كلمة واجبة
الممثلون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تقريظ
كلمة واجبة
الممثلون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تقريظ
أشباح القرن الثامن عشر
أشباح القرن الثامن عشر
تأليف
مارون عبود
كلمة واجبة
في العشرين من شهر تموز سنة 1923م، سألني جناب رئيس الجامعة الوطنية «عاليه» - إلياس أفندي شبل الخوري - تأليف رواية تمثيلية ليمثلها بعض طلبة جامعته؛ فلبيت الطلب ووضعت هذه الرواية.
رأيت تلبية طلب هذا الرئيس المفضال المتفاني في سبيل خدمة الناشئة العزيزة فرضا مقدسا على كل وطني يزن الرجال بميزان الأعمال؛ فاندفعت إلى تأليفها، واخترت لها هذا الموضوع التاريخي؛ لأنه ما برح يجول في خاطري منذ طالعت تاريخ لبنان، فجاءت روايتي كما يراها القارئ الكريم صورة تمثل أطوار الحكام في تلك الأجيال المظلمة وقرون الدياميس.
وقد عني بتمثيلها جناب المهندس الرياضي الكبير وديع أفندي غبريل نائب رئيس الجامعة ورئيس جمعية الثمرة فيها، يعاونه الأديب الفاضل الأستاذ نجيب أفندي منصور حاج، فإنني أشكر لهما ولأعضاء جمعية الثمرة الذين مثلوا أدوارها همتهم ونهضتهم الأدبية.
لا زالت الجامعة الوطنية جامعة لشتات العلوم والآداب، حافلة بالمبادئ السامية، سباقة إلى كل جديد، تهدي إلى الوطن رجالا بعناية رئيسها العامل واضع حجر الأساس في بناية التعليم الوطني.
مارون عبود
4 آب سنة 1924م
الممثلون
الفاتك:
الأمير المغتصب.
عارف وصالح:
وزيراه.
حلزة:
نديم.
طرفة:
كاتب سره.
بدر:
قائد جيشه.
حسان:
حاجبه.
المنتصر (الأعمى):
شقيق الفاتك.
الناصر (الظافر):
ابن المنتصر.
الحارس:
شقيق الناصر.
كلثوم وجماد وصخر:
من رجال الظافر.
طعان:
رئيس عصابة.
جواد:
سجان.
جابر:
جندي.
قسيس.
جنود.
الفصل الأول
في باحة قصر الأمير
المشهد الأول (طعان وحده)
طعان (يدخل ملتفا بعباءته، بيده مشعل وفي زناره خنجر مشكوك) :
لقد أضنكني التعب، ما أمر حياة قطاع الطرق وأصعب مهمة رؤساء العصابات! أهذا هو المكان؟ نعم، هذا هو القصر، أذكر أنني مررت به مرة، ماذا يريدون مني؟ الجواب تحصيل حاصل: الفتك بالناس، يا طعان! يا شقيق عزرائيل! عفوا - أيها الضمير المخدر - لا تبكتني ؛ فهذه طريق اختطها لنا مولانا الأمير فسرنا عليها، والناس على دين ملوكهم ... لم أجد أحدا، أتلك أحبولة لاصطيادي؟ لا لعمري، فلنسترح قليلا حتى يأتي المساوم. (يرتمي على المقعد، وبعد هنيهة يفتح الباب، ويقف به رجل ملثم؛ فينهض طعان قائلا له):
أأنت الذي يطلبني؟
المشهد الثاني (طعان - بدر)
بدر (يدخل) :
نعم، وقد قيل لي: إنك أمهر من ضرب بسيف وطعن بخنجر.
طعان :
إنني أقتل الرجل الذي أنازله.
بدر :
ولهذا الغرض استقدمتك إلي، أأنت مستعد للقيام بما أطلبه منك؟
طعان :
نعم، ولكن أتعرف الجعل
1
الذي أتقاضاه؟
بدر :
إنني أجهله، بيد أنني أنقدك ما تطلبه مني على شرط أن تقتل الرجل ... (يجلس بدر على المقعد ويخرج كيسا مملوءا ذهبا من جيبه ويضعه أمامه قائلا):
أسمعت؟
طعان :
قل.
بدر :
أمستعد أنت لقتله؟
طعان :
هذه مهنتي.
بدر :
الرجل قوي هائل، أليس لك رجال؟
طعان :
لا أحتاج إلى أحد.
بدر :
الرجل بطل مخيف هائل.
طعان :
سيقتل.
بدر :
ألا تخاف؟
طعان :
ومم أخاف؟
بدر :
من الرجل.
طعان :
لقد صرعت قبله رجالا.
بدر :
إذن موعدنا الساعة التاسعة، يعاونك على مهمتك رجلان وأنا ثالثهم.
طعان :
وأين الملتقى؟
بدر :
في وادي الجوز.
طعان :
أنا مستعد.
بدر :
خذ الكيس، واذهب إذن.
طعان (يتناول الكيس وبعد وصوله إلى الباب يعود قائلا) :
ما اسم الرجل؟
بدر :
وما يهمك اسمه؟
طعان :
يجب أن أعرف اسم من أقتله، وإلا فلا أقوم بمهمتك.
بدر :
بطل هائل خرج من القبر حيا، يفتك بمن يتصدى له وهو رأس عصابة تعيث في البلاد فسادا.
طعان :
لا أفهم الكنايات والرموز صرح، قل ما اسمه؟
بدر :
اسمه الظافر.
طعان :
ماذا قلت؟
بدر :
الظافر.
طعان :
الظافر؟
بدر :
نعم.
طعان :
الظافر؟ أهذا الذي أقتله الليلة؟
بدر :
نعم، نعم الظافر.
طعان (يرمي كيس الدراهم) :
خذ دراهمك فلا حاجة لي إليها.
بدر :
من أين لمثلك هذه النزاهة؟
طعان :
قلت لك استرد دراهمك.
بدر :
ولماذا؟
طعان :
لأنني لا أريد أن أمد يدي إلى الظافر.
بدر :
ويلك يا تعس! أأنت راغب في زيارة السجن؟ ألا تؤدي خدمة للحكومة؟
طعان :
أنا لا أعرف حكومة، أنا لا أعرف سيدا، إياك والتطاول، أنا لا أشتم، أنا لا أهان (يضع يده على قبضة خنجره). (بدر يضطرب.)
طعان :
خذ ذهبك فلست رجلك، أنا لا أريد اختلاسك، أفهمت ما أقول؟
بدر :
إنني أدع لك الذهب؛ لأنك جريء جسور، ولكن قل ما السبب؟ يظهر أنك خائف من الظافر.
طعان :
أنا لا أعرف الخوف.
بدر :
بلى تعرفه، وقد راعك ذكر الظافر.
طعان :
كل من تحدثه نفسه بمقاومة الظافر يموت موتا، أما أنا فلا أخاف الموت.
بدر :
إذن لماذا ترفض؟ تكلم، ناشدتك أبالسة الجحيم وشياطين الأرض. (يتحرك فيظهر ثوب القائد العام.)
طعان :
عفوا يا حضرة القائد العام، فأنا أعرف الناس.
بدر (ينهض تاركا رداءه على المقعد) :
أما وقد عرفتني، فهل تجسر على مقاومتي.
طعان :
ولم لا؟ فقبل أن تحرك يدك أقتلك. (بدر يصفر ويضطرب.)
طعان :
أما إحجامي عن قتل الظافر فسببه بسيط جدا.
بدر :
ما عساه يكون؟
طعان :
أنا قاتل ولست جاسوسا، مهنتي خدمة الرجال الذين لا يحسنون النزال، ولكنني لا أخدم الحكومة، فللحكومة رجال يقومون بخدمتها، فعلى هؤلاء مناوأة أعدائها، الظافر ثائر على الحكومة، فعلى حكومة مولاك الفاتك أن تقبض عليه، أما نحن اللصوص فأشبه بالدول تحمي المجرمين السياسيين، إن مولاك الفاتك - بل السفاح - لهو شر مني، سمل عيني أخيه، واختلس عرشه، لا أدري إذا كنت فهمت ما قلته لك، سيان عندي فهمت أم لم تفهم، فلي كلام أقوله له أيضا، أنا رجل معتزل حربكم، سفكت دماء كثيرة والجلاد بانتظاري؛ ليقتص مني، ولكن البلاد غنية برجالها الفضلاء الذين يعملون بذمة وشرف عقولهم وأيديهم، لا أظنك إلا جاهلا ذلك، ومن مصلحتك أن تجهل ما في الدنيا من المصائب والبلايا، لقد تجاوزت حكومتكم الحد في معاملة الفقراء فسمتموهم عذابا واختلستم أموالهم بالرشا والضرائب، وأثقلتم كواهلهم بأعباء الجور والظلم، فهذه الفئة لا تفكر إلا بفوز الظافر على حكومتكم؛ لتستريح من مظالمكم، وهو قد وعد أنه سيخلصهم، وإن قال فعل، فإذا قتلته - يا مولاي القائد - فكأنني قتلت الرجاء في مهد قلوب أولئك المظلومين الذين لم يسيئوا إلي قط فأضطر إلى قتل نفسي. (بدر صامت مفكر.)
طعان :
ما بالك متحيرا؟
بدر :
لقد حيرني ضميرك الحي يا حضرة اللص.
طعان (بحدة) :
إن لصا بثوبه الخشن يحترم إرادة الشعب لهو أجزل شرفا من مجرم مثلك يستر تحت ثوبه المزركش نفسا سافلة وقوة تفعل - باسم الشريعة - ما نحجم عنه نحن اللصوص، أنتم معاشر الحكام توجدون اللصوص، يرونكم تختلسون أمام عين الشمس فينهبون تحت جنح الظلام متعلمين وخائفين منكم.
بدر :
تأدب يا وقح.
طعان :
لقد أدبني الدهر فاتعظت، أما أنتم فكم لكم من عبرة في بطون التاريخ ولا تتعظون، أتدفعني إلى ارتكاب جريمة هائلة، وتقول لي: تأدب، فيا لضيعة الأدب! (يخرج.)
المشهد الثالث (بدر وحده)
أيا ويح شارات المفاخر والمجد
تلوح لآليها بصدر فتى وغد
أيسخر بي لص وإني أميره
أغيبه إن شئت في ظلمة اللحد
هو الذنب يا ويح الأمير أذلني
ومن كان ذا ذنب يذل إلى العبد
أرى النار قد مدت إلينا لسانها
هو الموت يدعونا فيا همتي اشتدي
فإن تحجمي فالموت أمر مقدر
وإن تقدمي فالفوز يدرك بالجد
المشهد الرابع (بدر - الفاتك)
فاتك (من الخارج) :
يا بدر ... يا بدر! إلي ... إلي.
بدر (يتقدم إلى الأمام ويده على مقبض سيفه) :
مولاي! (فاتك يدخل مذعورا.)
بدر :
مولاي ماذا جرى؟
فاتك :
ثائر كمن ليغتالني.
بدر :
ومن أين عرفت ذلك؟
فاتك :
دونك خنجره الذي انتزعته من يده (يرميه وبعد سكوت قليل يتنهد قائلا)
قل لي: هل أتممت مهمتك؟ ومتى يقتل الظافر؟
بدر :
لقد أبى اللص أن يقتله.
فاتك :
ويحك ألم تستطع إقناعه؟!
