مقدمة
عن الكتابة
كيف تصبح كاتبا فاشلا؟ ... سبع نصائح
سبعة أشياء يتعلمها الكاتب من الأطفال!
أسئلة الكتابة المرة
إخراج الأرنب من القبعة
أهمية أن نكتب يا ناس
دوائر الكتابة المغلقة المتوازية
هل غادر الشعراء من متردم؟
الشعراء من السماء ... الروائيون من الأرض
فنية الغناء في «الحمام»
أن تكون أسطورة
اقتل الرقيب
نصوص تمشي على الأرض
من قتل الشعراء؟
عزيزي القارئ ... من أنت؟
الصورة التقليدية للشاعر
لماذا يا روبن؟
كأننا روحان حللنا بدنا
عن السينما
من السينما إلى الواقع ... والعكس
ماذا يريد «كريستوفر نولان»؟
ما بعد الكارثة
هابرا كادابرا
قبل أن تأكل نفسك
أضواء المدينة المطفأة
كيف تقتل كاتبك المفضل برصاصة واحدة؟
ماتريكس أم ترومان شو؟
قتلة بالفطرة
كتابة
طوبى للغرباء
أرواح مرت من هنا
أحب الشتاء ... أكره الشتاء
أفكر في النهايات
وكلما أتعبتني قدمي قلت ها قد وصلت
ثماني نصائح للغريب حتى يعود
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
دقات قلبي تحطم زجاج العناية المركزة
فمي المعطل
بيوت بيضاء للموت
عبور الزمن
كتابي الأول
العودة إلى الماضي
في معنى الزمن الجميل
سؤال الزمن
زمن التدوين الجميل
ندوة «جبريل»
نهاية الذكريات
الخوف من التكنولوجيا
في انتظار الوباء القادم
عيون مفتوحة على اتساعها
عيون ناقصة
اصمت حتى أراك
رجل طيب يموت بسرعة
مقدمة
عن الكتابة
كيف تصبح كاتبا فاشلا؟ ... سبع نصائح
سبعة أشياء يتعلمها الكاتب من الأطفال!
أسئلة الكتابة المرة
إخراج الأرنب من القبعة
أهمية أن نكتب يا ناس
دوائر الكتابة المغلقة المتوازية
هل غادر الشعراء من متردم؟
الشعراء من السماء ... الروائيون من الأرض
فنية الغناء في «الحمام»
أن تكون أسطورة
اقتل الرقيب
نصوص تمشي على الأرض
من قتل الشعراء؟
عزيزي القارئ ... من أنت؟
الصورة التقليدية للشاعر
لماذا يا روبن؟
كأننا روحان حللنا بدنا
عن السينما
من السينما إلى الواقع ... والعكس
ماذا يريد «كريستوفر نولان»؟
ما بعد الكارثة
هابرا كادابرا
قبل أن تأكل نفسك
أضواء المدينة المطفأة
كيف تقتل كاتبك المفضل برصاصة واحدة؟
ماتريكس أم ترومان شو؟
قتلة بالفطرة
كتابة
طوبى للغرباء
أرواح مرت من هنا
أحب الشتاء ... أكره الشتاء
أفكر في النهايات
وكلما أتعبتني قدمي قلت ها قد وصلت
ثماني نصائح للغريب حتى يعود
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
دقات قلبي تحطم زجاج العناية المركزة
فمي المعطل
بيوت بيضاء للموت
عبور الزمن
كتابي الأول
العودة إلى الماضي
في معنى الزمن الجميل
سؤال الزمن
زمن التدوين الجميل
ندوة «جبريل»
نهاية الذكريات
الخوف من التكنولوجيا
في انتظار الوباء القادم
عيون مفتوحة على اتساعها
عيون ناقصة
اصمت حتى أراك
رجل طيب يموت بسرعة
الأرنب خارج القبعة
الأرنب خارج القبعة
تأليف
محمد أبو زيد
مقدمة
لم تحفظ ذاكرة الزمن سوى صورة واحدة للفنانة التشكيلية الفرنسية، سيرافين دو سينليس (1864-1942)، تقف بجوار إحدى لوحاتها، وقد رفعت رأسها إلى أعلى. حين طلبت منها المصورة وقتها أن تنظر تجاهها «لماذا تنظرين إلى الأعلى؟ انظري إلي، كي أستطيع أن أصورك بشكل جيد»، أصرت سيرافين على موقفها «أنا أنظر إلى الملائكة، أصدقائي، هم الذين يساعدونني دائما في الرسم ويمنحونني هذه الأشكال.»
ربما لم تقصد سيرافين «الملائكة»، ربما كانت تريد أن تتحدث عن الوحي، والإلهام، عن ذلك المكان الغامض الغريب الذي يأتي منه الفن، عن المس، عن السحر، عن لسعة النار الأولى التي تصيب المرء فيظل يشعر بها إلى الأبد، وتجعله يهرول إلى ريشته أو قلمه كلما باغتته. ربما كانت تقصد الدهشة، المظلة التي كانت تحميها من صهد الواقع.
حياة سيرافين، التي تحولت إلى فيلم عام 2008 من إخراج مارتان بروفوست وبطولة يولاند مورو، تبدو مدخلا جيدا للحديث عن الدهشة وعلاقتها بالجمال والفن وإعانتها على احتمال الحياة.
كانت سيرافين دو سينليس خادمة ريفية طيبة، ورثت مهنتها من والدتها، وعاشت حياتها محملة بإرث عائلي ثقيل، تعيش وحيدة، بلا أصدقاء، تتكلم باقتضاب حتى تظن أنها نسيت من أين تخرج الحروف، وهكذا ظلت حتى يومها الأخير. كان يمكن أن تمر مثل ملايين غيرها، يولدون ويموتون دون أن يشعر بوجودهم أحد، لكنه ذلك السحر الذي مسها يوما، فحولها إلى فنانة دخلت التاريخ دون قصد ودون أن تدرك ذلك .
