Les bases de la pensée scientifique
أسس التفكير العلمي
Genres
عندما يسأل السائلون عن أسس التفكير العلمي، فكثيرا جدا ما تنصرف الأذهان إلى نوع واحد من نوعي هذا التفكير، وهو ذلك الذي يجري في ميدان العلوم الطبيعية التجريبية، وقلما يتنبه السائلون أو المجيبون أن ثمة نوعا آخر، يخالف منهج العلوم الطبيعية اختلافا جوهريا من رأسه إلى قدمه، وأعني به التفكير الرياضي، آخذين لفظة «الرياضة» هنا بأعم معانيها، التي تشمل مع علوم الجبر والحساب والهندسة وما إليها، علوما أخرى، ليست الأرقام لغتها، ولكنها مع ذلك تنهج النهج نفسه في خطوات السير من الفروض الأولى نزولا إلى النتائج التي تتولد من تلك الفروض.
ذلك أن التفكير الرياضي يتميز بسيره على خطوتين؛ أولاهما خطوة توضع فيها فروض يطلب التسليم بها، لا لأنها في ذاتها لا بد من التسليم بها في كل الظروف وعند كل إنسان؛ بل لأن الباحث يريد أن يقيم عليها نتائجه، بحيث لا يجوز للناقد بعد ذلك أن يوجه نقده إلى الفروض نفسها، بل عليه أن يحصر نقده عندئذ في طريقة استدلال النتائج من تلك الفروض؛ فإذا لم يكن البناء الفكري كله مقبولا عند ناقديه، فسبيلهم هو أن يعيدوا هم البناء على فروض أخرى يضعونها ليخرجوا منها نتائج مختلفة عن نتائج البناء المرفوض؛ ونسوق لذلك مثلا من الحياة الجارية قولنا: إذا كان الفرض هو أن دخل المصري الواحد في المتوسط مائتا جنيه في العام، ثم إذا فرضنا أيضا أن عدد المصريين أربعون مليونا؛ كانت النتيجة الحتمية هي أن الدخل القومي في مصر ثمانية آلاف مليون جنيه؛ فيلاحظ القارئ في هذا المثل كيف أن هذه النتيجة المذكورة لا توصف بأنها صواب أو بأنها خطأ إلا على أساس الفروض التي وضعناها واشتققنا النتيجة منها؛ فالبناء الفكري هنا سليم ما دامت الفروض محل اتفاق، وما دامت النتيجة قد جاء استدلالها بطريقة رياضية صحيحة؛ وأما إذا أراد ناقد أن يضع فروضا أخرى، كأن يجعل دخل المصري في المتوسط المطلوب ثلاثمائة جنيه في العام، مع موافقته على تعداد المصريين أربعين مليونا، فإن نتيجته سوف تختلف؛ إذ ستكون هذه المرة أن الدخل القومي في مصر لا بد أن يبلغ اثني عشر ألفا من ملايين الجنيهات.
النقطة الهامة جدا في هذا الحديث، والتي نريد استرعاء الأنظار إليها، هي أن الفروض التي يضعها صاحب التفكير الرياضي - أيا كان موضوعه - ليست هي محل النقاش والجدل؛ لأن الفروض بطبيعة تسميتها هذه ليست من قبيل القضايا المطروحة للبحث، بل هي بمثابة قولنا: «إذا» كان الأمر كذا وكذا فإن الناتج يكون كيت وكيت، والجملة المسبوقة بأداة الشرط «إذا» لا يدعي قائلها أنها دالة على حقيقة فعلية، فقولك - مثلا: «إذا نزل المطر فسأضطر إلى المكث في منزلي»، يرتب نتيجة على فرض نزول المطر، دون أن يزعم بأن المطر قد نزل أو أنه سوف ينزل حتما؛ بل إن النتيجة مرهونة بحدوث هذا الفرض «إذا» حدث.
ولقد كان النموذج التاريخي للتفكير الرياضي طوال قرون، هو علم الهندسة كما وضعه إقليدس؛ ففيه بدأ ذلك الرياضي الرائد بمسلمات ليبدأ بها البناء الفكري الرياضي، وقسم تلك المسلمات ثلاثة أنواع: فأولا - أورد عددا من التعريفات التي يحدد به ما يعنيه بالكلمات ذات الأهمية في سياقه، كالنقطة والخط والسطح، وهكذا؛ وثانيا - ذكر عددا من الحقائق المطلوب قبولها بغير برهان، وأسماها بالبديهيات، وثالثا - وضع عددا آخر من الحقائق المطلوب التسليم بها مقدما، وأسماها بالمصادرات؛ وكان الفرق الرئيس بين مجموعة البديهيات ومجموعة المصادرات - وكلتاهما مطلوب التسليم بهما بغير برهان - هو أن البديهيات تدور حول أفكار ليست من مجال الهندسة ذاتها، وأما المصادرات فأفكار مأخوذة من مجال الهندسة الذي هو مجال البحث الذي يهم «إقليدس» تناوله، فبينما البديهيات تذكر لنا حقائق عن المقادير الحسابية أو عن المفهومات الواردة في علم الحساب، كمفهوم الجمع أو مفهوم التساوي، ترى المصادرات قائمة على مفهومات هندسية مأخوذة من الميدان نفسه الذي هو موضوع البحث، كالخطوط المتوازية مثلا.
