبُ
ومن قول الآخر:
نصلُ السيوفَ إذا قصُرن بخَطْونا ... قُدما ونُلحقهنَّ إن لم تَلْحقِ
وهذان البيتان أجود من بيت حميد لفظًا وحسنا. وروي أنَّ فتى من الأزد دفع إلى المهلّب بن أبي صفرة سيفًا له وقال: يا عمّ! كيف ترى سيفي هذا؟ فقال له المهلّب: سيفك جيد إلاَّ أنَّه قصير، فقال له الفتَى: أُطوِّله يا عمّ بخَطوي، فقال له: والله يا ابن أخي إنّ المشي إلى الصين أو إلى أقصى أذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة. لم يقل المهلّب هذا جبنًا بل على ما توجب الصورة، إذ كانت تلك الخطوة قرينة الموت. وقوله: " إلى أن نزلنا بالفضاء " البيت. فجيِّد نادر، وقد عوَّل ابن الرومي عليه في قوله:
حلُّوا الفضاءَ ولم يبنوا فليس لهم ... إلاَّ القنا وإطارُ الأفْقِ حيطانُ
ولحميد أيضًا، وقد روى بعض العلماء هذا الشعر لليلى الأخيلية:
إنَّ الخَليعَ ورهطَه من عامر ... كالقلب أُلبِس جؤجؤًا وحَزيما
لا تُسرعنّ إلى ربيعة إنّهم ... جمعوا سوادًا للعدوّ عظيما
شعبًا تفرَّق من جِماع واحد ... عَدَلتْ مَعدًّا تابعًا وصميما
فاقْصِر بذَرعك لو وطئتَ بلادهم ... لاقَتْ بِكارتُك الحِقاقُ قُروما
وتعاقبتك كتائبُ ابن مُطرِّف ... فأرتْك في وضَح النهار نجوما
ومشقَّقٌ عنه القميصُ تخالُه ... وسطَ البيوتِ من الحياء سقيما
حتَّى إذا رُفِع اللِّواء رأيتَه ... تحتَ اللواء على الخميس زعيما
وإذا تُساءُ وجدتَ منهم مانعًا ... فُلْجًا على سخط العدوِّ مقيما
أو ناشئًا حدثًا يُحكِّم مثلَه ... صُلعُ الرجال توارثَ التحكيما
الَّذي لا شك فيه أن هذا الشعر لليلى الأخيلية، لأنها كانت كثيرة المدح لآل مطرِّف العامريّين حتَّى ضرب بذلك البحتري مثلًا في شعره فقال وذكر جيشًا:
لو أنَّ ليلى الأخيلية عاينَتْ ... أطرافه لم تُطْرِ آل مُطرِّفِ
أما قوله: " ومشقق عنه القميص " البيت، والَّذي بعده، فمن جيِّد الكلام وفاخر المدح، وهم يمدحون الرَّجُل السيّد والمرأة الحسناء بالسقم والضعف، وليس يريدون السقم بعينه، ولكن يريدون الانكسار، فإذا وصفوا الرَّجُل بذلك أرادوا أنَّه ساكن الأطراف، والنظر العاقل والحلم، فإذا هيِّج للحرب زال عنه ما نعتوه به. وإنَّما يصفونه بهذه الصفة في حال السلم لا في الحرب. وقد أكثرت الشعراء في هذا المعنى. وقول ليلى أو حُميد الَّذي ذكرناه من أجود ما قيل فيه، ولقد جوَّد الآخر في قوله:
إذا غدا المسكُ يجري في مفارقهم ... راحوا كأنَّهُمُ مرضى من الكَرمِ
وقال آخر:
وعلى الثنيَّة من خُزيمةَ سادةٌ ... يتمارَضون تمارُضَ الأُسْدِ
وأما ذكرهم المرأة بذلك فيريدون الترفّه والنعمة والحياء كما قيل:
ضعيفةُ كرِّ الطرفِ تحسِبُ أنَّها ... قريبةُ عهدٍ بالإفاقة من سُقْمِ
وقال مسلم بن الوليد في هذا المعنى فجوَّد:
ضعيفة أثناء التَّهادي كأنَّما ... تخافُ على أحشائها أن تقطّعا
وهذا وأشباهه كثير في الشعر.