لم تكن سيرافين تعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت معدمة تماما، لا تكفي النقود التي تحصلها من عملها كخادمة لسد رمقها، خاصة مع حالة الكساد الاقتصادي التي ضربت البلاد بسبب الحرب العالمية، لكنها رغم ذلك، كانت تشتري بهذه النقود القليلة مواد تحولها إلى ألوان ترسم بها لوحات مبهرة، وعندما لا تجد تعتمد على عطايا الطبيعة وأوراق الشجر في تجهيز ألوانها وموادها الخام التي لم يكتشف أحد سر سحرها الخاص ولا مكوناتها حتى الآن.
كان يمكن أن تموت سيرافين وهي تمارس هذا الفن دون أن يعرف أحد، ودون أن تعرف هي أن ما تفعله يساوي آلاف الدولارات، لم تكن تعرف أحدا من رسامي عصرها ولا العصور السابقة، لكنها كانت تؤمن بما تفعله، تؤمن بأن هذا السحر، هذه الدهشة، هي التي تجعلها تحتمل الحياة، وتصل الليل بالنهار لتكمل لوحات لا يراها أحد. لم يكن هناك دافع إلا الدخول إلى مناطق الدهشة والمتعة والجمال.
تعلمت سيرافين الرسم بنفسها؛ لأنه كان معينها الأول على احتمال الحياة، وكانت تعتبره حياتها، فكانت تفضل أن تشتري طلاء على أن تشتري خبزا. وعلى الرغم من أن أعمالها تصنف باعتبارها أقرب إلى «الفن الساذج»، فإنها في قيمتها توازي أعمال فان جوخ. لم يكن لديها مصادر للتعلم إلا الطبيعة؛ لذا في الفيلم الذي قدم عنها، نجدها عندما تجد شجرة تذهب لتحتضنها؛ فهي مصدر الدهشة والمتعة والجمال بالنسبة إليها.
لم تر لوحات سيرافين النور إلا بعد أن وصلت إلى الثامنة والأربعين، حين التقت بالصدفة بالرجل الذي اكتشف بيكاسو، مجمع اللوحات الشهير، الألماني ويلهايم أودي الذي استأجر شقة في منزل مخدومها، ورأى لوحاتها التي تعكس حالتها النفسية ما بين التوهج والنشوة، وقادها إلى الشهرة، لكنها انتهت إلى الجنون، وماتت فقيرة في مستشفى للأمراض العقلية، لكنه ليس الجنون، بل هي أسئلة الفن ومصير الفنان التي لم تستطع أن تجيب عنها، ربما كانت موهبتها أكبر من هذه الأسئلة، ربما فاجأها الفن بأسئلة أعظم فجعلها تقفز من سور الدهشة الذي يفصل بين العقل والجنون.
هذا ليس كتابا عن سيرافين، بل عن السبب الذي قادها إلى الفن والجنون، عن الدهشة والجمال، المرتبطين بالضرورة معا، أحدهما يقود إلى الآخر، أحدهما يسلمك من يدك إلى الآخر، ويمنح قلبك قبلة الحياة، ويساعده على النبض أسرع.
الدهشة، عدوة الاستعارات الميتة، قرينة كسر المألوف، ابنة الغرابة والفن، صديقة الأرنب الذي قفز من القبعة الفارغة. هل تذكر أول مرة شاهدت فيها هذا المشهد؟ بالنسبة إلي كنت صغيرا جدا أحدق في الشاشة، في محاولة للفهم والاستيعاب مع إحساس بالمتعة، يجعل الحياة متقدة كشعلة مضيئة في ظلام اليوم العادي المميت.
هذا كتاب عن السحر، في شتى صوره، التي تبدأ من وقوف الساحر ذي القبعة الطويلة، يمسك القبعة بيد، وأذني الأرنب في يد أخرى؛ إلى سحر الإمساك بالقلم وتشكيل عالم جديد؛ لذا فهذا كتاب عن فن الكتابة، إلى سحر خلق عالم مدهش تتأمله بعينين مفتوحتين في صالة مظلمة؛ لذا فهذا كتاب عن السينما، عن المشهد الذي رأيته صغيرا فظل عالقا حتى الآن؛ لذا فهو كتاب عن الماضي والحاضر. ولأنني ما زلت حيا بدهشة تجري في عروقي بدلا من الدم، فهو كتاب عن المستقبل.
هذا كتاب عن الدهشة وضد علامات التعجب، أكن عداوة لعلامة التعجب عندما تكون في نهاية الكلام، لا أحتاج إلى من يرفع حاجبي نيابة عني، لا أريد من يضع يدي على موضع الدهشة، ويقول لي: تعجب، لا أريده سوى أن يتركني هكذا، هائما في صحراء الكلام، فربما أتعثر في دهشة، تطيل الحياة يوما آخر، أو تمنح لها معنى.
في البدء كانت الدهشة، ثم جاء بعدها كل شيء.