ولبث الناس منذ عهد إقليدس نفسه (وهو من علماء الإسكندرية حوالي سنة 300 قبل الميلاد) إلى القرن التاسع عشر، لا تأخذهم الريبة في أن الفروض التي بنى عليها إقليدس «نظرياته» الهندسية، ليست مجرد فروض قابلة للتغيير، بل هي في الوقت نفسه دالة على حقائق الطبيعة الخارجية كما هي واقعة بالفعل، فإذا قال «إقليدس» - مثلا - في تلك الفروض إن الخطين المتوازيين لا يتلاقيان مهما امتدا؛ فلأن هذه هي حقيقة الخطين المتوازيين في الوجود الخارجي؛ ولا غرابة أن كانت المشكلة الرئيسة التي أدار حولها الفيلسوف الألماني العظيم عمانوئيل كانط فلسفته كلها (ولد كانط سنة 1724م ومات سنة 1804م) هي هذا السؤال: ما دامت المسلمات في هندسة «إقليدس» قد أنتجها العقل الخالص غير مستمد إياها من تجارب الحواس، ومع ذلك فهي مطابقة لما يجده الإنسان في الوجود الخارجي كما تدل عليه تلك التجارب، فكيف أمكن العقل المحض أن ينتج من ذاته حقائق تطابق ما هو واقع بالفعل!
أقول إن الناس قد لبثوا طوال هذه القرون، وهم يرون في مسلمات الرياضة لا مجرد فروض يمكن تغييرها بسواها فتتغير النتائج تبعا لذلك؛ بل يرون فيها ما يدل على حقائق الوجود الفعلي؛ إلى أن حدث إبان القرن التاسع عشر أن تساءل الرياضيون: ألا يمكن تغيير هذه المسلمة أو تلك من مسلمات الهندسة الإقليدية (= الهندسة التي خلفها «إقليدس») وإذا نحن بدلنا في تلك المسلمات فماذا تكون «النظريات» الهندسية الجديدة؟ وقام هؤلاء الرياضيون بالفعل بمثل هذا التغيير (وخصوصا في المصادرة الخاصة بالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان، أو بالخطين غير المتوازيين اللذين لا بد أن يلتقيا إذا امتدا)، فكان ذلك إيذانا بمولد عصر جديد في علم الرياضة، أهم ما يميزه - من وجهة نظرنا الفلسفية - هو أن العلم الرياضي لا يدل بذاته على الواقع الخارجي، ولكن صحته منحصرة في صحة الاستدلال من الفروض المسلم بها، مع إمكان تغيير تلك الفروض إذا أردنا أن نقيم بناء رياضيا ثانيا، ثم تغييرها مرة أخرى لنقيم بناء رياضيا ثالثا، فرابعا، فخامسا، فأي عدد شئت من البناءات الفكرية الرياضية، وكلها صحيح، ما دام استدلال النتائج (أي «النظريات») قد جاء استدلالا سليما من المسلمات المفروضة لتكون أساسا يقام عليه البناء؛ ومعنى ذلك أن الحقائق الرياضية تتعدد بتعدد الأنساق الرياضية التي نقيمها، ومن هذه الأنساق في ذاتها لا نستطيع أن نقطع بأيها هو الذي ينطبق على الطبيعة الخارجية؟
قلنا إن ما يميز التفكير الرياضي هو سيره على خطوتين، كانت أولاهما مسلمات يفترض صوابها بغير برهان، وأما الأخرى فهي «النظريات» أو النتائج التي نشتقها من تلك المسلمات، وهي نظريات نقيم عليها البرهان؛ وطريقة البرهنة عليها هي أن نستند إلى المسلمات، فكل حقيقة نراها مشتقة من إحدى المسلمات أو من بضع مسلمات مأخوذة معا، نعدها حقيقة مبرهنا عليها لا لأنها حتما تنطبق على الواقع الطبيعي إذا أردنا تطبيقها، إذ قد لا تكون كذلك، ولكن لأنها اشتقت من الفروض اشتقاقا سليما.
