كان عبد الله يتصرف براحة، وكان يتعامل مع الأوراق كأنه يعرفها، كان الوقت بطيئا وأنا أراقبه يفحص الأوراق، ويتوقف مع ابتسامته لي، وكان سريعا حين نتناول الشاي والفطائر أو نتحدث في أمور أخرى، لم يكن عفويا لي، كان دقيقا محددا مختصرا، لم يكن همجيا كما تعودته، لم يكن أيضا حانيا محبا، كان لي ماديا مهذبا، ينتظر فقط الفرصة، إشارة مني لينقض علي، صبورا كان أيضا.
بدأ البرق يداعب جلستنا يتبعه الرعد وانهالت الأمطار على الإسكندرية، وزحف البرد لداخل البيت، كاد الليل أن ينتصف، سألني إن كنت أنوي الاحتفاظ بالنبيذ، ابتسمت وأحضرته، حتى طريقة تناوله للنبيذ كانت مختلفة، كان يبلل شفتيه وينتظر قليلا، ثم يجرع جرعة كبيرة ويضع الكأس، ويفعل ذلك كل مرة حتى فرغت كأسه، نظر في ساعته، عبد الله يرتدي ساعة! الكثير من الدهشات في يوم واحد، وربما الأكثر منها بليلة واحدة.
تملكتني الحيرة، هل حقا لا يعرفني؟ يراني امرأة جديدة عليه؟ ينتظر بصبر الصائم أن يتذوقني؟ هل يجب علي الاستمرار؟ ألا أريد أن أتذوقه أنا أيضا؟ كم أنا حائرة الآن بين المضي للنهاية وبين الهروب للنهاية! ربما سيسقط منه قناعه ويظهر عبد الله الذي أعرفه، أو ربما أريد خيانته معه، أو ربما أريد كل شيء، ابتسم عقلي؛ فلطالما سخرت من فضول النساء، وها هو الآن يتحكم بعقلي، ويسيطر عليه، فضول قد يكون مجرد ستار لرغبتي؛ فأفعلها بدافع الفضول، وليس الرغبة؛ فأعف نفسي من التصريح برغبتي، كامرأة عاشقة تحاول استخراج حبيبها من نفسه، كيف أخجل من رغبتي فيه؟ حسنا، ليس الفضول؛ فهو عبد الله، نعم ليس كما اعتدته، لكنه هو. •••
وقف عبد الله ليستأذن بالرحيل، لم أتوقع أن أفعل ما فعلت، أسقطت فستاني أمام باب الشقة ووقفت عارية وقلت له: «إن أردت الرحيل فعليك أن تتخطاني.» كدت أن أضحك مما أصابه من ذهول، أطبقت فمي ورسمت ابتسامة تخفي ضحكتي، وأنا أراه وبعقله تحوم كل شياطين الدهشة، تردد، أصابه الخوف، ثم اقترب إلي بحذر، مد يده، بدت لي مرتعشة ليلامس التقاء رقبتي بكتفي، يد باردة، لكن وقت ترددي قد مضى؛ فمضيت أنا الأخرى قائلة: «لا، لن أقتلك اليوم هنا.» وتحركت لغرفة جدتي وهو خلفي صامت متعثر الخطا، كان يتفحص جدران البيت كأنه يراها للمرة الأولى، لا أهتم كثيرا، سأصل لتلك اللحظة التي تتحرر فيها الروح ويستحيل الكذب؛ لحظة الحقيقة المطلقة، زفرة النشوة بأناتها، بارتعاشها، بقوتها، وبصفوها، سيخرج لي كل ما بداخله، وسأعرف سره.
لا أستطيع القول بأنه تقليدي؛ فلست ذات الخبرة الكافية لذلك، لكنه لم يكن عفويا، مهندما حتى في ملامستي، لا تتحسس يداه موضعهما بل يمدهما فقط حيث يريد ، وما من لمسة أخطأت مرماها، كنت أقاوم الذوبان بين يديه، كنت أقاتل سقوطي لأذيبه، كانت معركة الخضوع والإخضاع، صرنا سويا، ملحا ذائبا في عذب شره الشوق للفناء، كذرات الملح في البحر، بأي موجة كان الفناء؟ وبأي شط لامسنا الرمال، أجسادنا تحيل البرد شمسا، وأناتنا الخافتة تعزف لحنا غجريا، وأنفاسنا تعيد ضبط الإيقاع، كلما تمادينا في جملة موسيقية ... وعند ختام المعزوفة صرخت الآلات كلها بصيحة النصر، ثم هدأ كل شيء عدا أنفاسنا المتلاحقة، وضربات قلبينا، وانتهينا، لم يكن هو عبد الله الذي أعرفه، وفي الصباح لم يكن بفراشي، لم يكن ببهو البيت، لم يكن هنا، وجدت ورقة صغيرة فوق كومة الأوراق بخط يده، قائمة بالأوراق التي أخذها للقضية، احتفظت بالورقة، وفي خيالي كنت أراه يعزف في فرقة أخرى.