عن الكتابة
كيف تصبح كاتبا فاشلا؟ ... سبع نصائح
كل الكتاب سيقولون لك كلاما آخر، سيقدمون لك عشرات النصائح التي تبدأ ب «كيف تصبح كاتبا جيدا»، سيخطون لك الطرق التي تجعلك - إذا سرت عليها - كاتبا مرموقا. لكني سأقول لك العكس: ما الذي إذا فعلته فلن تصبح كاتبا ناجحا؟ ما الذي إذا حافظت عليه فستصير كاتبا فاشلا؟ سأقول لك. (1) اكتف بالموهبة
إذا أردت أن تصبح كاتبا فاشلا - ولديك الموهبة - فلا تفعل شيئا آخر، اكتف بالجلوس على المقاهي وتصفح فيس بوك وقل للقاصي والداني: «أنا موهوب.» املأ الدنيا صراخا بأنك أكثر أبناء جيلك موهبة؛ لأنك بعد سنوات ستملؤها صراخا بأنك قد ظلمت ولم يلتفت أحد لموهبتك، دون أن تضيف أنك لم تفعل شيئا لهذه الموهبة أو تصقلها بالقراءة أو الاهتمام أو التطوير. يمكنك أن تقول إن الموهبة كانت عصفورا صغيرا جاءك هدية وأنت صغير، كبرت أنت في العمر، لكنك أهملت العصفور، فلم تطعمه، ولم تسقه، ولم تحضر له بيتا أكبر، حتى ضاق عليه القفص فقتله، أو حطم أضلاعه على أقل تقدير. (2) لا تكتب
الكاتب الجيد يتدرب بشكل دائم على الكتابة. ظل نجيب محفوظ يكتب بشكل يومي؛ حتى تحول الأمر إلى طقس صباحي بالنسبة إليه. كان محمود درويش يفعل الأمر نفسه. معظم الكتاب الناجحين يفعلون ذلك؛ لأنهم يدركون أن اليد التي تكتب مثل الآلة التي تحتاج إلى «تزييت» دائم، فإذا أهملتها صدئت تروسها. لكنك لا تريد أن تصبح مثلهم. هل تذكر زملاءك الذين كانوا يكتبون معك أيام الجامعة، ثم ضاعوا وتوقفوا عن الكتابة، بل ضاعوا لأنهم توقفوا عن الكتابة؟ حسنا، يمكنك أن تكتب نصا واحدا وتكتفي بذلك، أو لا تكتب إطلاقا، لكن تأكد أن الكتابة ليست ملكا لأحد، بل ملك لمن يتدرب عليها بشكل دائم. (3) لا تقرأ
يقول الكاتب الألماني فرانز كافكا: «أعتقد أنه يجب علينا قراءة الكتب التي تدمينا، بل وتغرس خناجرها فينا. نحن بحاجة إلى الكتب التي لها وقع الكارثة، الكتب التي تحزننا بعمق مثل وفاة شخص نحبه أكثر من أنفسنا، مثل أن ننفى بعيدا في غابة بمنأى عن الآخرين، وكأنه الانتحار. يجب أن يكون الكتاب هو الفأس الذي يكسر جمودنا.» أنت تختلف عن كافكا، فأنت لست بحاجة إلى قراءة تراث الإنسانية من الإبداع، ولا قراءة مجايليك ولا الأجيال التي سبقتك. لكنك ستكتشف بعد فترة أنك - يا صاحب الموهبة - قد أصبحت في آخر الركب، أن الكتابة قد سبقتك، أن الكتابة تتطور وتعلو مثل جدار يضع فيه كل شخص لبنة بعد أن يطلع على اللبنات السابقة، بينما أنت ما زلت في الأسفل، لا تصل قامتك إلى ما وصل إليه البناء، تحمل في يدك كتابا مغلقا يأبى أن يفتح في وجهك. (4) صدق نفسك
لا بد أن هذا المشهد قد مر عليك: شخص يسألك عن الشهر العقاري لأنه يريد أن يسجل قصائده خوفا عليها من السرقة. قبل أن تقرأ ما كتب تأكد أنه يصدق أنه أمير شعراء عصره، وأن الآخرين يتربصون به ويريدون سرقة «روائعه» التي بعد الاطلاع عليها ستجدها تفتقد إلى أبجديات الكتابة. الكاتب الجيد لا يملك اليقين الذي يملكه هؤلاء الذين يصدقون أنفسهم ويعتقدون أنهم رائعون. الكاتب الجيد حتى لو صار كاتبا شهيرا وطبعت له عشرات الكتب يظل في حالة شك دائم فيما يكتب، يعيد كتابة ما كتب عشرات المرات، لا يصدق أن نصه جيد، حتى لو قال له الآلاف ذلك. الشك هو نعمة الكتابة الجيدة. اليقين هو نقمة الكاتب الفاشل. (5) التزم بالقواعد أو «كن عاقلا»
الكاتب العادي هو الذي يكتب مثل الآخرين، الذي يلتزم بالقواعد، الذي لا يخرج من باب البيت، فيظل محبوسا في نصوص الآخرين، ينظر في المرآة فلا يرى وجهه، بل يرى وجوه من سبقوه. لكن الكتابة الحقة هي تجاوز المعتاد، هي الجنون بعينه، هي تكسير القواعد. كل نص هو جنون جديد أو محاولة للجنون على أقل تقدير. أن تكون مجنونا في كتابتك يعني أنك كاتب جيد. يقول جابرييل جارثيا ماركيز إن «كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة، والمهم بالنسبة إلى الكاتب هو اكتشاف تلك التقنية.» ويقول كونديرا: «لا توجد حيلة في الرواية قد اتهمت بالمريبة والسخيفة والنمطية كما اتهمت الحبكة وهزليتها المبالغ فيها. تظل - مع ذلك - طريقة أخرى لدحض تهمة «المريبة» عن الحبكة واستغلالها بأقصى درجة ممكنة، وذلك بتحريرها من مطلب الاحتمالية: أن تحكي قصة مفاجئة اختارت هي أن تكون مفاجئة.» لكن إذا كان هذا هو رأي كونديرا وماركيز، فلا شك أن لك رأيا آخر. (6) لا تحذف شيئا