وليس هذا المنهج الرياضي بخطوتيه مقصورا على العلوم الرياضية بالمعنى الضيق لهذه العبارة، بل إنه منهج يستخدمه العقل البشري في مجالات أخرى كثيرة، من شأن الباحثين فيها أن يبدءوا السير مما هو مسلم بصوابه، إما تسليما قائما على مجرد افتراض، وإما تسليما قائما على أسس أخرى، ثم نرى هؤلاء الباحثين يصرفون جهودهم الفكرية بعد ذلك في عملية استخراج النتائج التي تلزم عن تلك البداية التي كانت موضع التسليم أول الأمر؛ وفي أمثال هذه الحالات كلها، ماذا يكون معنى «التفكير العلمي» إلا أن يكون هو القدرة على استخلاص النتائج من مقدمات مفروض فيها الصواب، بحكم الفرض. إن «التفكير العلمي» هنا لا شأن له بالكون وما فيه؛ إذ لا شأن له بمطابقة الأقوال على الوقائع، بل شأنه، كل شأنه، هو في إحكام العلاقة الاستدلالية بين الأصل وما يتفرع عنه.
ولنأخذ أمثلة لهذا الضرب من «التفكير العلمي» الذي يساق على نهج الطريق الرياضي دون أن يكون موضوعه هو العلوم الرياضية بمعناها الضيق، فلقد شهدت الفلسفة الإنجليزية في القرن السابع عشر صراعا على النظرية السياسية بين رجلين، هما «جون لوك» (1632-1704م) و«تومس هوبز» (1588-1679م)؛ أولهما يذهب إلى أن الملك مختار من الشعب، ومن ثم يكون من حق الشعب أن يعزله إذا لم يجده قد أدى الأمانة على الوجه المنشود، والآخر يذهب إلى أن الملك في الأصل التاريخي للملكية لم يجئ نتيجة اختيار من الشعب المحكوم، بل جاء نتيجة قوته التي فرضها فرضا على ذلك الشعب، ومن ثم فليس من حق الشعب أن يعزله أو أن يحاكمه؛ وكان كل من الفيلسوفين قد انتهى إلى مذهبه السياسي اشتقاقا من فرض فرضه لنفسه عن أصل المجتمع الإنساني كيف كان عند نقطة ابتدائه؟ قال «لوك» في ذلك: إن أفراد الناس قد أرادوا لأنفسهم الأمن فاختاروا من بينهم حكما يحكم بينهم بالعدل إذا ما نشب اختلاف، وإذا كان هذا هو الفرض، تولدت عنه النتيجة اللازمة، وهي أن الشعب الذي اختار له حق الرجوع في اختياره، وأما «هوبز» فقد قال غير ذلك؛ كان الفرض عنده في قيام المجتمع بادئ ذي بدء هو أن رجلا يمتاز دون سائر الأفراد بقوته، ففرض سلطانه على الجميع، وجعل من نفسه حكما بينهم، فتكون النتيجة الاستدلالية التي تلزم عن ذلك؛ هو أن يكون ذلك الرجل هو واضع القوانين؛ ومن ثم فليس من حق أحد من رعيته أن يحاسبه على فعل يؤديه أو على حكم يقضي به.
فماذا نقول نحن عن هاتين النظريتين في سياسة الحكم؟ أيمكن القول أيهما صواب وأيهما خطأ؟ إن «التفكير العلمي» هنا هو أن نأخذ كل نظرية من حيث اشتقاقها من فرضها، فإذا كان الاشتقاق سليما من الناحية المنطقية، كانت النتيجة صحيحة من الوجهة النظرية؛ لكن ماذا نحن صانعون إذا بحثنا الموقف فوجدنا كلتا النظريتين على صواب من حيث سلامة الاشتقاق من القروض؟ إنه لا يسعنا في هذه الحالة إلا الاختيار على أساس المنفعة العملية للجماعة المعينة في مرحلة معينة من تاريخها، دون أن يكون من حقنا «علميا» أن نتهم النظرية الأخرى بالخطأ. إن الأمر هنا كالأمر في عدة بناءات رياضية أقمناها على مجموعات مختلفة من المسلمات، كل بناء رياضي منها صادق في ذاته، حتى لو وقع الاختيار على إحداها دون سائرها عند التطبيق العملي - فلن يكون معنى ذلك أن بقية البناءات التي لم نخترها خاطئة من الناحية الرياضية الخالصة؛ أو قل - بتشبيه آخر - إننا في هذه الحالة كأننا ننظر إلى أهرام الجيزة الثلاثة، كل هرم منها له بناؤه الخاص به، وليس الحكم على أحدها بذي دلالة بالنسبة للحكم على الهرمين الآخرين، فإذا كان أحدهما على شيء من الخطأ في أساسه المعماري، فلا يدل ذلك على شيء بالنسبة للآخرين، إذ قد يكون هذان - أو أحدهما - على خطأ كذلك، أو قد يكونان على صواب.
Page inconnue