بدر :
لقد أبى وتمرد، فلم يقنعه وعد، ولم يرهبه وعيد.
فاتك :
يا خيبة المسعى، اذهب وادع الوزراء. (بدر يهم بالخروج.)
فاتك :
عجل، عجل.
المشهد الخامس (الفاتك وحده)
سللت على هام الطغاة المهندا
فمزق شمل العائثين وبددا
وعلمهم طرق الخضوع لسيد
أبى أن يرى للدهر مولى وسيدا
صليل حسامي ترهب الأرض وقعه
وترتجف الدنيا إذا ما تجردا
ولي عرش مجد ينطح الجو روقه
على مفرق العيوق بات موطدا
2
ورمحي لو غادرته في تنوفة
لخافت ولم تمرر بأرجائها العدى
فكيف يقاويني ضعيف وسطوتي
تقاوم جيشا لو طغا وتمردا
وحولي من الأبطال سور محصن
على الرمح والسيف الصقيل تشيدا
فهل أختشي الأعدا ولي من عشيرتي
ألوف لدى الهيجا تكون لي الفدا
فمن مبلغ عني الخوارج أنني
أكون لهم في الخافقين مشردا
الصوت :
ألا أيها السفاح مهلا إلى غد
فمنقلب الظلام موعده غدا
فاتك :
ما هذا الصوت؟ ومن هذا اللئيم؟
الصوت :
ففي الغيب أسرار سيدرك كنهها
متى ثل عرش الظلم فاستقبل الردى
فاتك (يتطلع لجهة الصوت) :
لا أرى أحدا فما هذا؟
المشهد السادس (الفاتك - الوزيران - النديم)
الوزيران والنديم (يدخلون قائلين) :
تحية وسلاما أيها الأمير العظيم.
فاتك :
مرحبا بكم.
عارف :
ما بال بارقة الغضب تلوح على محيا مولانا الأمير؟
فاتك :
ألم تسمعوا ذلك الصوت الهائل الذي يتهددني؟!
عارف :
لا يا سيدي.
فاتك :
يا للعجب! كيف لم تسمعوه وقد دوى كالرعد القاصف؟
حلزة :
لقد أصيب الأمير بالجنون.
فاتك :
ماذا قلت يا حلزة؟
حلزة :
قلت لو كان السامع سواك؛ لمات من الخوف.
فاتك :
إذن أنت سمعت.
حلزة :
نعم، سمعتك تروي الخبر.
عارف :
إنه يحب المجون دائما.
فاتك :
وأنت يا صالح، ألم يطرق آذانك ذلك الصوت؟
صالح :
لا يا سيدي، ولكنني عرفت أن نيران الثورة ستضطرم وينوي الأعداء أن يقوموا بتظاهرة على قبر الأمير الناصر.
فاتك :
أبعد عشر سنوات يفعلون ذلك؟
عارف :
نعم، وقد لموا شعثهم، وشحذوا سيوفهم، واستعدوا للنزال، تخفيت البارحة وسرت بين جموعهم؛ فسمعتهم يقولون: إما أن نموت عن آخرنا أو نأخذ بثأر أميرنا الناصر الذي قتله الفاتك بغيا وعداونا.
صالح :
والذي نفخ فأضرم النار النائمة تحت رماد النسيان هو رجل غريب الأطوار لا يعرف له نسب يلقب بالبطل المجهول.
فاتك :
ومن هو هذا البطل المجهول؟
صالح :
رجل غريب الأطوار، إذا ظهر بين الثوار خلته أسدا شاكي السلاح يقودهم وراءه إلى حيث يريد.
فاتك :
إذن، ما هذا بشرا إن هذا إلا شيطان رجيم.
عارف :
لقد حارت فيه الناس، فكل يقول في أمره شيئا حتى ظنه الشعب الساذج مخلصا أرسله الله ليضربكم ضربة قاضية كما أرسل موسى ليضرب فرعون.
فاتك :
ويلاه منذ سملت عيني أخي المنتصر، وقتلت ابنه الناصر، وسجنت صغيره الحارس، واختلست هذا العرش؛ أرى نفسي مضطربة وقلبي خفوقا، إذا رقدت أحدقت بي الأشباح واكتنفتني خيالات الظلام، رأيت في سقف بيتي سيوفا وخناجر مصوبة إلى صدري وأفاعي تنساب في زواياها، فماذا أفعل لأستريح؟
صالح :
ويسوءني يا مولاي أن ألقي على مسامعك كلمات تزيدك ارتباكا، وتتركنا عرضة للأفكار والهواجس.
حلزة :
وما هي تلك البشائر التي عودتمونا إياها أيها الوزراء؟
عارف :
خل المزاح يا حلزة، فنحن في مقام جد، وإذا أخفينا عن أميرنا أمرا نخطئ إلى واجباتنا.
حلزة (سرا) :
يذبح العصفور ويأكله، ويتألم أن رآه بيد طفل يهينه.
فاتك :
قل - أيها الوزير الصالح - ما هي تلك الأخبار، واعلم أن مولاك لا يخشى.
وإذا كان آخر العمر موتا
فسواء طويله والقصير
صالح :
قد فهمت الليلة أن الأمير الناصر قام من الموت.
حلزة :
يا للحماقة والجهل!
فاتك :
ومن أين عرفت ذلك؟
صالح :
قد رأيته بأم عيني، وحدقت إليه النظر حتى كأنه كلمني قائلا: قل عني لعمي الفاتك الذي يتنعم في الإمارة ويظنني في عداد الأموات أنني سأريه كيف تدور عليه الدوائر.
عارف :
هذا خبر غريب!
حلزة :
أأنت على ثقة مما تقول؟
صالح :
نعم، إلا إذا كانت الناس تتشابه منظرا ونطقا.
فاتك :
وماذا قال غير ذلك؟
صالح :
لم يقل شيئا، إلا أنه سألني كتمان الخبر.
فاتك :
وهل تستطيع مقابلته؟
صالح :
لا أدري.
فاتك :
ما رأيك يا عارف؟
عارف :
لا رأي لي.
فاتك :
وأنت يا حلزة؟
حلزة :
يصح الخبر إن قام ميت من القبر، وقد شهدت دفنه بأم عيني.
فاتك :
إنه لحديث بعيد عن التصديق، ولو صح وجوده أيختفي أمره على قومه الهائجين ليثأروا له؟
الثوار (من الخارج) :
فليسقط الظالمون.
عارف :
ما هذا الصياح والضجيج؟
صالح :
هم الثوار يحدثون تظاهرة على قبر الأمير.
حلزة :
أنت تقول إنه حي يرزق، وكيف هؤلاء هائجون ثائرون ؟
صالح :
إنهم يجهلون ذلك.
حلزة :
وأنت تعرفه وحدك؟
الثوار (من الخارج) :
الدما! الدما!
فاتك :
إن صياحهم يزداد، أليس هناك من الجنود ما يكفي لردهم على أعقابهم؟
عارف :
لا أدري يا مولاي.
فاتك :
اذهب يا حلزة، وقل للقائد بدر أن يزحف عليهم بجنوده ويمزقهم.
حلزة :
أمرك مولاي (يخرج).
فاتك :
ما رأيكما أيها الوزيران؟ ماذا نصنع؟
عارف :
لا تقاومهم بغير القوة، وبالسيف أدبهم، وإن لم تفعل ظل صفاء عيشك مكدرا ونظام الأمن مختلا.
فاشحذ حسامك للنزال ممزقا
في غربه الثوار والأعداء
واطعن برمحك صدر كل منافق
في قلب شعبك ولد الشحناء
فالسيف للثوار خير مطبب
في حده وضع الجدود دواء
صالح :
وأنا الذي عرف الأمير محبتي
لمقامه الأسنى فحزت مقاما
تفديه نفسي والحياة عزيزة
وأمزق الأعداء والظلاما
الثوار (من الخارج) :
فليسقط الأمير، الدما. الدما.
فاتك :
يظهر أنهم شديدو البأس، وقد فهمت أنهم يريدون إنقاذ ابن أخي الحارس من السجن ليجعلوه أميرا عليهم بعد خلعي، فيا أيها الوزيران، اذهبا الآن عاجلا وحصنا السجن، واضربا حوله نطاقا من الجنود الأشداء، والويل لهم ثم الويل إذا أفلت السجين، لقد سكرت من الدم، فلأتجرعن الكأس حتى الثمالة، سنلحقه بأخيه ونطفئ بدمه نيران الثورة المتقدة، سيروا مع القائد في مقدمة الجنود وقاتلوا الثوار حتى تبيدوهم عن آخرهم، لقد أرسلت طرفة للمداولة مع حليفي الأمير خالد، أسأله إذا كان يمدني بالرجال، وسيعود عن قريب وأخبركم بما يكون، سيروا الآن. (الوزيران يخرجان.)
المشهد السابع (الفاتك وحده)
فاتك :
ويلك أيها العرش القائم على أساس من دم، وويلي منك أيها الضمير فقد خنقتك بيد الآثام والفظائع، أراجع تاريخ حياتي فأراه مخضبا بالدم وبين سطوره تروح وتجيء أشباح صرعى سيفي وقتلى رمحي، فويلك أيها الفاتك، ستقضي حياتك عرضة لأعاصير الثورات الهائجة، ولا يبعد أن تهدم على رأسي أنا الظالم قصري هذا الذي أثقلت بحمل حجارته ظهور الفقراء، وجبلت طينه بعرق جبين المساكين، لقد ذهب الجيش كله فهل يمزق شمل الثائرين؟ (من الخارج)
فليعش الأمير، فليحي الفاتك.
فاتك :
ها هم يضجون بالدعاء، آه أيها الجنود الأمناء أنى الحياة لرجل قتل - بغيا وعدوانا - ألوفا من النفوس، وأفنى رعيته بحد السيف، كيف يهنأ راع مسخ ذئبا فافترس خرافه، ولكن فلنتجلد ونخفي تحت ستار الابتسام أحزاننا القائلة:
قتلت الناس عدوانا وغدرا
وعشت على حضيض الظلم دهرا
بنيت على رقاب الشعب قطرا
ونفسي من دم الأعداء سكرى
وبالتبكيت عذبني ضميري
لقد خضعت لسلطاني العشائر
ودان لي الأكابر والأصاغر
وجوري فقت فيه كل جائر
فويلي يوم تنتهك السرائر
ويظهر للعيان أخو الفجور
وسوف آتيه في بيد المعاصي
وأفني بالمهند كل عاص
وليس لمن عصاني من خلاص
من الموت الزؤام ولا مناص
ومن ينجو من الليث الهصور؟
أجل إنني في موقف يقود به الخوف إلى الموت، وعار علي أن أسمع صوت تبكيت الضمير. أسمع وقع أقدام، من هذا؟
المشهد الثامن (الفاتك - طرفة)
طرفة :
عم مساء مولاي الأمير.
الفاتك :
مرحبا بك يا طرفة، وما فعلت؟
طرفة :
لقد تكلل سعينا بالنجاح، قابلت الأمير خالدا؛ فأنزلني على الرحب والسعة، ووعدني أنه يعضدك بكل قواه، وهاك كتابه.
فاتك :
اقرأه على مسمعي.