أنت تريد أن تصبح كاتبا فاشلا، إذن لا تغير شيئا في النص، ولا تكتبه مرة أخرى. الكاتب الجيد يفكر دائما في التنقيح والحذف، والكاتب الأكثر جودة يفكر في الإضافة بالحذف؛ ما الذي إذا حذفه يضيف بعدا جديدا لما يكتب. يقول ماركيز أيضا إن «الكاتب الجيد لا يعرف بما ينشره بقدر ما يعرف بما يلقيه في سلة المهملات.» الكاتب الجيد هو الذي يهتم بالاستبعاد، لكن الكاتب الذي يعتبر نفسه كاتبا عظيما يرى أن ما يكتبه مقدس، لا تطوله يد الحذف ولا التنقيح، وهذا ينتج عنه نص طويل مترهل، يضر بالعمل كله، وليس بمقطع أو اثنين. الكاتب الجيد هو الذي يعيد كتابة نصه مرة واثنتين وعشرا، وفي كل مرة يحذف ويضيف ويحذف، حتى يصل إلى نسخة مثل المياه المقطرة الخالية من أي شوائب. الحذف بحسب كونديرا يجعلك تصل مباشرة إلى قلب الأشياء. (7) الكتابة تحتاج إليك
الآن، بعد أن التزمت بكل الخطوات السابقة، توقفت عن القراءة والكتابة، وصدقت نفسك، واكتفيت بكونك موهوبا، والتزمت بالقواعد، لم يتبق سوى أن تؤمن بأن الكتابة تحتاج إليك حتى تكتمل مأساتك. الكاتب الحقيقي هو الذي يحتاج إلى الكتابة، هو الذي يجد فيها ترياقا للحياة. يقول أمل دنقل: «الكتابة عندي بديل للانتحار.» وتحكي إيزابيل الليندي: «عندما كنت أكتب كتابي الأخير «الجزيرة تحت البحر»، مرضت إلى حد فظيع حتى ظننت بأنني مصابة بسرطان في المعدة. واصلت التقيؤ، ولم أقدر على الاستلقاء، وكان علي أن أنام جالسة. قال لي زوجي: إنه جسدك يتفاعل مع القصة، عندما تنهين الكتاب ستكونين بخير. وهذا ما حدث بالضبط.» الكتابة إذن بحسب إيزابيل هي استعباد: «إنني أحمل القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات.» لكنه الاستعباد الأجمل.
الآن، هل التزمت بهذه التعليمات؟ حسنا، مبارك، لقد أصبحت كاتبا فاشلا.
سبعة أشياء يتعلمها الكاتب من الأطفال!
الكتابة لعبة، لكنها تتم بمنتهى الجدية، شرطها الأساسي أن يصدقها طرفاها؛ القارئ والكاتب، يلتزمان بقواعدها، يمارسانها بحب. ولأنها لعبة، فيمكننا أن نقارنها بأية لعبة أخرى، وبملوك اللعب العظام أيضا؛ الأطفال. (1) الخيال
راقب طفلا يلعب، وشاهد ماذا يفعل؛ ستجد الأوراق تتحول إلى نقود، والوسادات طائرات مجنحة، وأطباق الطعام تتكلم، والأقلام تتصارع. بالخيال يستطيع الكاتب أيضا أن يخلق عالما مثل ذلك الذي خلقه الطفل؛ سمه واقعية سحرية، أو ما بعد حداثة، أو أيا كان الاسم الذي ستختاره؛ فعلى الكاتب أن يتعلم الخيال من الطفل أولا. يقول هاروكي موراكامي: «تخاف من الخيال؟ وتخاف أكثر من الأحلام؟ من المسئولية التي تبدأ في الأحلام؟ لا بد لك من أن تنام، والأحلام جزء من النوم. يمكنك وأنت مستيقظ أن تقمع الخيال، أما الأحلام فلا يمكنك قمعها.» الكتابة إذن استكمال للحلم الذي لا يقيده الواقع. (2) تغيير قواعد اللعبة
لا يلتزم الأطفال بقواعد أية لعبة؛ هم في سعي دائم لكسرها، لخلق قواعد مختلقة تخلق بدورها ألعابا جديدة. في كرة القدم مثلا ثمة طفل اكتشف أننا إذا غيرنا عدد اللاعبين إلى خمسة فستصير كرة خماسية، وإذا لعبناها باليد فستصير كرة يد، وإذا ألقيناها في السلة فستصبح كرة سلة، وهكذا ... في كل تغيير لعبة جديدة. الأطفال يصنعون الألعاب الجديدة، والحكام/النقاد يضعون القواعد التي يجب على الأطفال/الكتاب كسرها على التوالي؛ فالكاتب الذي يظل طوال الوقت يحتفظ بالشكل التقليدي وبالقواعد المعتادة للنص (بداية - وسط - نقطة تنوير) لن يقدم شيئا مختلفا، سيظل أسيرا لهذه القواعد، في حين أنه لو أعاد فقط ترتيب بعض أدواته لوجد أنه يقدم شيئا مختلفا. في الشعر تم تغيير قواعد اللعبة باستبعاد القافية، فاكتشفنا قصيدة التفعيلة، ثم تم تغيير القواعد مرة أخرى باستبعاد الوزن، فاكتشفنا قصيدة النثر. يعلق بورخيس على مجموعته القصصية «تاريخ عالمي للخزي» التي تحكي سير أشخاص حقيقيين أعاد تشكيل حيواتهم، بقوله: «إنها ألعاب غير مسئولة لشاب خجول لم يجرؤ على كتابة قصص؛ ولذا راح يسلي نفسه بتزييف وتشويه حكايات الآخرين دون أي مبرر جمالي.» (3) لماذا يلعب الأطفال؟
