فأجابه أكبر الخدام سنا وقال: «قد خدمنا الشيخ عباس لقاء الخبز والمأوى ولكننا لم نكن له عبيدا قط.» قال هذا ونزع عباءته وكوفيته وطرحهما أمام الشيخ عباس وزاد قائلا: «لا أريد أن أنعم جسدي بهذه الملابس الحقيرة كيما تبقى نفسي متعذبة في منزل سفاك الدماء.»
ففعل الخدام كافة نظيره وانضموا إلى الجمع وعلى وجوههم سيماء الانعتاق والحرية.
فلما رأى الخوري إلياس ما فعلوه وقد شعر بأن سلطته الكاذبة قد تضعضعت خرج من ذلك المنزل مجدفا على الساعة التي أتت بخليل إلى تلك القرية.
حينئذ تقدم رجل من بين الجمع وحل وثاق خليل ونظر إلى الشيخ عباس المرتمي على كرسيه كجثة هامدة وبلهجة مملوءة بالعزم والإرادة خاطبه قائلا: «إن الشاب الذي أحضرته مكتوفا لكي تحاكمه كمجرم أثيم قد أنار قلوبنا المظلمة وحول بصائرنا نحو سبل الحق والمعروفة ، والأرملة البائسة التي دعوتها عاهرة كاذبة قد أبانت لنا السر الهائل الذي ظل مكتوما خمسة أعوام، أما نحن فقد تراكضنا مسرعين إلى هذه الدار بدينونة البريء واضطهاد العادل، والآن وقد انفتحت أعيننا وأرتنا السماء جريمتك المخيفة ومظالمك القاسية نغادرك منفردا ولا ندينك، ونهملك ولا نشكوك ونبتعد عنك طالبين من السماء أن تفعل مشيئتها بك.»
وارتفعت إذ ذاك أصوات الرجال والنساء في تلك القاعة الوسيعة فكان هذا يقول: هلموا نخرج من هذا المكان المشحون بالآثام والمعاصي ونذهب إلى بيوتنا. وذا يصرخ: تعالوا نتبع الشاب إلى بيت راحيل ونسمع حكمته المعزية وأقواله العذبة. وذاك يهتف: لنفعلن إرادة خليل فهو أعلم بحاجاتنا وأدرى منا بمطالبنا. وغيره يقول: إن كنا نريد العدل والإنصاف فلنذهب غدا إلى الأمير أمين ونخبره بجرائم الشيخ عباس ونطلب إليه أن يعاقبه. وآخر يصيح: يجب أن نستعطف الأمير ونرجوه أن يقيم خليلا ممثلا له في هذه القرية. وغيره يقول: يجب أن نشكو الخوري إلياس إلى الأسقف لأنه يشارك الشيخ بجميع أعماله.
وبينما هذه الأصوات تتصاعد من كل ناحية وتهبط كالسهام الحادة على صدر الشيخ الخفوق رفع خليل يده وأسكت الجمع بإشارة ثم ناداهم قائلا: «اسمعوا وتبصروا أيها الإخوة ولا تكونوا متسرعين، أنا أطلب إليكم باسم محبتي ألا تذهبوا إلى الأمير فهو لا ينصفكم من الشيخ لأن الكواسر لا تنهش بعضها البعض، ولا تشكوا الكاهن إلى رئيسه لأن الرئيس يعلم أن البيت الذي ينقسم على ذاته يخرب، ولا تطلبوا أن أكون ممثلا للحاكم في هذه القرية لأن الخادم الأمين لا يريد أن يكون عونا للسيد الشرير، إن كنت خليقا بحبكم وانعطافكم فدعوني أعيش بينكم وأشارككم بأفراح الحياة وأحزانها، وأشاطركم العمل في الحقول والراحة في المنازل؛ لأننى إن لم أكن كواحد منكم أكن كالمرائين الذين يكرزون بالفضيلة ولا يفعلون غير الشر، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة تعالوا نذهب تاركين الشيخ عباس واقفا في محكمة ضميره أمام عرش الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار.»
