وتزوجت فابوس ملك بانشاي «آشور» من بلاد المشرق، فولدت له سينيراس، فتولى الملك بعده ناعم العيش إلى أن كبرت بنته مرة، وليته لم يلدها، فقد كانت مسخا وشؤما عليه وعلى نفسها، ولكنها أحسنت إلى البشر بأن ولدت لهم إلها.
ما نهدت مرة وصارت تشعر بما تشعر به النساء حتى عشقت والدها عشق جنون، اهتزت له فينوس غضبا، وأنبت ابنها كوبيدون، فتبرأ من السهام التي أصابت قلب هذه الفتاة، وكانت مرة جميلة كل الجمال حتى إن شبان المشرق كلهم كانوا يتمنون أن يشاطروها مضجعها فرفضتهم، وفيهم السري الجميل، والمثري النبيل، وكانت تدرك أن حبها لوالدها حب غير طبيعي ولا شرعي، فجعلت تقاوم عاطفتها الملحة، وتسأل الآلهة باكية أن تصرف عنها هذه الكأس المرة، وتساعدها على التخلص من هذا الحب القاتل، ولكن الآلهة أصمت آذانها عن ندائها وحولت عنها عيونها.
وكان ألذ شيء في قلبها، وأعذبه في فمها، أن تقبل والدها وتضمه إلى صدرها، وشد ما تمنت لو تكون في بلاد الفرس، حيث يباح للآباء الزواج ببناتهم، إذا لما كانت تلاقي هذه العذابات، ولما كانت تأتي أمرا إدا.
وأخيرا حينما رأت أن حبها مجرم، وأنه ليس في مكنتها أن تبوح به وهل بوسعها أن تزاحم أمها الحنون؟! وهل يرضى أبوها عن عاطفتها المجنونة؟! لما رأت كل هذا عزمت على الانتحار، فتناولت زنارها الحريري وربطته على عنقها، وشدته شدة ازرق لها وجهها وجحظت عيناها. واتفق أن فيروز مربيتها العجوز كانت واقفة على بابها، فسمعت حشرجة أنفاس فدفعت الباب ودخلت، فرأت مرة على وشك أن تلفظ روحها، فقطعت الزنار وحلته عن عنقها، وقعدت بها تسندها إلى صدرها وتسألها ما بها، فلا تجيبها بسوى البكاء والزفرات.
ولكن العجائز لا يعجزن عن انتزاع أسرار الفتيات، فأخذت تقسم على مرة أن تطلعها على ما بها، وهي تدبر أمرها مهما صعب وتعقد، فترددت مرة حياء، ثم دست وجهها في صدر مربيتها وفاهت بسرها الرهيب، فارتعدت المربية لأول وهلة، ولكنها تمالكت مدركة أن لا مندوحة لها عن إنقاذ ربيبتها، فطيبت نفسها ووعدتها بأن توصلها إلى من يحبه قلبها.
ومرت ليال على مرة كانت إذا نامت فيها حلمت بأبيها، وإذا سهرت أخذت تؤنب نفسها، وتقول: كيف يصح لي أن أزاحم أمي وأحمل من أبي فألد ابنا أكون له أما وأختا ويكون له أبي أبا وجدا؟
وجاء موسم سيريس إلهة الزروع، وكانت أمهات الأسر النبيلة يحتفلن به احتفالا رائعا، فيلبسن ثيابا بيضاء كالثلج، ويقدمن للإلهة عقودا من السنابل، باكورة الغلال، وينقطعن تسعة أيام عن ملذات فينوس وعن مقاربة أزواجهن، فانطلقت الملكة كولشيريس، أم مرة، إلى الموسم لتقوم، مع نساء المدينة، بتلك الأسرار المقدسة. وفيما كانت غائبة عن فراشها جاءت العجوز الملك سينيراس، وقعدت إليه تحدثه، ثم أخبرته أن فتاة شغفت به شغفا شديدا ولم تسمها له، وإنما امتدحت لديه جمالها وصباها، فسألها الملك عن سنها، فأجابته: هي في سن بنتك مرة. فسال لعاب الملك، وأنى له وهو في الشيخوخة أن يقع على فتاة جميلة في سن مرة؟ فأمرها بأن تقودها إليه الليلة، فافتر ثغر العجوز الأدرد بشرا، وبادرت إلى مرة تبشرها قائلة: النصر لنا. ولكن مرة، على ارتياحها، لم تستسلم بملء نفسها إلى الفرح، فقد لبثت متخوفة.
ولما سكت الليل جاءتها العجوز، وأخذت بيدها اليسرى تقودها إلى فراش أبيها، وتركت لها اليمنى تتلمس بها الجدران لتهتدي في حندس ذاك الليل الطامس، وقد تعثرت مرة ثلاث مرات، فكأن الآلهة جعلت لها من كل عثرة هاتفا ينبهها إلى العدول عن الذهاب وإلى العودة إلى غرفتها فلم ترعو، ونعقت بومة ثلاث نعقات منكرة، فانتبهت مرة إلى صراخها المحزن المشئوم، ولكنها لم ترجع، لبثت سائرة حتى أوصلتها العجوز إلى غرفة أبيها، وسلمت إليه يدها في الظلمة الحالكة قائلة له: خذها فهي لك. فجمعت بخبثها ودهائها جسميهما الملعونين، وربما كان من حق التفاوت في السن أن تدعوه مرة بأبيها في حال المضاجعة، وأن يدعوها بابنته، حتى لا ينقص شيء مما يخالف الشرائع ويدنسها.
وعلقت مرة من أبيها، وتلقت في أحشائها زرعا نجسا، وحملت في بطنها ثمرة الخيانة، وتجددت خيانتها في الليلة الثانية، ولبثت تتجدد كل ليلة حتى آخر يوم من أيام الموسم، وكان الملك سينيراس قد تبرم من تواري هذه الفتاة عن عينيه، وأراد أن يعرف صورتها، فجاء بمشعل أدناه منها، ولما عرفها وتمثلت له الجريمة بهولها، عقل الحزن والغضب لسانه، وأسرع إلى سيف معلق بالجدار فتناوله واستله من غمده، والموت يلمع على شفرته، والتفت إلى حيث كانت مرة ليرديها به، فلم ير لها أثرا، فقد كانت انسلت من الغرفة وسترها الظلام فنجت، وسارت تاركة العربية الخصبة بالنخيل، وأرض بانشاي، تضرب في السهول والأوعار، ولا تعرف الراحة ليل نهار، فمرت عليها تسعة أشهر وهي تمشي حتى وصلت إلى أرض سبأ، فوقفت وقد أوهنها التعب وأحست أن حملها قد ثقل عليها، فهي لا تستطيع سيرا، وانطرحت أرضا تئن تعبا ولا تعلم ماذا تسأل الآلهة، وقعت على الأرض ترهب الموت وتكره الحياة، لا تريد أن تموت ولا ترغب في أن تحيا.
رأت أنها استحقت نصيبها في هذه الدنيا، وليس لها أن ترفض العقاب القاسي الذي استأهلته جريمتها، فطلبت من الآلهة ألا تبقى حية لئلا تلوث الأحياء، وألا تموت لئلا تدنس الأموات، وإنما ليبعد منها الموت والحياة، وليجعل منها كائن آخر لا ميتا ولا حيا.
Page inconnue