أعتقد أن إجابة هذا السؤال مشابهة لإجابة سؤال «لماذا تكتب؟» عند الكثيرين. الطفل يلعب لأنه يشعر بالمتعة في ذلك، وأعتقد أن على الكاتب أن يفعل ذلك؛ فإذا لم يكن يشعر بمتعة عندما يكتب، فلماذا يفعل ذلك؟ المتعة هي شرط اللعب الأول؛ أي لعب. وهذه المتعة تنطبق على طرفي اللعبة؛ القارئ والكاتب. في مقدمة مجموعته القصصية «12 حكاية عجيبة» التي كتبها في أبريل 1992، يعترف «ماركيز» بأن: «متعة الكتابة أعظم المتع حميمية ووحدة على الإطلاق.» ويكتب أيضا في المقدمة نفسها: «أحس بأنني أكتب لمتعة القص وحدها، والتي ربما كانت أشبه بانعدام الوزن». ويقول نجيب محفوظ: «أكتب للمتعة، ولكي أرضي قوة غامضة بداخلي.» (4) الحماس
إذا لم يتحمس الطفل للعبة فلن يهتم بها. إذا لم يتحمس الجمهور لأية مباراة فلن يتابعها. الحماس هو شرط اللعب الأساسي. توقف ماركيز عن الكتابة في عام 2005 ولمدة عامين، واعترف بأن مشكلته كانت فقدانه الحماس، واعتبر أيامه التي مضت دون كتابة «إجازة من الكتابة». والأمر نفسه ينطبق على نجيب محفوظ عندما توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو 1952 لسنوات؛ لأنه لم يجد دافعا للكتابة. (5) التواطؤ
أحيانا يجب على أحد طرفي اللعبة التواطؤ مع الطرف الآخر لاكتشاف مسارات جديدة لها. وهو ما ينطبق على الكتابة أيضا؛ فعلى القارئ في بعض الأحيان أن يغض الطرف عند القراءة عن أمر غير اعتيادي، أن يتواطأ مع الكاتب في لعبته حتى يصل إلى النهاية المختلفة التي يخطط لها؛ لأنه لو توقف وتساءل: «لماذا؟»، أو قال: «هذا غير مبرر» أو «غير منطقي»؛ لفسدت اللعبة كلها. التواطؤ يعني أن تدخل اللعبة بجسدك وروحك، أن تصبح شريكا فيها، أن تعلن الاستسلام أمام قواعدها الجديدة. (6) صندوق المفاجآت
أكثر ما يسعد الطفل هو صندوق الهدايا الذي يخبئ داخله ما لا يعرفه ويتشوق إلى معرفته. يحب الأطفال العلب المغلقة حتى يستكشفوا ما تخفيه داخلها. الكتابة هي صندوق المفاجآت، إذا عرفت ما بداخله فسدت المفاجأة، إذا عرفت ما الذي سيقوله الكاتب في الصفحة التالية فلن تقرأ بقية الكتاب، إذا توقعت النهاية فلن تكمل النص. على الكاتب أن يحول كتابه إلى صندوق مفاجآت إذن - حتى لو كان نصا اعتياديا - بابتكارات على مستوى اللغة والسرد والصورة. أتذكر هنا الجملة الأولى في فيلم «فورست جامب» لتوم هانكس: «تقول أمي دائما إن الحياة كعلبة من الشوكولاتة، أنت لا تعرف أي واحدة تأخذ.» (7) لا تبحث عن هدف كبير
لا يقول طفل: «أريد أن ألعب من أجل كذا وكذا»، لا يبحث عن مبرر لحبه للعبة دون الأخرى، لا يبحث في جماليات لعبة «الاستغماية». وأعتقد أن على الكاتب أن يفعل ذلك. كل الروايات التي تضع لنفسها هدفا كبيرا، أو التي كتبت لخدمة قضية سياسية، مصيرها النسيان. أجمل ما في الكتابة هو أن تترك نفسك لها، لا أن تقودها. إذا فعلت، فأنت هنا تعود للفكرة الأولى التي تحدثنا عنها؛ وهي وضع قواعد للعبة التي همها الأساسي كسر القواعد. يقول فرناندو بيسوا: «لقد حلمت بأكثر مما حلم به «نابليون» نفسه، ضممت إلى صدري المفترض إنسانيات أكثر مما ضم المسيح، شيدت في السر فلسفات أكثر من كل ما كتب أي «كانط»، لكنني كنت وسأكون دائما مجرد ساكن غرفة في سطح.» حسنا، افعل هذا؛ اكتب دائما كمجرد ساكن غرفة في سطح.
أسئلة الكتابة المرة
في حوار نشرته إحدى الصحف الإسبانية أخيرا مع المخرج وكاتب السيناريو الأمريكي «وودي آلان»، أجاب منفعلا عن أحد الأسئلة:
نحن نعيش في عالم بلا معنى، بلا هدف. نحن وكل الأسئلة المهمة سنموت. بالنسبة إلي، لم أهتم قط بمن هو رئيس الولايات المتحدة، هذه الأشياء تروح وتأتي. الأسئلة الكبيرة تبقى معنا وليس لها جواب. لماذا نحن هنا؟ ماذا نفعل هنا؟ من أين يأتي كل ذلك؟ ما أهمية الشيخوخة؟ لماذا نموت؟ ماذا تعني الحياة؟ وإن لم يكن لها معنى، فما فائدتها؟ هذه هي الأسئلة التي تصيبنا بالجنون، ولا جواب لها.
كان آلان غاضبا؛ لأنه رغم أعوامه الثمانين، لم يعرف إجابة هذه الأسئلة؛ لأنه رغم الإجابات التي حاول أن يقدمها في أفلامه، والسيناريوهات المتعددة التي كتبها، لم يقدم الإجابة الصحيحة، أو لم يستطع حتى التوصل إلى هذه الإجابة المفترضة.