طرفة (يقرأ) :
إلى السيد المهاب أخينا الأمير الفاتك
انتهى إلينا رقيمكم، وبعد الاطلاع عليه قررنا أن نؤيد عرشكم بكل ما لنا من قوة ونفوذ وسلطان، فليهدأ روعكم، والسلام.
خالد
فاتك :
حياك الله يا طرفة، يا رسول الخير والفلاح، أعلمت ما أبدت لنا الأيام في غيبتك؟ لقد شاع أن الأمير الناصر لا يزال حيا يرزق. (طرفة يرتبك.)
فاتك :
وأنت قلت لي إنك قتلته ودفنته، فكيف يتفق قولك مع هذه الإشاعة؟ أنا واثق بك، ولكن هذه الإشاعة قد أوجدت في نفسي بعض الريب، فماذا تجيب؟
طرفة (على حدة) :
سوف ينفضح سرنا. (إلى الفاتك)
لقد قتلناه ودفناه فكيف يقوم من القبر؟ تلك إشاعة كاذبة يا مولاي اختلقها بعض المقربين إليك؛ لإقلاق راحتك وسخطك علي.
فاتك :
أنا لم أصدق تلك الإشاعة، ولقد عولت على قتل الحارس السجين وإلحاقه بأخيه الناصر، وموعدنا بذلك غدا.
طرفة (على حدة) :
فلننج الحارس من مخالب هذا النمر. (إلى الأمير)
وإن غدا لناظره قريب ، أنت أدرى يا مولاي، ومن ذا يعارض سيدا في عبده؟!
فاتك :
أجل، وسأتخفى أيضا، وأطلع بنفسي على أسرار أولئك الخوارج، وأرى بعيني بطلهم المجهول، أما أنت فاذهب وخذ لنفسك قسطا من الراحة بعد مشاق السفر.
طرفة (على حدة) :
وسأنقذ الحارس من براثنك إن شاء الله. (إلى الأمير)
وفق الله سعيك يا مولاي (يخرج).
المشهد التاسع (الفاتك وحده)
فاتك :
إذا ما نبا رمحي وخان مهندي
أدس على وجه البسيط دسائسا
وأنقض أركان الجبال بلفظة
وأخرج من قلب الجحيم أبالسا
المشهد العاشر (الفاتك - الأعمى)
الأعمى (وهو داخل يضرب بعصاه إلى الوراء) :
ابعدوا أيها الأولاد، إليكم عني (يمشي خطوات قليلة، ويقف باسطا يده قائلا)
يا من يرحم! ارحم ترحم.
فاتك (يتقدم نحوه قائلا) :
ما تريد أيها الأعمى؟ (يتفرس به جيدا ويقول مرتجفا على حدة)
هذا أخي.
الأعمى :
تسألني ما أريد؟ أتعطيني كل ما أريد؟
فاتك :
نعم، قل ما تريد.
الأعمى :
أريد أولا خبزا لأنني جائع ولم يحسن إلي اليوم أحد.
فاتك :
دونك دينارا فاشتر به خبزا وقل ما تريد.
الأعمى (يجسه بأصابعه) :
نعم دينار.
فاتك :
قل ما تريد أيضا.
الأعمى :
أريد ثيابا.
فاتك :
دونك دينارا آخر فاشتر به ثيابا.
الأعمى (يأخذ الدينار) :
ما هذا العطاء؟
فاتك :
قل ما تريد أيضا.
الأعمى (يهز رأسه) :
ماذا أريد؟ (بصوت أجش)
النور النور، أريد أن أبصر.
فاتك (يرتجف صارخا) :
رباه.
الأعمى :
أريد الانتقام من قايين.
3
فاتك (يصرخ) :
ويلاه. (يسدل الستار.)
الفصل الثاني
في السجن
المشهد الأول (حارس وحده)
حارس (جالس على إفريز وفي يده رغيف خبز يأكله، يتوقف عن الأكل فجأة ويمر يده على جبينه، ثم يرمي اللقمة متمتما، ثم يقول) :
ما أردأ هذا الخبز! (ينهض ويخطو ثلاث خطوات في الغرفة ويصيح قائلا)
ما هذا الظلم؟ أأبقى بين هذه الجدران السوداء إلى الأبد؟ (يعود إلى الأكل كعادته ثم ينطرح على الأرض وينام في زاوية السجن.)
المشهد الثاني (السجان - حارس)
السجان (وهو داخل) :
مسكين هذا السجين، لا هم له إلا الأكل والنوم. (يبحث عنه فلا يجده فيصرخ)
لقد هرب، ويلاه لقد هرب. (يلتفت إلى إحدى الزوايا فيسمع زمجرته المخيفة فيرتد إلى الوراء مذعورا قائلا)
لقد أصبح جنونه مطبقا، إن منظره لمخيف. (يخرج ويغلق الباب الحديدي قائلا)
نم واسترح أيها الأمير. (حارس يهجم على الباب محاولا كسره.)
السجان :
ما أصعب هذه الوظيفة! (إلى حارس)
عبثا تتعب يا أميري، فكم تحطم على هذه الجدران من ساعد شديد!
حارس (يقرفص قرب باب السجن قائلا) :
رحمة أيها السجان، أشفق علي.
السجان :
ماذا تريد يا مولاي؟
حارس :
ارحمني، أطلق سراحي.
السجان :
ألمثلي يقال هذا الكلام؟ لا رحمة ولا شفقة، ومن سجن في هذا المكان؛ فلن يخرج إلى الأبد.
حارس :
إذن أموت هنا.
السجان :
وقد مات قبلك كثيرون، انظر ألا تقرأ على هذه الجدران السوداء ما كتب بالدم: هنا مدفن الأحياء وجهنم الأرض.
حارس :
وأنتم شياطينها.
السجان :
وعمك أركوننا
1
الأعظم.
حارس :
عمي؟!
السجان :
نعم عمك، ألم تسمع ما قاله الشاعر:
أقارب كالعقارب في أذاهم
فلا تركن إلى عم وخال
فكم عم أتاك الغم منه
وكم خال من الخيرات خال
حارس :
وماذا فعلت حتى أودعني السجن؟
السجان :
هذا ما أجهله.
حارس :
إنك لا تجهل شيئا يا مولاي ولكنك تكتم عني ما تعلمه، يا جواد هذا خاتمي أقدمه لك تذكارا، ولم أعد أملك سواه فاقبله مني، وقل لي من سجنني هنا؟ وماذا فعلت حتى سجنت؟
السجان :
خل لك خاتمك، وما حاجة السجان إلى خاتم الأمير؟ أتحاول إغرائي، فوظيفتي خير لي وأبقى من خاتمك.
حارس :
إنه قاس لا يلين ... أليس لك أبناء؟
السجان :
نعم.
حارس :
ولم لا تشفق على أبناء الناس؟
السجان :
إن شفقتي على بني تتولد من قسوتي هنا، ولولا ذلك لما أنقدني الأمير أجرتي لقاء هذه المهمة القاسية، بل كان طردني من خدمته ومت وأولادي جوعا، فاعذرني يا مولاي ولا تطل الحديث معي، فليس المقام مقام ملاطفة ومجاملة. (يؤخر كرسيه إلى الوراء حتى لا يعود يراه الحارس، وبعد شروع الحارس بالغناء يستولي عليه النعاس.)
المشهد الثاني (الحارس: جوق غناء من الخارج)
الحارس :
ويح قوم على الثرى طرحوني
وبهذا المكان قد غيبوني
حجبوني عن البرية ظلما
فقضيت الصبا بهذي السجون
وجد السجن للمسيء عقابا
فماذا أسأت كي يسجنوني
اكشفي لي يا ربة الغيب سري
فحديثي إخاله ذا شجون
من تراه يخاف بأس صغير
فيواريه في مكان حصين
ليس هذا بالسجن بل هو قبر
دونه القبر في عذاب وهون (السجان يغط في نومه.) (حارس يسمع غناء من الخارج فينصت.)
الغناء :
ويلي من الزمان
مفرق الإخوان
قد هيجت أحزاني
حوادث الجوى
أصبحت في اضطراب
والدمع في انسكاب
يا هل أرى أحبابي
من بعد ذا النوى
أحبتي ارحموني
ما عشتم اذكروني
فالبعد كالسجون
يشقي أخا الهوى
حارس :
قد تذكرت ماضي العيش آها
يا رفاق الصبا ترى تذكروني
كم سرحنا بين المروج صغارا
منشدين الأشعار بالتلحين (صوت عود من الخارج.)
حارس :
إيه يا ناقرا على العود مهلا
لا تعذب فؤاد مضنى حزين
غن لحن الوداع فالعيش ولى
فأنا الحي ميتا فاندبوني
السجان (يستفيق) :
ماذا يقول؟ إنه ينطق بلغة غير لغتنا المعهودة: يا حارس! يا حارس! أتريد أن تأكل؟
حارس :
لا يا سيدي، فأنا في غنى عن طعامك، عن خبزك الأسود (ينام).
المشهد الثالث (السجان - بدر) (بدر يدخل.)
السجان (يحييه) :
ماذا تأمر؟
بدر :
جئت أستطلعك أخبار السجين.
السجان :
إنه ينطق بلغات عديدة، فتارة يخطب، وطورا ينشد الأشعار، وما لذة العيش إلا للمجانين.
بدر :
لقد صدر الأمر بقتله، فبعد هنيهة تستريح منه، ألم تشعر بحركة حول سجنه؟
السجان :
أبدا، ولماذا هذا السؤال؟
بدر :
إن الخوارج يحاولون إنقاذه فكن يقظا، سوف نقتله ونخنق بقية آمالهم في مهد صدورهم، عما قليل يأتي القسيس ليمهد له طريق الأبدية (يخرج).
المشهد الرابع (السجان وحده)
السجان :
مع السلامة. مسكين هذا الشاب لا ذنب له إلا أنه سيطالب بعرش أبيه، ويح العروش! فكم سحقت تحت مواطئها من رءوس، وقبحت التيجان، أيظل يقتتل عليها بنو الإنسان؟ (يشير إلى حارس)
إنه راقد بين أجفان الردى يحلم بالحياة، لا يدري ما يكتمه الغيب من الأسرار الهائلة (يسمع وقع أقدام )
من القادم ؟ هذا هو القسيس.
المشهد الخامس (القسيس - السجان) (القسيس يدخل.)
السجان :
أهلا وسهلا بالمحترم، أتريد مقابلة الحارس؛ لتهيئه للسير على طريق الحياة الأبدية؟
القسيس (هو طرفة كاتب سر الأمير) :
نعم يا بني.
السجان :
إذن فلنوقظه (يفتح باب السجن ويدخل ثم يحرك الحارس صارخا)
يا حارس! يا حارس! يا حارس ...
حارس (يستيقظ مذعورا، فيهلع السجان) :
أتحرمني لذة النوم يا صاحب، لقد بددت أحلامي الذهبية.
السجان :
وبماذا كنت تحلم؟
حارس :
بالنجاة، بالخلاص.
السجان :
أجل بالنجاة من هذه الحياة التاعسة يا أبت.
حارس :
وما تعني؟
السجان :
لقد استأذنني كاهن؛ ليقابلك ويحدثك، بل ليعزيك.
حارس :
ومتى يأتي؟
السجان :
الآن، والحق يقال: إنهم نظروا إليك بعين الرحمة والرأفة؛ لأن أغلب المسجونين هنا يموتون ولا صلة لهم بالله.