اللقاء الثاني
- هل تقابلتما ثانية؟ [سألها الدكتور مراد]. - مرة واحدة أخرى، هي أيضا قابلته. - حقا؟! وما حدث بينهما؟ - أعرف ما حدث لكن لا يمكنني وصف مشاعرها أو كيف ترى ما حدث، أظن الأفضل أن تسألها دكتور. - حسنا، سأفعل، أريد أن تحدثيني قليلا عن الدكتور إسماعيل. - ماذا تريد أن تسمع دكتور؟ - أي شيء تتذكرينه دكتور أمل، ما سر العزلة التي فرضها على زوجته وابنته؟ قابلته عدة مرات لم يكن قط من هذا النوع الذي وصفته لي، كان طبيبا لامعا متفتحا، تتلمذ على يديه العديد من الأطباء والطبيبات الممتازين، ولا أستطيع فهم سر التحول.
فهل لديك ما تساعدينني به؟ - لدي الكثير، لكنني لا أذكر الكثير أيضا، نعم كان طبيبا لامعا، لم يكن زوجا ولا أبا. - إذن فأنت تتعاطفين مع الزوجة والابنة. - لا، لا يستحقان التعاطف، لا يستحقان شيئا، لا يستحقان الزوج أو الأب. - تنفسي أمل، وتحدثي أكثر فقد أثرت حيرتي. - لا أريد التحدث الآن عن هذا الأمر. - حسنا، سنتحدث في مقابلة أخرى، [قالها مبتسما]. - هل لديك تعليق دكتور حول عبد الله؟ - حدثيني أولا عن اللقاء الثاني بينكما، ربما أتمكن من معرفة المزيد.
لم يكن طقس الحزن بل كان طقس الحيرة، كان اختفاء عبد الله المهندم في الصباح مثيرا للشعور بالإهانة، لم أستسلم لها كثيرا، وعدوت منها للريبة ثم التفهم، إن كان هو ويعرف أنه هو فلم يكن تصرفه غريبا، وإن كان هو لكن لا يعلم أنه هو فتصرفه أيضا مفهوم، عندما تأتي له إحدى موكلاته لتدعوه لبيتها في أول لقاء وتنتهي الدعوة بفراشها فلا عجب أن يتصرف هذا المهندم تصرفات الثري مع بائعة الهوى، ولم تكن مشكلتي في فهم تصرفه بقدر ما كانت في فهم مشاعري تجاه مجمل الأمر. •••
قبل أن أخلع ملابسي أمامه كنت قد حسمت أمري ورجحت كفة رغبتي في التجربة، وفي اليوم التالي، حين ارتديت ملابسي، أطلت النظر لتلك التجربة، هل كنت سأفعلها لو لم يكن عبد الله؟ هل كنت أترك رجلا غيره ليروي أرضا رواها، وخصبها عبد الله؟ أليس هو من أحيا هذا الجسد وأحال تصلبه ليونة لم أظنه يعرفها قبله، لكنه لم يكن عبد الله، لم تكن لمسته الغجرية، كان يتناولني بشوك وسكين، كان يرتبني بمائدته دون تعجل، كنت أحد طقوس استمتاعه بالنبيذ، مجرد وجبة استمتعت بشوكته وسكينه، بقدر ما استمتع بمضغها، لم يكن عبد الله، لم تكن أنفاسه الحارقة، بل كانت نسمات منظمة السرعة والحرارة؛ فلا أتعرق ولا تشعرني بالبرودة، لم يكن عبد الله، لكنني رضيت بمن كان، خانته نفسي ولم أخنه؛ فقد كنت بصحبته هو، وإن لم يكن هو. •••
Page inconnue