حسنا؛ أنا أيضا غاضب مثل آلان. لم أبلغ عمره، ولم أقدم ما قدم، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الغضب؛ لأنني لم أقدم إجابة لأي سؤال بحثت عنه. أعتقد أن هذا أيضا هو حال كل من قرر أن يختار الكتابة طريقا له، أن يجد إجابة لأسئلة نمت في نفسه صغيرا، فلم يجد طريقة للإجابة عنها سوى أن يكتب، لكنه رغم ذلك يفشل في الوصول إلى تلك الإجابة «النموذجية»؛ ربما لأنه لو توصل إليها فسيتوقف عن الكتابة، ربما لأن هذه الإجابة هي سر الكون، سر الوجود الإنساني ذاته.
مشكلة الأسئلة الكبيرة أنها ستظل كبيرة، تتنقل مع القصيدة من كونها قصيدة عامة، قصيدة كونية، إلى القصيدة المغرقة في الذاتية. الأسئلة الكبيرة نفسها، الموت الذي يطارد ملايين اللاجئين في قصيدة سياسية هو نفسه الموت الذي يطارد شابا منغلقا على ذاته في حجرة في حي فقير. الأمر لا يتعلق برفاهية الإجابة عن السؤال، بل بالقدرة عليه؛ فلا رفاهية هنا في البحث عن إجابة، بل هو قدر محتم، محتم تماما كأنه الموت، كأنه الأسئلة الكبيرة التي بلا جواب.
يقولون إن مهمة الفن هي طرح الأسئلة. لكن «الفنان» رغم ذلك يظل يتعذب بتلك الأسئلة التي لا يعرف الإجابة عنها، من كتاب إلى آخر، ينقلها إلى القارئ، كأنه يلقي هما بعيدا عنه في وجه من يحملقون في وجهه، وهذا جزء من دور الفن الذي لخصه قول الشاعر الأمريكي روبرت فروست: «إذا لم يذرف الكاتب الدموع فلن يذرفها القارئ، وإذا لم يتفاجأ الكاتب فإن القارئ لن يتفاجأ.» بل ربما كانت هذه الأسئلة هي التي تمنح «الفن» قيمته.
السؤال الأكبر - وربما الأخير - هو «جدوى الفن». وعلى الرغم من قدم السؤال، فإنه يبدو الآن ملحا بشدة في ظل تغيرات سياسية واجتماعية شديدة الدراماتيكية، فماذا يفعل الشعر للأطفال في الحرب؟ كيف ستعوض الرواية الأرامل والسبايا في مناطق الصراع؟ ماذا ستقدم السينما للفقراء النائمين على الرصيف؟ وإذا رأيت أن هذه الأسئلة تبدو شديدة التشاؤم أو السطحية أو الجدلية، فإن أندريه تاركوفسكي يجيبك في كتابه «النحت في الزمن» بأنه قبل الذهاب إلى المعضلات الخاصة بطبيعة الفن: «من المهم تحديد فهم الهدف الجوهري للفن في حد ذاته. لماذا يوجد الفن؟ من يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب، بل أيضا أي فرد يقدر الفن ويدرك قيمته، وحتى المستهلك، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن وجمهوره.» ويستدل تاركوفسكي على هذا بقول الشاعر ألكسندر بلوك: «الشاعر يخلق التناغم من حالة الفوضى.» وبأن «بوشكين» آمن بأن الشاعر موهوب بالنبوءة، لكنه يرى في النهاية أن كل فنان محكوم بقوانينه الخاصة، وهذه القوانين ليست إلزامية أبدا لأي شخص آخر؛ لأن «غاية الفنون كافة هي أن تفسر للفنان نفسه، ولأولئك المحيطين به، معنى وجوده وما يعيش الإنسان لأجله ودفاعا عنه، أن تفسر للناس سبب ظهورهم على هذا الكوكب، وإذا كان التفسير أمرا غير وارد، فعلى الأقل أن تطرح الأسئلة.»
هذه الإجابة التي يقدمها تاركوفسكي يمكن أن نضعها إلى جانب عشرات الإجابات التي حاولت - عبر تاريخ الكتابة - أن تقدم إجابة لسؤال الفن، ولجدواه، التي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن «الأسئلة الكبرى التي بلا إجابة، بل يمكن اعتبار أن هذا هو السؤال الأخير الذي سيسأله الكاتب لنفسه قبل أن يضع القلم ويفارق الحياة، إن لم يكن - بطبيعة الحال - هو السؤال الذي يطارده قبل كل نص يكتبه.
هل الفن بهذه الطريقة نقيض المعرفة؟ الفن يبحث عن المعرفة، ليس بمعناها العلمي بطبيعة الحال؛ فمن يعرف كل شيء، من يملك كل الإجابات، لا يحتاج أن يكون شاعرا أو روائيا أو فنانا، لكن مع الفن تضحي المعرفة أيضا عذابا جديدا؛ لأنها تولد أسئلة أخرى، أكثر عذابا.» «شيمبوريسكا» في محاضرتها التي ألقتها في 7 / 12 / 1996 في استوكهولم، بمناسبة تسلمها جائزة نوبل في الأدب للعام 1996، قالت شيئا كهذا:
كل معرفة لا تنشئ بنفسها أسئلة جديدة، ستصير ميتة في وقت سريع، تفقد الحرارة المناسبة للحياة. في الحالات الأكثر تطرفا، المعروفة جيدا من التاريخ القديم والمعاصر، تستطيع هي أن تكون خطيرة للمجتمعات بشكل مميت؛ لذلك أعتز كثيرا بكلمتين صغيرتين هما: «لا أعرف». صغيرتان، لكنهما مجنحتان بقوة، توسعان لنا الحياة بمساحات تكمن فينا، وبمساحات معلقة فيها أرضنا الدقيقة. الشاعر كذلك، إذا كان شاعرا حقيقيا، يجب أن يكرر على نفسه باستمرار: «لا أعرف»، ويحاول أن يجيب عن ذلك بكل عمل من أعماله، لكنه حالما يضع نقطة تعتريه حيرة، ثم يبدأ بإدراك أن هذه الإجابة هي إجابة مؤقتة، غير كافية إطلاقا؛ لذلك يحاول مرة أخرى، وأخرى، وبعدها يربط مؤرخو الأدب هذه الأدلة المتوالية على عدم رضاه عن نفسه بمشبك كبير ويسمونها نتاجا أدبيا. «هاروكي موراكامي» روائي ناجح، ويعرف أنه ناجح، وأنه يبيع ملايين النسخ، وأن لديه آلاف المعجبين الذين يطاردونه في حفلات التوقيع؛ لدرجة أنك من الممكن أن تصفه - بصفاء نية - بالكاتب الشعبوي، لديه نظام معين في الكتابة، يكتب كل يوم بانتظام، لكن ذلك لم يمنعه من طرح الأسئلة.