حارس :
الله، لقد بحثت عنه عبثا في سريرتي.
السجان (يخرج قائلا إلى القسيس) :
ادخل يا أبتي.
المشهد السادس (القسيس - حارس)
حارس :
قسيس؟ ومن هو هذا القسيس الجليل؟ (القسيس يدخل.)
حارس (يسرع إليه ويصافحه قائلا) :
فلتباركك السماء؛ لأنك طلبت مقابلة سجين بائس نسيه البشر، إن زيارة المسجونين لفرض مقدس لم يعد يقوم به أحد من زملائك يا محترم.
الكاهن :
لا تشكرني، بل اشكر الرب.
حارس :
الرب؟ دعه وشأنه، دعه حيث هو ولا تكلمني عنه، دعوته فلم يجبني، ولم يهتم بي لأهتم به، فإذا كنت رجلا وفي صدرك قلب يخفق رحمة فأجبني.
القسيس :
تكلم.
حارس :
لقد قضيت السنين وأنا أصيح وأصرخ في هذا القبر، أنطح هذه الجدران برأسي، هشمت يدي بحديد الباب، أستصرخ العدل والرحمة وما من مجيب، وكل دقيقة تمر بي هي عندي موت جديد.
القسيس :
يظهر أنك تألمت كثيرا.
حارس (يجثو أمامه) :
يظهر أنك رثيت لحالتي، حياك الله يا سيدي، فما اسمك يا قسيس يا قديس؟
السجان (من الخارج) :
لله در هذا القسيس؛ فقد سكن بركان غضبه الهائج، فلنتركهما يتحدثان عن الموت والأبدية (يخرج).
حارس :
سألتك فلم تجبني، ما اسمك يا أبي؟
القسيس :
اسمي خادم الله.
حارس :
أنا هنا يا أبت أبكي وحدي وما من يعزيني، طرحوني في هذا الجحيم ولا يسمعون لي دعوى ولا يرقون لبلواي، أما الآن فإخال غرفتي شعلة من نور.
القسيس :
أفي الثياب السود نور يضيء، تشجع يا ولدي العزيز، أمنتبه أنت؟
حارس :
قل ما تشاء.
القسيس :
أتعرف من أنت؟
حارس :
نعم، أنا ابن الأمير المنتصر.
القسيس :
إذن أنت تذكر جيدا، اسمع الآن ما أقوله لك، غدا تكون حرا طليقا.
حارس :
أأخرج من هنا؟
القسيس :
اخفض صوتك لئلا تفضحنا، اسمع ولا تتكلم، خذ هذا المفتاح. (حارس يأخذه.)
القسيس :
أخفه في جيبك، ومتى خرجت أنا تظاهر بالجنون المطبق، وارم السجان بصحاف الطعام فيقفل عليك الباب، ومتى أقفله توجه إلى ذلك الحائط الحديدي ففيه ثقب ضع فيه المفتاح فينفتح لك الباب، حتى إذا وصلت إلى دهليز طويل فسر به ولا تخف فمتى بلغت آخره سر قليلا تجد ثلاثة في انتظارك، وهم يسيرون بك حيث يضعونك في مأمن من أعدائك، أفهمت؟
حارس :
نعم سيدي، ولكن أريد أن أعرف منقذي.
القسيس :
أنا الذي أنقذت أخاك الناصر جئت لأنقذك، أنا لست من الطغمة الإكليريكية فهذا الثوب مستعار، أنا طرفة كاتب سر عمك الفاتك أفهمت؟
حارس :
نعم مولاي، أأخي حي يا أبي؟ أأخي حي؟
القسيس :
نعم، فكن رجلا، واذكرني في سرائك كما ذكرتك في ضرائك (يخرج من السجن).
السجان :
أأتممت الواجب؟
القسيس :
كما يجب ويقتضي فأستودعك الله.
السجان :
صل لأجله (يدخل على حارس).
المشهد السابع (السجان - حارس)
السجان :
إنه خائف مذعور، ما أرهب الموت! (يخاطب حارسا)
كيف وجدت المحترم، إنه رقيق الجانب، أليس كذلك؟
حارس :
قبح الله وجهك ووجهه (يرميه بالصحن على صدره ويهجم عليه فيخرج مذعورا)
قبحكم الله أيها الطغاة إنكم لا تشفقون ولا ترحمون (يهم أن يرميه بصحفة أخرى).
السجان (يقفل الباب بسرعة، ثم يقول) :
اقض يا شقي الدقائق المعدودة من حياتك في ظلمة دامسة.
حارس (يصدم الباب ويرفس الأرض، ويصرخ قائلا) :
سوف أبيدكم عن آخركم فانتظروا اليوم العصيب.
السجان (يخاطبه من الخارج) :
ستكون بعد هنيهة من سكان الأبدية، فقل ما شئت، سب واشتم يا شقي، لقد أنذرك القسيس بالموت ففقدت الهدى. (حارس يخرج من باب سجنه الداخلي.)
السجان :
نم مستريحا، وانتظر الموت فهو منك على قاب
2
قوسين أو أدنى (يتفرس جيدا)
من هذا القادم؟ قسيس؟ لماذا رجع القسيس؟ (القسيس يدخل.)
المشهد الثامن (السجان - القسيس)
السجان :
هذا قسيس آخر، أيرسلون له ألف قسيس؟ فقسيس واحد أفقده الصواب، فكيف لو زاره الثاني؟! لا يا حضرة القسيس لا أسمح لك بزيارته، وإن شاءوا تكرار زيارات القسوس فليأتوا للمحافظة عليه والحلول محلي.
القسيس :
افتح الباب يا جواد؛ لنسمع اعتراف الرجل، فالقائد آت بجنوده ورائي لإخراجه وتنفيذ الحكم.
السجان :
القائد آت.
القسيس :
نعم.
السجان (يفتح الباب حذرا) :
يا حارس، قد جاءك قسيس آخر فليهدأ روعك، ادخل يا محترم. (إلى الجمهور)
إن كان من ضربة فهو أحرى بها مني فقد أكلت قسطي من ضرباته.
القسيس (يدخل السجن ويقول بعد التفتيش) :
لا أرى أحدا، فأين هو؟
السجان :
فتش في الزوايا يا محترم.
القسيس (من الداخل) :
لقد فتشت ولم أجد أحدا.
السجان :
ما هذا؟ يا حارس! يا حارس! أين أنت؟
القسيس :
لقد فر.
السجان :
ويلاه!
المشهد التاسع (بدر - جنود)
السجان (إلى بدر) :
خيانة. خيانة.
بدر :
ما هذا الصراخ؟
السجان :
لقد فر ... خيانة ... قسيس ... أتى ...
بدر :
جنودي تفرقوا فتشوا، فر السجين، أسرعوا (يشرعون بالخروج). (يرخى الستار.)
الفصل الثالث
المشهد الأول (في المقبرة) (الأعمى جالس على درجة القبر وعصاه بين فخذيه.)
الأعمى :
بموت ناصرها قد ماتت الأمم
والعدل باد وخار العزم والهمم
وانهدر ركن المعالي إذ هوى بطل
قد كان جيش المنايا منه ينهزم
قد كان ما بيننا في بأسه علما
وحين غادر دنيانا هوى العلم
حبيب قلبي دهاك الظلم فانفصمت
عرى حياتك يا ويح الألى ظلموا
ابني حبيبي شهيد الظلم يا ولدي
أرداك عمك ما أشقى الألى حكموا
نعمت بالعرش أياما فجرعني
دهري كئوسا تناست عندها النقم
ويحك أيها العرش فلولاك كنت عائشا بين ولدي ناعم البال مستريحا، فالناصر يرقد الآن في هذا اللحد رقودا أبديا، والحارس يتخبط في ظلمات السجون، وأنا تائه شريد أعمى البصيرة والبصر ، أخي اقترف كل هذه الجرائم ولا عجب؛ فكل يوم تلد الأرض قايين جديدا.
المشهد الثاني (الظافر - الأعمى)
الظافر (يدخل) :
من هو هذا النائح؟ هذا أبي، انحبسي أيتها العواطف البنوية، ارقدي أيتها الشواعر فالتجلد يدعونا. (إلى الأعمى)
انهض يا شيخ، انهض، ما بالك تنوح وتبكي على هذا الضريح؟!
الأعمى :
ضريح ولدي أزوره كل يوم فأبلله بدموعي.
الظافر :
وما تجدي الدموع؟ خل الدموع فإنني أراك شحيح البصر.
الأعمى :
هيهات يا صاح.
الظافر :
أأنت أعمى؟
الأعمى :
نعم، وليت العمى من الله، لكنت أقبله بطيبة خاطر.
الظافر :
وممن إذن؟ من هذا الوحش الضاري الذي أعماك؟
الأعمى :
أخي، أخي.
الظافر :
أخوك؟
الأعمى :
نعم، وليته اكتفى بذلك، بل قتل ولدي الناصر ودفنه في هذا الضريح، وسجن ولدي الحارس، ولا أدري إذا كان ألحقه بأخيه.
الظافر :
لا تجزع يا شيخ فالله مع الصابرين، هات يدك لأعاونك على مبارحة هذا المكان فهنا ملتقى الخوارج.
الأعمى :
وما عساهم يفعلون في هذه المقبرة؟
الظافر :
يتآمرون على الفاتك؛ ليأخذوا بثأرك وثأر ولديك.
الأعمى :
وما يفيدني الثأر؟ أينبعث الناصر من القبر؟
الظافر :
ومن يعلم أنك لا تحدثه كما تحدثني الآن.
الأعمى :
هيهات، دعوا الثأر يا بني، فتلك عادة همجية لا تزال ترافق الإنسانية من المهد إلى اللحد، احذروا أن تهرقوا دما بشريا، إن استطعتم إطلاق صغيري السجين شكرت لكم صنيعكم وإلا مت باكيا على هذا وذاك.
الظافر :
عجل، أسرع؛ فإنني أسمع وقع أقدام. (الأعمى يخرج.)
المشهد الثالث (الظافر وحده)
الظافر :
ما أحرج هذا الموقف! والد ينوح على ابن يخاله ميتا وهو حي يسمع صراخه ولا يستطيع إطفاء لوعته بكلمة، لقد أبطئوا. (يصفر)
أين هم الآن؟ أوقع ما لم يكن بالحسبان؟ (يصفر ثانية، ويراقب الفاتك من بين جدران الملعب.)
يا أيها الباغي تنبه واستفق
ليل المظالم عهده قد طالا
فلسوف تلقى في المعارك ضيغما
يستصغر الفرسان والأبطالا
وإذا اختفت بين البرية نسبتي
فغدا يحقق فعلي الأقوالا (يتقدم نحو الجهة التي يكون فيها الفاتك فيرتد إلى الوراء ويختفي، يصفر الظافر فيدخل من الجهة الثانية ثلاثة مدججين بالسلاح.)
المشهد الرابع (الظافر - جماد - كلثوم - صخر)
الظافر :
لقد أطلتم غيابكم، أتجهلون أن الموقف حرج والأعداء واقفون لنا بالمرصاد؟ فالحذر الحذر؛ لئلا تذهب مساعينا أدراج الرياح، ونعود بصفقة المغبون.
