10
أخشى ما يخشاه المسافر أن يفقد إحساسه بغربته تماما. سيشعر وقتها أنه فقد ذاته. عندما كنت صغيرا كان الذين يسافرون للعمل في العراق يرسلون مشاعرهم مسجلة على شرائط كاسيت، لم يكونوا يقولون شيئا ذا بال، فقط «التحيات والسلامات على كل من عندكم.» لكن ثمة شيء لم يكن يقال؛ أنهم حريصون على هذا الطقس حتى لا يفقدوا ذواتهم. يعيدون الاستماع إلى الشرائط المرسلة إليهم، محاولين استخراج شيء منها يربطهم بما تركوه؛ ربما تهدج صوت، صياح ديكة في الخارج، ضحكة طفل، أغنية قديمة تدور في الخلفية. الذين ظلوا طويلا توقفوا عن هذا الطقس، ذابوا تماما مثل معتقل يلقيه سجانوه في حمض الكبريتيك المركز. الوجوه التي أراها لكثيرين جاوزوا الستين ما زال محفورا في ملامحها أنهم من بلاد بعيدة، بعضهم يحاول أن يحافظ عليها بزي شعبي، بلهجة تتعثر وتخشى السقوط، بحكايات قديمة يروونها لأي أحد، لكن البعض الآخر بهتت ملامحه فأصبح مجرد رقم مثل آلاف الأرقام غيره، مثل عود كبريت ينتظر فقط النار ليبدأ في الاشتعال.
11
يقول المسافر في الخارج بعد أن يكون قد نسي كل شيء عن بلاده واستغرق في حياة جديدة، وتقاليد جديدة: «أريد أن أدفن في بلادي.» رغم أن الأمر لم يعد يعنيه في شيء. أقصد: لا يعنيه ما سيحدث بعد الموت، لكن ثمة شيء في تراب بلاده، ينادي النطفة التي انطلقت منه، هناك سيكون أكثر راحة. هناك سيشعر أنه عاد إلى «علبته» التي خرج منها، واستطاع أن يعود ليرقد فيها. هل يمكن أن تفسر ذلك بأي شيء؟ هل ستقول لي إنه الحنين والنوستالجيا؟ قل ما شئت! فالغريب لا يهمه كل ذلك، لا يفكر فيه؛ فالوطن أصبح قابعا ما بين موت ينتظره وحياة فقدها ويريد أن يعوضها في ترابه، حتى ولو بعد موته.
12
تواصل الحافلة انطلاقها، تواصل الأغنية عديدها المكتوم. لا يجيب أحد عن سؤال مطروح، ولا دعوة للتواصل: «قول للغريب حضنك هنا، دربك قريب من دربنا ... حزن البشر ده حزننا.» تتماهى الملامح مع الرمال، مع البنايات، تذوي، تتلاشى، تغدو جزءا من جدار يريد أن ينقض ولا يجد من يقيمه. في الأفلام العربية، ستعود السيارة من حيث جاءت بحثا عن النهاية السعيدة المرضية. لكن من قال إن في هذه الحياة نهاية سعيدة؟!
أرواح مرت من هنا
أغمض عينيك، واترك نفسك للطريق تماما. دع الخيال يجمح، وادخل صورة من الصور القديمة التي تتصفحها في مجلتي «الاثنين والدنيا»، و«اللطائف المصورة». ترجل من السيارة، وامش إلى اليسار قليلا. لا زحام هنا، لا ذكريات؛ فقد تحولت إلى حقيقة، حتى المارة القليلون الذين يمرون حولك ليسوا إلا أروحا هائمة. هل هذه طفولتك؟ ذكرياتك؟ حلمك بأن تعيش في زمن آخر؟ رغبتك بأن تكون المدينة أجمل كما كانت في الصور البنية القديمة المهترئة الحواف؟ أهلا بك معنا. لقد وصلنا.
1
ما الذي يجذبنا إلى زيارة الشوارع القديمة؛ تلك التي تربينا فيها وصافحتها أقدامنا طويلا؟ ما سبب ذلك الحنين إلى البيوت القديمة التي «شخبطنا» على حوائطها بالطباشير والأقلام والألوان، ورسمنا على أسرتها ملائكة مجنحين؟ ما الذي نبحث عنه - حين نعود بعد غياب - في حيطانها؟
Page inconnue