يقول في حوار معه:
أحيانا أتساءل لماذا أنا روائي هنا والآن؟ لا توجد أي خطة عمل جعلت مني روائيا. شيء ما حصل فأصبحت كاتبا، وكاتبا ناجحا منذ الآن فصاعدا. فحينما أحل في الولايات المتحدة أو أوروبا، فالعديد من الناس يعرفون من أكون. إن ذلك يعتبر غاية في الغرابة. منذ سنوات خلت، ذهبت إلى برشلونة وأقمت حفل توقيع؛ ألف شخص قدموا، وكانت الفتيات يقبلنني. فوجئت كثيرا. ما الذي حدث لي؟
إذا كنت كاتبا مثلي، فأنت تعرف الآن أن الفشل في الإجابة عن سؤال، سواء أكان كبيرا أم صغيرا، عاما أم خاصا، هو الذي يدفع دوما لكتابة جديدة؛ كأنها متاهة استيقظت ووجدت نفسك فيها، ووجب عليك الخروج منها. كل سؤال جديد متاهة جديدة، تطل على الأسئلة/المتاهات الأخرى التي لا تنتهي. مع بداية كل نص تفرح كطفل أمسك أول الخيط، ومع نهاية النص يختفي الخيط تماما.
مع كل مرحلة عمرية يباغتك سؤال جديد، فيحاصره فشل الإجابة، تهرب منه بمحاولة الإجابة عن سؤال آخر، وهكذا دواليك، لا تعرف حتى متى ستستمر هذه الرحلة التي لا تنتهي!
مع التقدم بالعمر تتضاءل الأسئلة؛ أقصد يتضاءل اهتمامها، تتحول الرغبة في تغيير العالم إلى رغبة ملحة في تغيير الذات التي فشلت في نقل قدم العالم قيد أنملة من مكانها .
بالنسبة إلي، أدرك الآن جيدا أنني لن أجيب عن أي سؤال بحثت عن إجابته، لكن ربما علي أن أشكر تلك «الأسئلة المرة» التي جعلتني أواصل الكتابة، وأبقتني على قيد الحياة.
إخراج الأرنب من القبعة
كصاعقة تضرب رأسك بينما تسير في صحراء، كاكتشاف النار، كلقاء حبيب غائب، كتجربة أولى في معمل العلوم لطلاب صغار، كإخراج الأرنب من القبعة، كسراب يصير ماء، كمراقبة لاعب سيرك يسير على حبل ممتد في الفضاء، كخبر عن ظهور التنين، كمصباح يضيء في نهاية النفق المظلم؛ هكذا هي اللحظة المدهشة أثناء الانغماس في القراءة والكتابة، تضرب القارئ والكاتب معا، يبتسم القارئ وتتسع عيناه ويلتهم ما تبقى من الكتاب، وتنفرج أسارير الكاتب ويغمس قلمه أكثر في الحبر، ويواصل اختراع الدهشة.
لا كتابة حقيقية من دون إدهاش، ولا إدهاش من دون إمتاع. في القصة أو الشعر أو المسرح أو السينما، إنها تلك اللحظة التي تورق فيها الوردة، فتغوص في مقعدك وأنت تحدق أكثر في الشاشة أو الكتاب. الإدهاش هو قدرة الإنسان على الخلق، على الإبداع، على رسم حياة موازية كفيلة بالمتعة. إنها فتح الباب التاسع والتسعين - المغلق دوما في القصص التراثية - والارتماء في العالم الذي يتشكل. ما يفعله الإبداع المدهش هو ما وصفه «نيكانور بارا» في قصيدته «الأفعوانية»:
على مدى نصف قرن
كان الشعر
جنة أشد الناس حمقا
حتى أتيت
وبنيت أفعوانيتي.
اصعد إن أحببت.
طبعا أنا لست مسئولا إن أنت نزلت
وفمك وأنفك ينزفان دما!
في «كافكا على الشاطئ» ل «هاروكي موراكامي»، كان الرجل يكلم القطط ويخاطب الحجارة، وكانت السماء تمطر أسماكا، وكان رجل آخر يجمع الأرواح كي يصنع بها نايا. وفي روايات ماركيز تطير النساء، وحين تضع الفتاة يدها على النافذة فتصبح خضراء ندرك أنها وقعت في الحب. وفي ألف ليلة وليلة تتنقل ما بين البساط السحري وطيور الرخ العملاقة وسياف مجنون يطارد بقية الحكاية. الدهشة إذن هي تمرد على الواقع، ليس بالضرورة أن تنتمي للواقعية السحرية، أو الفانتازيا أو السريالية، أو الخيال العلمي. الدهشة تأتي أيضا من التفاصيل البسيطة، النظرة المغايرة للأشياء التي نراها يوميا دون أن ننتبه، وهذا هو الفن.