صخر :
صدقت أيها البطل، وماذا تريد أن نصنع؟
الظافر :
لقد رزحتم تحت أثقال المظالم والاستبداد، فالشريعة مكتوبة على حد سيف أميركم، والموت والحياة بين شفتيه، وتسألونني ماذا نصنع؟
الجميع :
فليسقط الأمير.
جماد :
أنت قائدنا للأخذ بثأر أميرنا، نحن نجهل من أنت ولكن ما يتدفق من صدرك من الحمية وما نقرؤه على جبينك العالي من آيات النبل والشهامة يقول لنا: اتبعوه فهو حر أبي.
نحن قوم عشنا بذل طويلا
وخضعنا لحاكم ظلام
فانتشلنا وأنقذ من الرق شعبا
أيها السيد الرفيع المقام
كلثوم :
لقد فتك الفاتك بأميرنا الناصر في مثل هذا اليوم، وسمل عيني أبيه الذي يطوف أحياء المدينة كأحقر البائسين، وها قد مضت عشر سنوات بعد موته ونحن في واد من الظلم تائهون، إذا شكونا مظالمه قالوا: هؤلاء ثائرون فلنلحقهم بأميرهم، حالة - يا سيدي البطل - لا يرضى بها إلا الأذلان؛ عير الحي والوتد.
1
الظافر :
ولماذا تقعدون على الضيم وكلكم همام باسل؟
جماد :
إن رجال الأمير أكثر عددا، وليس بالسهل إسقاط رأس حوله حصن منيع من السيوف الصقال والرماح الطوال.
الظافر :
إذن ماذا نصنع وعددنا لا يتجاوز بضعة أنفار؟
كلثوم :
يجب ألا نقنط، فالله معنا على الباغي، فلنقتحم جيوش الأمير وندافع عن حقوقنا دفاع المستميت.
الظافر :
حياك الله من بطل مغوار.
صخر :
كلنا ذلك البطل يا مولاي، إنما لنا سؤال إن أجبتنا عليه رأيتنا ليوث حرب نفديك بالأرواح.
الظافر :
قل ما شئت.
صخر :
قل لنا من أنت؟
جماد :
دع هذا السؤال يا صخر، فقد سألناه مرارا ولم يجب، وما يهمنا ذلك فالرجل بهمته وأدبه، لا بحسبه ونسبه.
الظافر :
دونكم الجواب، وهو فصل الخطاب:
أنا ابن السيف واليلب اليماني
وجدي كل رمح هندواني
ولي نسب يفوق العرب طرا
يقر بمجده قاص وداني
أتيت بثأر مولاكم طلوبا
لأحمي جمعكم شر الهوان
فما لي منزل آوي إليه
ورمحي والمهند يؤنساني
وثوبي ما طلبت الثأر درعي
وحصني قد غدا متن الحصان
فذا حسبي وذا نسبي ومجدي
وعندي شاهد يوم الرهان
كلثوم :
أجدت أيها البطل، وكفى بهذا نسبا، نتبعك إلى الموت، أنت عميدنا منذ الآن، سلوا سيوفكم أيها الشجعان، واحلفوا له يمين الإخلاص. (الجميع يسلون السيوف.)
الظافر :
لا تحلفوا أيها الأبطال فالصادق لا يحلف، اسمعوا فأحدثكم بأمر خطير لا يخطر لكم ببال.
جماد :
مهلا فإني أسمع وقع أقدام.
المشهد الخامس (بدر - حسان - المذكورون)
بدر (يدخل) :
لقد أمرني مولاي أن أفرقكم وآمركم ألا تحدثوا أدنى تظاهرة على قبر الأمير.
جماد :
أيقتله بغيا وعدوانا ويمنعنا من البكاء عليه؟ لقد تجاوز في مظالمه الحد فنحن رعية الناصر، ولا نعترف بسواه أميرا علينا ولو كان تحت الثرى.
بدر :
إن عصيانكم يجر عليكم البلايا، فاتقوا الليث إذا هاج.
كلثوم :
أتهددنا بهيبة مولاك؟ فإما الثأر وإما الموت.
بدر :
لقد تجاوزت الحد، فاخرج وإلا أخرسك هذا المهند.
صخر :
نحن لا نخاف حسامك.
بدر :
ما هذه الجسارة؟!
الظافر :
مهلا أيها القائد، أجئت لتبلغنا أمر مولاك؟ أم لتنفذه أيضا؟!
بدر :
أتيت لأفرقكم، إما بالكلام وإما بالحسام.
الظافر :
نحن أبطال لا يفرقنا الكلام.
بدر :
إذن يفرقكم هذا الحسام.
الظافر :
لا تقذف نفسك في الهاوية.
بدر :
إنكم لمغرورون أيها الناس.
كلثوم :
يا لك من مغرور! اذهب وإلا قطعتك شطرين بحد هذا السيف.
حسان (يهجم) :
فليذق مرارة عاقبة المطاولة على القائد الأكبر.
بدر (يمنعه) :
مهلا يا حسان، تفرقوا أيها الناس ولا تحوجوني لمقاتلتكم.
صخر :
ونحن نقول لك: اسلم بنفسك.
بدر :
ما هذه الوقاحة؟ أنا يا قوم رهين واجباتي، فهي تقضي علي [...]،
2
على أن حبي لكم حملني على معاملتكم بالرقة واللطف.
الظافر :
ونحن أيها البطل يقول لنا الثأر: اثبتوا ومزقوا الظالمين شر ممزق، ولولا حب الأبطال للأبطال لأذقناك الردى.
تكلفنا أيا بدر المحالا
فنأبى أن نجيب لك السؤالا
إذا ما كنت تجهلنا فسل عن
وقائعنا المعامع والقتالا
فكم خاضت عوالينا حروبا
وسل عن كفنا الأسل الطوالا
وسل عنا الجماجم ساقطات
على الحصباء تصدقك المقالا
فمنا كل مغوار هصور
يخيف الموت إن سل النصالا
إذا قطع العداة له يمينا
يمد إلى قتالهم الشمالا
فخبر ما تشا عنا أميرا
يقود إلى رعيته النكالا
بدر :
دعوا هذا الفخار فليس يجدي
وخلوا عنكم هذا الجدالا
أنا البطل الذي اقتحم المنايا
ولم يخش المعامع والقتالا
وكم قد كنت للهيجاء بدرا
إذا غيري يعد لها هلالا
أبت نفسي الجبان ولم يشقها
سوى من ساد في الدنيا فعالا
وما كلفتها قط الدنايا
وإن كلفتها أبت امتثالا
الظافر :
نسبت لك الفخار ولست تدري
حماه ولا عرفت له مجالا
فأين الفخر منك وأنت عبد
لمن فقد المكارم والخلالا
بدر :
هذب كلامك.
الظافر :
تأدب يا نذل.
بدر :
جنودي، دونكم هؤلاء الأنذال. (يهجم بسيفه على الظافر فيأخذ الظافر بذارعه، ويهجم الجنود الباقون على رجال الظافر فيقتل واحد منهم ويأسرون الآخر، همام وصخر وجماد يكبلون القائد بدرا، ويخرج همام الجندي المقتول إلى الخارج.)
المشهد السادس (المذكورون)
الظافر :
نصحتك يا فتى فنبذت نصحي
أبعد اليوم تحتقر اليقينا
لسوف نذيق مولاك المنايا
وإنا نغنم النصر المبينا
فلست بأول الأسرى لدينا
فكم قدنا الفوارس صاغرينا
فلو أرسلت رمحي مع جبان
تخر له الجبابر ساجدينا
3
وقد شاهدت إذ جربت عزمي
ألم تنظر به الداء الدفينا
فحدث في الجحيم اليوم عني
لترتعد الأبالس خائفينا
كلثوم :
سل المهند عنا إن جهلت ففي
حد المهند تلقى أصدق الخبر
أنا أسود الوغى تردي صوارمنا ال
أعدا ولو عصمتهم جبهة القمر
صخر :
هلا سألت الخيل في المضمار
عن كل أمرد فارس مغوار
ظن الأمير بأننا نخشى الوغى
جزعا ونرهب صولة البتار
فأتيت مبتغيا تفرق شملنا
يا بدر لست تفوز بالأوطار
إن الخناجر قد غدت معقودة
فالموت إما أخذنا بالثار
ولقد شهدت الأسد في ثوراتها
فحذار من فتك الأسود حذار
جماد :
إن مشت فرساننا ارتجت لها
راسيات الأرض والكون ارتعد
نحن من قد وطئت أقدامنا
قمة الجوزاء والبدر شهد
4
نحن من طنب فوق المشتري
وعلى العيوق قد دق الوتد
5
بدر :
لا تظنوا أن رأسي ينحني
لكم ذلا أرى الذل حرام
قد أسرتم أسدا يا طالما
أرجف الكون ويخشاه الأنام
الظافر :
ومن يفاخر رجلا تجسم الموت أمام عينيه وقطع حبل الأمل من هذه الحياة؟
كلثوم :
فلنعجل بقتله قبل أن يستبطئ الأمير عوده فيأتي بجيشه لإنقاذه من بين أيدينا.
الظافر :
لقد أصبت.
صخر :
فلنمته أشنع ميتة؛ لنلقي الرعب في قلوب رجال الأمير، وبذلك تنكسر شوكة إقدامهم وحدتهم.
بدر :
رأي جليل.
الظافر :
فما رأيك يا كلثوم؟
كلثوم :
لنجعلن صدره المملوء خيانة للوطن والحرية هدفا لسهامنا، فيرشقه كل منا بما يشاء من السهام؛ ليصح به قول الشاعر:
فصرت إذا أصابني سهام
تكسرت النصال على النصال
6
الظافر :
لي غير رأي كلثوم؛ وهو أن نلوي هاتين الشجرتين، ونشد إليهما ساقيه ونتركهما تعودان إلى ما كانتا عليه، فيصبح شطرين ويعتبر بمرآه كل من حدثته نفسه بمقاتلة أبطال الحرية.
صخر :
رأي جميل.
بدر (بتبرم) :
ولا أجمل من هذا الرأي.
الظافر :
وما رأيك يا جماد؟
جماد :
اشنقوه بحمائل سيفه، واتركوه جنب قبر الأمير عبرة لمن اعتبر.
بدر :
وما رأيك أنت يا رئيس العصابة؟
الظافر (إلى كلثوم) :
حلوا وثاقه. (كلثوم يحل قيوده فيقف.)
الظافر (يتقدم منه ويضغطه قائلا) :
لا تحرك ساكنا يا بدر واسمع بهدوء ما ألقيه عليك، أنت لست برجل سيف ولا سفاك ولا جاسوس ما أنت إلا نذل سافل.
بدر :
أنت النذل.
كلثوم (يهجم عليه) :
ويحك.
الظافر (إلى كلثوم) :
إلى الوراء أبعد، اخرجوا جميعا من هنا. (الجميع يخرجون.)
المشهد السابع (الظافر - بدر)
الظافر (إلى بدر) :
لو لم تكن نذلا لما كنت دفعت إلى طعان مبلغا كبيرا من المال لقاء قتلي، ولو كنت بطلا لكنت جئتني بنفسك وقاتلتني، إن البطل يطعن في الصدور لا في الظهور، ولهذا قلت لك: إنك نذل، أنسيت ذلك؟ ألم تدفع له كيس الذهب ولم يقبله منك؛ لأنه لم يشأ تدنيس سيفه بدم الأحرار؟ أنت نذل وإذا لم تكن نذلا فهذا الخنجر (يرميه إليه)
فأمسكه وتقدم إلي. (بدر يمسك الخنجر ثم يرميه.)