قال هذا وخرج من ذلك المكان فتبعه الجمع كأن في شخصه قوة تتحول نحوها الأبصار كيفما تحولت، وبقي الشيخ منفردا كالبرج المهدوم متوجعا كالقائد المغلوب، ولما بلغ الجمع ساحة الكنيسة وكان القمر قد طلع من وراء الشفق وسكب أشعته الفضية في السماء التفت خليل ورأى أوجه الرجال والنساء متجهة نحوه كالخراف الناظرة إلى راعيها فتحركت روحه في داخله كأنه وجد في أولئك القرويين المساكين رمز الشعوب المظلومة وشاهد في تلك الأكواخ الحقيرة المكتنفة بالثلوج المتجلدة رمز البلاد المغمورة بالذل والهوان، فوقف وقفة نبي يسمع صراخ الأجيال، وتغيرت ملامحه واتسعت عيناه كأن نفسه قد أبصرت جميع أمم المشرق سائرة تجر قيود العبودية في تلك الأودية، فرفع كفيه نحو العلاء وبصوت يشابه ضجيج الأمواج صرخ قائلا: «من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا، من جوانب هذه الظلمة ترفع أكفنا نحوك فانظرينا، وعلى هذه الثلوج نسجد أمامك فارحمينا، أمام عرشك الرهيب نقف الآن ناشرين على أجسادنا أثواب آبائنا الملطخة بدمائهم، عافرين شعورنا بتراب القبور الممزوج ببقاياهم، حاملين السيوف التي أغمدت بأكبادهم، رافعين الرماح التي خرقت صدورهم، ساحبين القيود التي أبادت أقدامهم، صارخين الصراخ الذي جرح حناجرهم، نائحين النواح الذي ملأ ظلمة سجونهم، مصلين الصلاة التي انبثقت من أوجاع قلوبهم، فأصغي أيتها الحرية واسمعينا، من منبع النيل إلى مصب الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس متموجا مع صراخ الهاوية، ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزاع الموت، ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة، فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا: في زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والهوان تقرع أمامك الصدور، وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة تطرح لديك القلوب، وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحن إليك الأرواح، فانظري أيتها الحرية وارحمينا ... في المدارس والمكاتب تناجيك الشبيبة اليائسة، وفي الكنائس والجوامع يستميلك الكتاب المتروك، وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشريعة المهملة، فأشفقي أيتها الحرية وخلصينا ... في شوارعنا الضيقة يبيع التاجر أيامه ليعطي أثمانها إلى لصوص المغرب ، ولا من ينصحه ، وفي حقولنا المجدبة يحفر الفلاح بأظافره، ويزرعها حبات قلبه، ويسقيها دموعه، ولا يستغل غير الأشواك ولا من يعلمه، وفي سهولنا الجرداء يسير البدوي عاريا حافيا جائعا ولا من يترأف عليه، فتكلمي أيتها الحرية وعلمينا.
نعاجنا ترعى الأشواك والحسك بدلا من الزهور والأعشاب، وعجولنا تقضم أصول الأشجار بدلا من الذرة، وخيولنا تلتهم الهشيم بدلا من الشعير فهلمي أيتها الحرية وأنقذينا.
منذ البدء وظلام الليل يخيم على أرواحنا فأي متى يجيء الفجر؟ من الحبوس إلى الحبوس تنتقل أجسادنا والأجيال تمر بنا ساخرة فإلى متى نحتمل سخرية الأجيال؟ ومن نير ثقيل إلى نير أثقل تذهب أعناقنا وأمم الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا فإلام نصبر على ضحك الأمم؟ ومن القيود إلى القيود تسير ركابنا فلا القيود تفنى ولا نحن ننقرض. فإلى متى نحيا؟
من عبودية المصريين إلى سبي بابل إلى قساوة الفرس إلى خدمة الإغريقيين إلى استبداد الروم إلى مظالم المغول إلى مطامع الإفرنج فإلى أين نحن سائرون الآن، وأي متى نبلغ جبهة العقبة؟
Page inconnue