وقولها: " أو ناشئًا حدثًا " البيت، تريد بذلك غلامًا حدثًا إلاَّ أنَّه قد ساد فهو يحكم على الصُلع من الرجال وهم الكهول والمشائخ فلا يردُّ حكمه لأنه من أهل بيت شرف فقد ورث سؤددهم ومآثرهم. ومثله قول الخنساء:
رفيعُ العماد ورِيّ الزِنا ... دِ ساد عشيرتَه أمْردا
ومثله لآخر:
وإذا سألت الجودَ أين محلُّه ... فالجودُ تِربُ القاسم بن محمّدِ
قاد الجيوش لخمس عشرة حجةً ... يا قُرب ذلك سؤددًا من مَولدِ
ومثل هذا قول الآخر:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجةً ... ولِداتُه عن ذاك في أشغال
قعدَتْ بهم همّاتُهم وسَمتْ به ... همَمُ الملوك وسورةُ الأبطال
ولسعيد بن هاشم الخالدي هذا المعنى إلاَّ أنَّه قد زاد فيه وهو قوله:
ساد في مَيعة الشباب وأبْهى الزَّ ... هْرِ ما لاح في الغُصون الرطابِ
وقال جِران العَود النُّميري، ولا يعرف في نسيب الأعراب وغزلهم أحسن ألفاظًا من هذه القصيدة ولا أملح معاني، والمختار منها قوله:
ذكرتَ الصبا فانهلَّتِ العينُ تذرِفُ ... وراجعَك الشوقُ الَّذي كنتَ تعرفُ
وكان فؤادي قد صحا ثمَّ هاجَه ... حمائمُ وُرق بالمدينة هُتَّفُ
فبتّ كأنَّ العينَ أفنانُ سِدرةٍ ... عليها سقيط من ندى الليل ينطُفُ
أُراقبُ لَوحًا من سهيل كأنَّه ... إذا ما بدا من آخر الليل يَطرفُ
فلا وجدَ إلاَّ مثلَ يومَ تلاحقَتْ ... بنا العيسُ والحادي يشُلُّ ويعطفُ
وفي الحيِّ مَيلاءُ الخمار كأنَّها ... مَهاةٌ بهجْل من ظباءٍ تعطَّفُ
تقولُ لنا والعيس صُعّر من السرى ... فأخفافها بالجندل الصُّمّ تقذِفُ
حُمِدتَ لنا حتَّى تمنّاكَ بعضُنا ... وقلنا أخو هزلٍ عن الجدّ يصدفُ
وفيكَ إذا لاقَيتنا عَجْرفيَّة ... مِرارًا وما نهوى الَّذي يتعَجْرفُ
فمَوعدُك الوادي الَّذي بين أهلنا ... وأهلِكَ حتَّى نسمعَ الديكَ يهتِفُ
ويكفيك آثارٌ لنا حين نلتقي ... ذُيولٌ نُعفيها بهنّ ومُطرَفُ
فنُصبحُ لم يُشْعَر بنا غيرَ أنّه ... على كلّ حالٍ يحلفون ونحلِفُ
فأقبلنَ يمشينَ الهُوَينا تهاديًا ... قِصارَ الخُطا منهنَّ رابٍ ومرجَفُ
فلمّا هبطن السهلَ واحتلنَ حيلةً ... ومن حيلة الإنسان ما يتخوفُ
حملن جِرانَ العَود حتَّى وضعنَه ... بعلياء في أرجائها الجنُّ تعزِفُ
فبِتْنا قُعودًا والقلوبُ كأنّها ... قطًا شُرَّع الأشراكِ ممّا نخوَّفُ
علينا النَّدى طورًا وطورًا يرشُّنا ... رذاذٌ سرى من آخر الليل أوطَفُ