الظافر :
أنا أعرف فيك هذا الجبن.
بدر :
إنك تكذب.
الظافر :
لقد جبنت لأنك خفت أن يمد أحد رجالي يده إليك.
بدر :
يا للشيطان!
الظافر :
والخلاصة يا بدر أريد أن أختم مقالي لك بقولي: إنك نذل، بل تجسمت النذالة بك، ولهذا أعاملك معاملة الأنذال الأدنياء، أي أن أبقي على حياتك، ولا أجرد في وجهك حساما، اخرج فقد عفوت عنك.
بدر :
سنرى.
الظافر :
إنك لا تفعل شيئا لأنك نذل، اخرج، اخرج، انج، (إلى كلثوم)
ادخلوا. (بدر يرتجف.) (كلثوم يدخل ورفاقه.)
الظافر :
دعوا هذا الإنسان ينطلق بسلام، لا تمسوه ولا تنظروا إليه شزرا فهو جبان نذل، دعوه يخرج من هنا حيا فقد عفوت عنه. (بدر يخرج مخجولا.)
الظافر (إلى رجاله) :
لا تعجبوا فبهذا تقضي المروءة وكذا يعفو ذو المقدرة، إن ساعته لم تأت بعد.
المشهد الثامن (الظافر - رسول)
رسول (يدخل) :
مولاي، هذه رسالة بعثني بها إليك طرفة.
الظافر (يقرؤها ويقول لرجاله) :
أيها الإخوان! إن ساعة النصر قد دنت، سوف تأخذون بثأر أميركم الناصر، وتقوضون عرش الفاتك، والله أعلم بما يحل به، إن لنا بين رجاله عضدا قويا وهو الذي ساعدنا ومهد لنا الطريق حتى أنقذنا الحارس من ظلمات السجون.
الجميع :
الحارس؟!
الظافر :
نعم، الحارس نجا من السجن، وهو قادم الآن، وسينشر أميركم الناصر من قبره في ذلك اليوم العصيب.
كلثوم :
ما هذا الوهم؟
الظافر :
حقيقة لا وهم، فالناصر لا يزال حيا لقد أكدوا لي ذلك وسنرى ما يكون.
المشهد التاسع (طرفة - الحارس - المذكورون)
طرفة (يدخل مقنعا ومعه الحارس) :
هذا أميركم أيها الشجعان فاذكروني يوم فوزكم وظفركم (يخرج).
الظافر :
هذا هو الطائر الصغير الذي أفلت من قفصه، هذا هو الحارس.
الجميع :
فليحي الحارس.
الظافر :
لا يليق بنا أن ننشغل في هذا المقام بإبداء العواطف فإلى الحرب إلى الحرب، حرب الحياة والحرية.
الجميع (ينشدون) :
هبوا أبطال الوطنية
فالموت سبيل الحرية
سلوا الأسياف الهندية
فعليها قد كتب النصر
أحفاد القوم الشجعان
موتوا بسبيل الأوطان
يا ابنا «مردة» لبنان
لجدودكم الذكر العطر
لا تخشوا أهوال الحرب
سودوا بالطعن مع الضرب
فلأنتم أحفاد العرب
من دان لبأسهم الدهر
سيروا لننال استقلالا
ونحطم هذي الأغلالا
إن نفشل متنا أبطالا
فالفاتك شيمته الغدر (يرخى الستار.)
الفصل الرابع
في قصر الأمير
المشهد الأول (طرفة وحده)
ملأت الأرض بأسا وافتخارا
وصرت بكل مكر لا أجارى
وفي حل المصاعب لي دهاء
يفل المشرفية والشفارا
1
يروم الفاتك الظلام قتلي
ونار الحقد تستعر استعارا
يروم بأن يصيرني دفينا
ليصلي شعبه المسكين نارا
أنا أدري سرائره وإني
لسوف أزيح عن ذاك الستارا
وأظهر بغيه في كل فج
فيلقى في الورى خزيا وعارا
2
لقد أنقذت من ظلموه حتى
رأيت العدل ينتصر انتصارا
ألا يا أيها الباغي انتقاما
فصبرا لا تمل الانتظارا
لسوف تذوق كأس الموت مني
وعينك لا ترى أبدا نهارا
بحد مهندي وسنان رمحي
أدمر عرشك العالي دمارا
وإن تك جاهلا قدري وبأسي
فسل عني المجاهل والقفارا
لقد أنقذت الناصر من الموت؛ لأحارب به هذا الأمير الذي مات ضميره وخنقت جرائمه وجدانه، يكيد لي ليقتلني لأنه لم يعد واثقا بي بعدما علم أن الناصر لا يزال حيا، يسعى ليميتني لتموت مخاوفه ويدفن معي في الضريح جرائمه الهائلة، لقد أنقذت الحارس من السجن بدهائي، وها هو اليوم حر طليق منضم إلى الثائرين، أجل أيها الفاتك، سينتصر عليك طرفة كاتب سرك ويذيقك علقم الظلم، أنت تنتظر أن الأمير خالدا يشد أزرك إذا تمرد عليك شعبك ولم يخطر ببالك قط أن طرفة لم يقابل أميرا، ولم يحدث بشأنك وزيرا، بل زور لك هذا الكتاب لتطمئن ويسكن ثائر خوفك، أمرتني بتنظيم جيش يقاوم الخوارج وها قد نظمته وهيأته للانضمام إلى صفوفهم عند مسيس الحاجة، ظننت طرفة ضعيفا فنصبت له الفخاخ، فدونك فخاخا تسقط فيها لا محالة.
المشهد الثاني (طرفة - جابر)
جابر (يدخل بعجلة) :
تحية وسلاما.
طرفة :
ما بالك؟
جابر :
جئت لأطلعك على دسيسة هائلة.
طرفة :
وما هي تلك الدسيسة؟
جابر :
لقد تأكد الأمير أن الناصر لا يزال حيا وأننا أنقذناه.
طرفة :
وغير ذلك؟
جابر :
أنت تدري أنه سيميتنا شر ميتة، فكن على حذر.
طرفة :
لا تخف يا جابر فهو يعجز عن أن يلحق بنا أدنى أذى، لقد دنت ساعة الانتقام من ذلك العاتي.
جابر :
قربها الله.
طرفة :
ولكنك قبل تلك الساعة ستجرد من ثوب الجندية ويقضى عليك بالموت.
جابر :
بالموت؟ ويلاه!
طرفة :
لا تخف فسأنقذك من براثن الموت كما أنقذت سواك، فالوداع الآن.
جابر :
كلمة يا طرفة.
طرفة :
قل ما تريد.
جابر :
ولماذا يقضون علي بالموت؟
طرفة :
لتأكدهم إنقاذك للناصر.
جابر :
إذن أهرب.
طرفة :
وإلى أين؟ كن شجاعا فالهرب عار على الشجاع (يخرج).
المشهد الثالث (طرفة وحده)
أقل عثراتي جابر العثرات
ونج من الباغي الظلوم حياتي
عليك اتكالي يا قدير فقوني
ورد أيا قيوم كيد عداتي
3
المشهد الرابع (جابر - الفاتك ومعيته)
الفاتك (يدخل ومعه معيته) :
ما تفعل هنا يا جابر أتدبر مكيدة ثانية لمولاك؟ الحق بفرقتك.
جابر :
أأنا أكيد لمولاي؟ (يركع)
عفوا سيدي فحياتي وقف عليك.
فاتك :
لسانك يتكلم وقلبك مملوء خبثا وشرا، اخرج يا ناكر الجميل وانتظر الساعة التي يستحقك بها العدل يا خائن العرش والوطن.
صالح :
إنه أمين يا مولاي.
فاتك :
لا أيها الوزير، فأنت لم تعرف شيئا من أسراره، اخرج أيها اللئيم مخافة أن أدنس سيفي بدمك. (جابر يخرج.)
فاتك :
لقد سئمت نفسي متاعب السلطة، وكرهت نفسي الحياة المملوءة عذابا وحذرا، فأعدائي يتهددوني والخطر محدق بعرشي، وفي هذا الموقف لم أجد لي مساعدا ونصيرا، ماذا علمتم عن البطل المجهول؟ عن قيامة الناصر من بين الأموات؟ عن السجين الفار؟ آه من الخونة!
عارف :
لم نفهم شيئا جديدا غير أنه مجهول حتى من أقوامه الذين يحارب معهم ويدفعهم إلى الثورة والهياج.
فاتك :
ألم يكف شعبنا حتى يأتي الغرباء ويساعدوهم علينا؟ لو أتاني أحد برأس هذا الرجل لأعطيته نصف ملكي.
صالح :
ليس ذلك بالسهل فحوله عصابة من الرجال الأشداء، علينا يا مولاي أن نهتم بقضية الناصر، فالشائع أنه حي ومع الثائرين يحارب.
حلزة :
مولاي لا تثق بكل ما يقال، فبمثل هذه الظروف يكثر القيل والقال.
فاتك :
إن وجود البطل المجهول حقيقة واضحة ، والناصر لم يمت، لقد نبشت قبره فلم أجد فيه رفاتا.
حلزة :
إذا صح وجود البطل المجهول فهو الأمير الناصر.
فاتك :
لا يبعد أن يكون، الويل للخونة، ماذا نصنع؟
صالح :
الرأي رأيك يا مولاي.
فاتك :
لقد أكد لي بعض الجنود أن جابرا لم يقتل الناصر، ولطرفة كاتب سري يد في المسألة.
عارف :
لا أظنه يقدم على هذه الخيانة.
فاتك :
بلى، فصداقته القديمة للناصر حملته عليها، وقد فهمت أن جماعة الناصر تتأهب لثورة هائلة.
صالح :
فلنهتم بما نقاومهم به.
فاتك :
بماذا أقاوم وليس لدي رجل أثق به غير القائد بدر، فجابر رجل خائن وطرفة أشد خيانة منه.
عارف :
لا تقنط يا مولاي فحولك شعب طويل عريض فجند منه من تشاء.
المشهد الخامس (المذكورون - بدر) (بدر يدخل ويحيي الأمير.)
فاتك :
وماذا عرفت عن الثائرين؟
بدر :
لا شيء جديد.
فاتك :
هات الجند إلى هذا المكان والموسيقى أيضا، وجئ بجابر وجرده من ثوبه العسكري على مرأى من الشعب فقد حكمت بموته.
بدر :
أمرك سيدي (يخرج).
المشهد السادس (المذكورون - طرفة)
عارف :
لقد أصبت مولاي.
فاتك :
نعم، وهذا أقل عقاب يناله جابر الخائن. (طرفة يسترق الحديث من بين جدران الملعب.)
فاتك :
وما رأيكم بطرفة الخائن الأعظم، أريد أن أمحو آثاره من الوجود، ولكن ذلك يهيج الشعب علي ويحملهم على النفور مني.
حلزة :
يستطيع مولاي قتله دون أن يعلم الشعب بذلك. (طرفة يهز رأسه.)
صالح :
وكيف ذلك؟
حلزة :
نغري أحد الجنود فيقتله ثم تحكمون بقتل الجندي القاتل.
صالح :
إن هذا الظلم فظيع.
فاتك :
دعونا من هذا فالساعة لم تأت بعد، ما رأيكم أتزداد نار الثورة اضطراما؟
حلزة :
ما زالت الحال على هذا المنوال فنار الثورة لا تخمد.
فاتك :
آه، ثورة ... قلاقل ... بلابل ... ما أشقى الفاتك!
المشهد السابع (المذكورون - بدر والجنود وجابر)
بدر (تعزف الموسيقى ويدخل الجند بخطى عسكرية، ثم يقف بدر في الوسط ويدعو جابرا قائلا) :
تعال إلى هنا يا خائنا مولاه بعد أن حلف.
جابر (يقف في الوسط) :
مولاي الأمير، اسمح لي أن أدافع عن نفسي، ثم اقتلني.
فاتك :
صه يا لئيم، قبح الله وجهك.
جابر :
أنا بريء يا مولاي.
بدر (يقترب منه) :
باسم مولانا وأميرنا الفاتك أنزع منك سيفك وشارات الجندية، (إلى جنديين)
قيداه بالسلاسل، واهتفوا جميعكم فليسقط الخائن فليحي الأمير.
الجميع :
فليسقط الخائن، فليحي الأمير.
فاتك :
سيروا بهذا الخائن ليشنق غدا.
الجنود (تعزف الموسيقى ويخرج الجنود بخطى عسكرية، ثم يهتفون) :
فليحي الأمير.
حلزة :
الأعمال بالكمال يا سيدي.
فاتك :
وما تعني أيها النديم؟
حلزة :
يجب أن تفتك بكاتب سرك طرفة منبع الويل والبلاء.
فاتك :
سأمطرن ذلك العقوق صواعق غضبي، فالموت أقل عقاب يستحقه، أما الآن فاخرجا أيها الوزيران، وجهزا من القوات ما يدفع عنا طوارق الحدثان، وأنت أيها النديم اخرج معهما، وعد إلي بالعواد ليغني لي قليلا قبل الرقاد لعل في نغماته ما يقتل شجوني وأحزاني (يخرج الجميع).
المشهد الثامن (الفاتك وحده)
ما أصعب سياسة الناس! فمنذ تقلدي الحكم وأنا طريد الهموم والهواجس، أخاف من خيالي ولا أثق بأحد من رجالي، أمرت اليوم بقتل جابر وسألحق به طرفة كاتب سري، إني أرى قتل هذا الخائن يريح ضميري فهو وحده عالم بكل أسراري وفي يده أوراق هامة إذا أبرزها للأمير الأعظم أوردني كأس الحتوف.
المشهد التاسع (الفاتك - حلزة - العواد)
حلزة (يدخل) :
أي نغم تريد يا مولاي؟
فاتك :
يا غزالي كيف عني أبعدوك؟
يا فؤادي آه ما هذا العذاب
أفأقضي كل عيشي في اضطراب؟
وأنا ملقى على فرش العقاب
أكذا في أرضنا تحيا الملوك؟!
مضني السهد وجافاني الرقاد
وقضيت العمر في أشقى جهاد
خانني جسمي وعاداني العباد
قبح الدهر فقد أشقى الملوك
حلزة (يطل) :
لقد رقد، فلنذهب.
المشهد العاشر (الفاتك - الأشباح)
فاتك (في الحلم) :
إليكم عني ... أنا أفعل ما تريدون ... خذوا العرش، حياتي، أبقوا على حياتي ... ابعد عني. (يظهر له ثلاثة أشباح.)
فاتك (يشير إلى جهة الأشباح) :
لا تقتلوني ... خذوا التاج والملك ... إلى الوراء تبددوا أيها الناس ... أين سيفي؟ (يمد يده)
أين خنجري؟ (ينهض ويمسكه فيقع من يده ويسقط على الأرض فيستفيق من نومه مذعورا قائلا)
ما هذا الحلم الرهيب ؟ ما هذه الأشباح لقد راعني منظرها حتى في الحلم.
المشهد الحادي عشر (الفاتك - الأعمى) (الأعمى يدخل مارا في الملعب.)
فاتك :
ويلاه، هذا هو ... إن نمت تخيفني الأشباح وإن استفقت راعتني الحقائق، فمتى ينتهي عذاب الضمير؟
الأعمى :
الانتقام ... الانتقام ... أين أنت يا رب؟
فاتك :
إنه يريعني ... إنه يخيفني ... رباه.
الأعمى :
نامت عيونك والمظلوم منتبه ...
الثوار (من الخارج) :
أسود البطش والحرب
دنا يوم الوغى هبي (الأعمى يرتجف ويخرج مهرولا.)
فاتك :
حلزة، أين أنت؟
المشهد الثاني عشر (الفاتك - حلزة - الثائرون)
حلزة (يدخل) :
هنا يا مولاي.
الثائرون (من الخارج) :
لقد كدنا أعادينا
وأفنتهم مواضينا
وما خابت مساعينا
بيوم الطعن والضرب (الفاتك صامت يكلم حلزة بالإشارة.)
الثائرون :
بثأر أميرنا الناصر
سيأخذ ليثنا الظافر
بهذا يشهد الباتر
مع الخطية القضب
4
فاتك :
ما هذه الأناشيد، أهم جنودنا يا ترى؟
الوزيران (يدخلان ومعهما الحاجبان) :
حيا الله الأمير.
فاتك :
أهلا بالمخلصين الأمناء.
عارف :
ما بال مولانا مضطرب البال؟
فاتك :
الخوف ملء الفؤاد يا عارف.
صالح :
وممن تخاف؟
فاتك :
ممن أخاف؟ أخاف من نصير المظلومين من عدو البغاة، ماذا عرفتم عن الثورة؟
عارف :
لقد اتقدت نيرانها، وانضم الشعب إلى الثوار فوجهت الجيش والقواد إليهم.
فاتك :
أنا خائف من الفشل فقد رأيت حلما مزعجا.
صالح :
أأنت تصدق الأحلام؟
فاتك :
ما هي إلا صوت النفس التي تشعر بما سيحف بها من الحوادث.
المشهد الثالث عشر (المذكورون - جندي - حسان)
جندي (يدخل قائلا) :
مولاي أمني!
فاتك :
تكلم.
جندي :
أطال الله بقاء مولاي، لقد قتل القائد بدر في عراك مع الثائرين، ولم ينج منا إلا طويل العمر.
فاتك :
والهف نفسي عليك يا بدر! إن عرشي مائل إلى السقوط، اخرجوا جميعا وجندوا من أصدقائي الأمناء جيشا يفني هؤلاء الخوارج، وأنت أيها الجندي اذهب إلى طرفة وادعه عاجلا. (الجميع يخرجون.)
الفاتك :
حسان، ابق هنا.
لهف نفسي نجم سعدي قد أفل
وسيغدو قصر آبائي طلل
خانني دهري ترى ماذا العمل؟
إن قلبي بلظى الخوف اشتعل
وفؤادي في اضطراب وخبل
أيها الناس ارحموني فأنا
تاعس ليل شقائي قد دنا
خانني البشر وعاداني الهنا
جعل اليوم قصوري موطنا
وبلاني الدهر في أشقى العلل
إن كفي سفكت أذكى الدما
واستباحت في الورى ما حرما
وحسامي قد غدا يشكو الظما
إن آثامي اشتكى منها الحمى
وانحنى من ثقلها راسي القلل
5
إن كأس الظلم يردي من ظلم
ليتني لم أظلم الشعب ولم
ساعديني يا سما زل القدم
وندمنا حين لا يجدي الندم
أنا غرقان ولا أخشى البلل (ينتفض)
لسنا في مقام يفيدنا به الندم ... حسان!
حسان :
نعم.
فاتك :
سر في هذه الطريق فلا بد أن يكون طرفة قد صار على مقربة من القصر، ومتى التقيت به بش له وحدثه بلطف، ثم خذه على غرة واطعنه بهذا الخنجر المسموم (يدفعه إليه)
طعنة نجلاء. (حسان يتناول الخنجر بهيئة مريعة ويخرج.)
فاتك :
إن قتل طرفة ينقذ عرشي فهو يدير الثائرين وينفخ نار الثورة ويوهمنا أنه معنا.
المشهد الرابع عشر (فاتك - طرفة)
طرفة (يدخل) :
السلام يا مولاي.
فاتك (على حدة) :
لقد نجا الخائن (إلى طرفة)
ألم تلتق بحسان في الطريق؟
طرفة :
لا، لم أر أحدا.
فاتك :
ألم تر الحاجب الذي أرسلته يدعوك؟
طرفة :
لا، لم أر أحدا ألم تفهم؟
فاتك :
إذن ماذا تريد؟
طرفة :
أريد مناقشتك الحساب، ومطالبتك بمواعيدك الكاذبة.
فاتك :
ما هذه اللهجة؟ أكذا تخاطب مولاك؟
طرفة :
لقد مضى الزمن الذي كنت به مولاي، أما الآن فأنا مولى نفسي وقد أتيت أسألك الوفاء بوعدك.
فاتك :
أي وعد؟
طرفة :
ألم تعدني بعشرة آلاف دينار؟
فاتك :
ومن أين لك هذا المبلغ في ذمتي؟
طرفة :
ثمن لساني، ولقاء إخفاء الأوراق التي أرسلتها لما كنت في ديوان سليمان باشا وبها تقول لي: دس له السم في الشراب؛ فأكون أنا مقامه وتكون أنت مقامي.
فاتك :
رحماك ربي!
طرفة :
لا تدع الإله، فهو ناقم عليك أيها المسخ الجهنمي.
فاتك :
تذكر يا طرفة أني ولي نعمتك.
طرفة :
أذكر ذلك، بيد أن الباشا يجعلني مكانك متى أطلعته على خيانتك.
فاتك :
قل ما تريد ثمن تلك الأوراق؟
طرفة :
لا أسلمك إياها ولو أعطيتني ملكك!
فاتك (يركع) :
اسمع رجاء مولاك.
طرفة :
لم تدع للرحمة مجالا.
فاتك :
قل ما تشاء يا طرفة، واعف عني الآن.
طرفة :
أعفو ولكن ...
فاتك :
قل، قل فأنا راض بكل ما يرضيك.
طرفة :
إذن امض هذه الأوراق.
فاتك :
وما فيها؟
طرفة :
تدفع لي عشرين ألف دينار، وتجعلني واليا مؤبدا على الولايات الغربية والشمالية، وتعفو عن جابر.
فاتك :
واليا مؤبدا؟ عشرين ألف دينار؟ أعفو عن جابر؟ وما أبقيت لي؟
طرفة :
ما بقي يكفيك، امض هذه الصكوك.
فاتك (على حدة) :
أين رجالي الآن؟ (إلى طرفة)
هاتها لأمضيها، (يمد يده لجيبه)
إن خاتمي ليس معي فلندع الحاجب ليأتي به.
طرفة :
كأنك تريد الإيقاع بي؟ امض عليها بيدك وكفى.
فاتك :
وأين هي الأوراق التي تعيدها لي؟
طرفة (يخرجها من جيبه) :
هذه هي. (فاتك يتناولها فجأة ويضعها في فمه.)
طرفة (يضع مسدسه على صدغ الفاتك صارخا به) :
امض يا خائن وإلا قتلتك. (فاتك يوقع مرتجفا ويأخذ طرفة الأوراق.)