يُنازعْننا لَذًّا رخيمًا كأنَّما ... عواثرُ من قطر حداهُنَّ صَيِّفُ
رقيق الحواشي لو تسمَّعَ راهبٌ ... ببُطنانَ قولًا مثلَه ظلَّ يرجفُ
ولمّا رأينَ الصبحَ بادرنَ ضوءه ... كمَشي قطا البطحاء أو هُنّ أقطَفُ
وما أُبنَ حتَّى قُلن يا ليت أنَّنا ... تُرابٌ وأنَّ الأرض بالناس تُخسَفُ
فأصبَحْنَ صَرعى في الحجال كأنّما ... سقاهنّ من ماءِ المدامة مُرقَفُ
يبلّغُهنَّ الحاجَ كلُّ مكاتَب ... طويل العصا أو مُقعدٌ يتزحَّفُ
رأى ورقًا بيضًا فشدَّ حَزيمَه ... لها فهو أمضى من سُليكٍ وألْطَفُ
ولن يستهيمَ الخرّد البيضَ كالدمَى ... هِدانٌ ولا هِلباجةُ الليل مُقرفُ
ولكن رفيقٌ بالصِّبا متطوّف ... خفيف لطيف سابغُ الذَّيلِ أهيفُ
يُلمُّ كإلمامِ القُطاميِّ بالقَطا ... وأسرعُ منه لَمَّة حين يخطفُ
فأصبح في حيث التقينا غُدَيّة ... سِوارٌ وخَلخال وبُردٌ مُقوَّفُ
أما قوله: " فبتُّ كأنَّ العينَ أفنانُ " البيت، فمن أحسن ما قيل في الدمع وأجوده وأطرفه. وشبيه به قول الآخر:
لعينُك يوم البَين أسرعُ واكِفًا ... من الفَنَنِ الممطُور وهْوَ مَروحُ
وقال هذا البيت قد جوّد أيضًا وزاد على من تقدّمه وأتى بعده، وذاك أنَّه لم يرضَ أن يكون دمعه مثل الفنن، وهو الغصن، الَّذي يقع المطر على ورقه فهو يجري حتَّى قال: " وهو مَروح " أراد أن الريح تحرّكه فهو لا يهدأ من القطر. وليس بعد هذا نهاية في تحادر الدمع وسرعته.
وقوله: " أراقب لوحًا من سهيل " البيت، مليح التشبيه صحيحه لأنه من تأمّل رآه كأنَّه عين تطرِف.
وقوله يصف قولها له: " وفيك إذا لاقيتَنا عجرفيَّة " البيت، يقال إنَّ النساء يملن إلى من كانت فيه دعابة ولهو ولا يملن إلى غير ذلك، فذكر جران العَود عنهن أنهنَّ قلن له: لستَ على ما وُصفت لنا لأنَّ فيك عجرفيَّة، وقد وُصفت لنا بغيرها حتَّى تمنَّيناك وما نحبّ الَّذي يتعجرف. ويُذكر أن كُثيّرًا أنشد بعض نساء الأشراف قوله:
وكنتُ إذا ما جئتُ أجلَلْن مَجلسي ... وأعرضْنَ عنه هَيبة لا تَجهُّما
يُحاذرنَ منِّي نبوَةً قد عرفْنَها ... قديمًا فما يضحكنَ إلاَّ تبسُّما
فقالت له: يا ابن أبي جُمعة، أبهذا القول تدَّعي الغزل؟ والله ما نال وصلنا وحظي بودّنا إلاَّ من يجري معنا كما نريد ويجعل الغيَّ، إذا أردناه، رشدًا. قم لعنك الله، فقام منقطعًا. وإلى قولها نظر البحتري فقال:
ولا يؤدِّي إلى المِلاحِ هوَى ... من لا يرَى أنَّ غيّه رشدُ
1 / 30