المشهد الخامس عشر (المذكورون - الظافر) (الظافر يهجم على الفاتك شاهرا خنجره.)
فاتك (يرتمي على مقعده صارخا) :
ويلاه.
طرفة (يعترض الظافر صارخا) :
ابعد فساعته لم تأت بعد. (يرخى الستار.)
الفصل الخامس
في قصر الأمير
المشهد الأول (الفاتك وحده)
نجم سعدي هوى وحان سقوطي
وعلي الزمان صال وجارا
آه من صولة الزمان فإن الد
هر خصم يذلل القهارا
لقد حفت بي مواكب النحس، وقلبي يحدثني بأن هذا اليوم هو مغيب شمس مجدي، لم يعد لي أمل بالانتصار، أريد أن أجرع السم؛ لأموت بيدي. (يأخذ زجاجة السم ويضعها على فمه ثم يرميها قائلا) عار على البطل أن يقطع حبل حياته بيده، فلنجاهد فإما حياة وإما موتا، ومن قضى حياته غالبا منصورا؟! (يدخل الوزراء وجميع رجال الأمير.)
المشهد الثاني (الفاتك - الوزراء - وجميع رجال الأمير)
الفاتك :
اجلسوا أيها الوزراء (يجلسون)
يجب أن ننتبه لكل طارئ فالموقف حرج.
عارف :
لا تخف يا سيدي، فحولك ليوث حرب.
فاتك :
الشعب الشعب، وويل لملك ثار شعبه عليه، فالشعب منتصر لا محالة، ولكن ذلك لا يدفعني إلى القنوط .
صالح :
إن بأسك مشهور، ولكن تولية طرفة على الولايات الغربية والشمالية لم تكن في محلها، فقد ثار أهالي تلك الولايات بعدما أراهم طرفة أمر توليته عليهم.
فاتك :
أنا لا أجهل أنني أخطأت، ولكن الحياة عزيزة.
عارف (إلى الجمهور) :
إن في الأمر لسرا. (إلى الفاتك)
إن الرجل خائن يا مولاي.
فاتك :
أنا لا أجهل ذلك فإن قيض لنا النصر أذقناه طعم الخيانة.
حلزة :
لقد صرت ضعيف الأمل بالفوز.
صالح :
وكلنا كذلك، فالتسليم أولى.
فاتك :
لا تقولوا ذلك على مسمع من الجنود.
حلزة :
إنهم شاعرون بذلك.
الثوار (من الخارج) :
الدماء الدماء.
عارف :
أسمع صياحهم يا مولاي.
فاتك :
سمعت بأذني رنة السهم في قلبي، كونوا على حذر.
الثوار :
إلى الأمام، إلى الأمام.
صالح :
لقد دنت الساعة.
عارف :
وقرب الموت.
فاتك :
لا خوف عليكم فإنهم يكتفون بقتلي.
حلزة :
كلنا فداء الأمير.
المشهد الثالث (المذكورون - رسول)
رسول (يدخل) :
لقد استولى الثوار على أهم الحصون، وهم زاحفون عليكم يقودهم البطل المجهول، فالهرب الهرب.
فاتك :
ويحك يا رسول الشؤم! ألمثلي يقال هذا الكلام؟
فالموت في ساحة الهيجاء مطلبي
وعندي الموت مثل اللهو واللعب
وفي المعارك ذللت العدى فعدا
إليهم الموت عدو الذئب في الطلب
مهندي ساعة الهيجاء قد قربت
فكن نصيري بها يا أقطع القضب
وأنتم هاجموا الأعدا بلا جزع
فالخوف عار على أسيادنا النجب
حسان :
ها هم قد اقتربوا (يسل سيفه)
إلى الوراء أيها اللئام.
المشهد الرابع (المذكورون - الظافر ورجاله)
الظافر (وهو داخل) :
ويلك (يضربه بسيفه فيخر صريعا)
جنودي ادخلوا (يهجم على الوزراء فيفرون، ويبقى الأمير وحده جالسا على عرشه).
الظافر :
لقد دنت ساعة الانتقام يا باغي.
فاتك :
خذوا ما تريدون، فقط حياتي، أنا خاضع، أنا مسلم أتخلى لكم عن عرشي وكل مالي.
الحارس :
ستتخلى عنه رغم أنفك يا ظالم.
جماد :
والتخلي لا يدفع مقدورا.
الظافر :
لقد تماديت في جورك وظلمك، هرقت الدماء وذللت شعبا طويلا عريضا، ثم تطمع بالحياة؟!
فاتك :
قلت لكم خذوا ما تريدون فأنا خاضع.
الظافر :
لم يعد ينفعك الخضوع، فدم الأبرياء يصيح من أعماق القبور: اقتلوه اقتلوه.
فاتك :
فليكن ما تشاءون فقط حياتي.
الحارس :
هيهات أن يكون ذلك فاستعد للموت، غيبتني في السجن عشر سنوات وسأغيبك في ظلمة القبر إلى الأبد.
فاتك :
رحمة رحمة.
الظافر :
لقد بعثت الأموات من القبور لتناقشك الحساب، أنا هو الناصر أنا هو أميركم أيها الشجعان (يخلع رداءه فيظهر ثوبه القديم).
الحارس (يهجم ويعانقه صارخا) :
أخي حبيبي.
فاتك :
لقد صدق ظني، فهو هو بعينه.
كلثوم :
ما أعظمه رجلا! لقد حاربنا بقيادته ولم نعرفه.
الجميع :
فليحي الناصر، فليحي الناصر. (من الخارج ضوضاء ووقع أقدام، ينتبه الجميع فيدخل الأعمى يقوده طرفة.)
المشهد الخامس (المذكورون - طرفة - الأعمى)
طرفة (إلى الأعمى وهو ماسك بذراعه) :
من هنا يا مولاي الأمير، من هنا.
فاتك :
والأعمى أيضا؟
الناصر والحارس (يهرعان إليه صارخين) :
أبي أبي.
الأعمى :
ولدي (يتصافحون) ، استنيري أيتها العينان أضيئي أيتها الباصرة؛ لأرى لحظة واحدة أعز الناس إلي، ولكن العمى خير من البصر فابقي مظلمة إلى الأبد؛ لئلا تري أخا ظالما بربريا.
الناصر :
كيف تريد أن نقتله؟ (كلثوم يدخل كانونا من النار وعليه قضبان حديد.)
فاتك :
هو ذا الجلاد، الوداع أيها النور، الوداع أيتها الحياة.
الناصر (يأخذ أباه إلى قرب الفاتك، ويقول له) :
هو ذا الرجل الذي سمل عينيك يا أبي.
الأعمى :
الرجل الذي أعماني؟
الناصر :
هذا هو الذي قبض علي وأمر بقتلي وسجن أخي.
الأعمى :
الفاتك!
الناصر :
الذي شدك إلى هذا العرش كما هو مشدود الآن.
الأعمى :
الفاتك!
الناصر :
الذي قضى عليك أن تعيش في ظلمة أبدية.
الأعمى :
الفاتك. (فاتك يحني رأسه.)
الناصر :
إن ذلك الرجل في قبضة يدك؛ فقل: كيف تريد أن تقتله؟
الأعمى (واقف بين ولديه يضع يديه عليهما، ويقول) :
بعد أن لمست أعز شيء لدي وهو أنتما، دعني يا ناصر أمتع نفسي بلمس أقذر البشر. (الناصر يقرب والده ويجعل يده على رأس الفاتك.)
الأعمى :
يا فاتك، أحقيقة أنك مشدود على العرش الذي اختلسته؟
فاتك (بكبرياء وسكون) :
نعم، مشدود كما شددتك بالأمس.
الناصر (بحنق) :
والدي، أصدر حكمك.
الجميع :
فلتفقأ عيناه ... فليقتل .
فاتك :
أنتظر ذلك بنفس مطمئنة.
الحارس :
والدي تكلم.
الأعمى (يشد بيده على رأس الفاتك، ويقول بصوت مهيب) :
يا فاتك، إني عفوت عنك، اذهب وعش إن استطعت الحياة رغما عن تبكيت الضمير، قاين، قاين، إن هابيل يعفو يا رب، فاقبل عفوه إن شئت.
إني عفوت وهذا منتهى أربي
العفو عند اقتدار شيمة العرب (فاتك يحني رأسه، ويخونه جلده.)
الناصر :
أخرجوا النار من هنا فقد أخمدتها ديمة الحلم، فك قيوده يا جابر وأخرجه، أما أنت يا طرفة يا نصير الأحرار فلك وحدك يعقد علم الفوز في جهاد المظلومين.
فاتك :
الخائن الخائن (وهو خارج).
طرفة :
هذا مصير الظالمين يا فاتك.
الناصر (إلى أبيه) :
إنك لعظيم بين العظماء، تعلمنا أن أشد أنواع الانتقام هو العفو عند الاقتدار، وأن تبكيت الضمير هو العذاب الأبدي.
الأعمى :
لا أريد تخضيب مشيبي بالدم، فلتبارككما السماء إن حكمتما بالعدل بين الرعية، فالعدل أساس الملك. (ينشد الجميع):
يا حبذا النصر المبين
فيه سرور العالمين
والنصر يدركه الألى
طلبوا العلا مستبسلين
نلنا الأماني والأمل
والظلم ولى وارتحل
والفاتك اليوم انخذل
واندك حصن الظالمين
الشعب قد حاز الظفر
والظالم الباغي اندحر
إن الفلاح لمن صبر
فتصبروا يا قاطنين (انتهت) (يرخى الستار.)
تقريظ
أنشده جناب الشاعر المجيد الأستاذ سليم أفندي أبو شقرا في حفلة التمثيل:
ألا تزالين في ظلمي وتنكيدي
يكفي الذي ذقت من ذلي وتسهيدي
أكان ذا الظلم طبعا فيك أجهله
أم قد تعلمت من «أشباح عبود»
دفنت يا زمن الإرهاق واشتملت
على رجالك أصلاب الجلاميد
كان الأمير إلها والملا هملا
شتان ما بين عباد ومعبود
يقضي بهم أمره تمليه فطرته
فعيشهم بين تنغيص وتنكيد
لا يصلح الفرد للأحكام يبرمها
والخير في الحكم مربوطا بتقييد
إن كان يردي أمير الظلم إخوته
فكيف ترجو بقاء للأباعيد؟
لا يأمن الكهل سيف الموت منصلتا
وتيأس الأم من إحياء مولود
كم قابل خنقت أطفال والدة
كي لا يخاف أمير شج تهديد
وكم عيون كواها الجور فانسملت
وعاش صاحبها في زي مفقود
لكن إذا سود «الفتاك» صفحته
ماذا نلاقيه عند (اللص) من جود؟
ما كان تهويل ذا العاتي ليردعه
عن فكره لا ولا حر المواعيد
ذاك الإباء ... وهذا فضل مبدعه
حيوا البلاغة في آيات عبود
نفثت في الفن روحا ليس يعرفه
فالفضل فضلك في ختم وتمهيد •••
أكرم (بجامعة) الآداب قاطبة
دار العلوم ومهوى الفتية الصيد
ثمارها أينعت في كرم حارسها «شبل» المعالي فتى الإقدام ما نودي
Page inconnue