يقول «تشارلز سيميك»:
في الستينيات عندما كنت أصنف على أني سريالي، بعد ما يزيد على أربعين عاما من الحركة، السريالية بنفسها بدت سخيفة. كان دائما يبدو لي أن هناك طريقتين للنظر إلى العالم: واحدة بعيون مفتوحة، حيث بالطبع هناك الكثير من الأشياء الممتعة للنظر؛ بينما الطريقة الأخرى بعيون مغلقة، حيث أحيانا تستطيع أن ترى الأشياء بطريقة أفضل. في كتابتي، أبدا لم أوضح للقارئ: «حسنا، الآن أنا سوف أغلق عيني.» بدلا من ذلك أنا أعود للخلف متناوبا بين الطريقتين كما يعجبني. بالطبع أنا أتقبل الواقع. نعم، لكني رأيت الكثير من الواقع في حياتي ليس بسبب ذلك، لكن من دون خيال لا يستطيع المرء أن يصنع شيئا ذا قيمة مما رآه.
هذا يعني أن «الإدهاش» يمكن أن تقتنصه من رجل مار، من ظل ملقى على الأرض، من وجبة طعام اعتيادية تتناولها كل يوم على ذات الطاولة؛ لذا يمكن اعتبار الإدهاش أيضا ثورة على الحياة الاعتيادية، تمردا على الواقع اليومي، تغيير الاعتيادي إلى غريب ننظر تجاهه نظرة أخرى، الفن بإدهاشه إذن يغير نظرتك إلى العالم.
وفي الكلمة التي ألقاها الروائي البيروفي «ماريو فارغاس يوسا» بمناسبة حصوله على جائزة نوبل أشار إلى هذا المعنى، بقوله إن «الأدب هو تمثيل مخادع للحياة، ومع ذلك يساعدنا بشكل أفضل على فهمها، على قيادتنا في المتاهة التي ولدنا فيها، التي نجتازها والتي نموت فيها. إنه يعوضنا عن الخيبات والكبت اللذين تصفعنا بهما الحياة الحقيقية؛ إذ بفضله نستطيع أن نفك - ولو جزئيا - شفرة هذه الهيروغليفية التي يشكلها الوجود بالنسبة إلى غالبية الكائنات البشرية، وبخاصة بالنسبة إلينا نحن المسكونين بالشك أكثر من اليقين.» «دهشة الفن» دافع أساسي للقارئ لكي يكمل قراءة النص، وللكاتب لكي يكتشف عوالم أخرى تعينه على الحياة، لكن لا يكفي أن يكون الإدهاش وحده هو سلاح الكاتب، ف «النكتة» التي يرويها عجوز على مقهى في شارع جانبي من مدينة منسية، مدهشة بشكل ما، فالمفارقة في نهايتها تدفع الجالسين لرفع حواجبهم عاليا ثم الانفجار ضحكا؛ لذا لا يكتفي الكاتب بالحكاية المدهشة التي تنتزع الضحكات أو الشجن أو تثير الحزن؛ فهناك اللغة المستخدمة، والسياق الجمالي للنص، هناك المغايرة التي تسير بموازاة الحياة، هناك معنى الفن وجماليته وعنفوانه وتأثيره.
تطور «الإدهاش» مع تطور الكتابة، بداية من الإدهاش اللغوي بالمجاز والجناس في الشعر العربي القديم؛ وهو منتشر بشدة في الفنون الشعبية: «الموال»، و«فن الواو»، و«السير الشعبية»، مرورا بالمفارقة ونقطة الإضاءة، وصولا إلى الإدهاش بشكله الحالي الذي لا يتطلب من الكاتب أن يقدم ما هو غريب بقدر ما هو متماس مع روح القارئ وشعرية التفاصيل البسيطة، وهو في كل هذا يفسر لنا أحد أسباب رغبتنا الدائمة في العودة إلى نفس الكتب التي قرأناها من قبل لنقرأها مرة أخرى.
البعض يرى أن الإبداع ليس إدهاش المتلقي وإنما هو عفوية الكلمة، وهذا صحيح إلى حد كبير؛ لأن الفن يجب أن يجمع بين الإدهاش والبساطة والعمق، وأن يتم بحرفية وبذكاء في نفس الوقت، كما في لوحات سلفادور دالي مثلا. وهذا يجعلنا نفرق بين «الإدهاش» و«الإمتاع»؛ فالإدهاش - في ظني - متعلق بالفن أكثر، وإن كان الإمتاع ربما يجده البعض في أعمال فنية قليلة القيمة (البعض يستمتع بمشاهدة المسرح التجاري)، لكن الإدهاش هو جزء أساسي في جوهر الفن الحقيقي، حتى لو كان يقدم الواقع، مثلما فعل نجيب محفوظ في رواياته الواقعية، لكن ما يدهش حقا هو بناء هذا العالم المركب، والعلاقات المتشابكة، وبث الروح في شخصيات على الورق فتبدو وكأنها من لحم ودم، ومحاكاة الحياة التي تجعل من النص حياة موازية، يفضلها البعض على حياتهم الحقيقية.
الدهشة أحد أهم المعايير الجمالية للنصوص ومفتاح أسئلتها، هي قرينة لعدم تكرار الكاتب نفسه؛ لأن القارئ سيكتشف الخدعة إذا قرأ أكثر من عمل، دليل على أن الكاتب قد نجح في الوصول للقارئ، ليست شرطا للفن لكنها جوهره، ليست كلمات متنافرة متراصة بعضها بجوار البعض لخلق دهشة مصطنعة، بل هي البساطة الآسرة التي تمس عقلك كعصا ساحر، الدهشة تختار الكاتب كما قال «يوسا»: «لا يختار الكاتب موضوعاته، بل الموضوعات هي التي تختاره.» فيا له من محظوظ من يقع عليه الاختيار!
أهمية أن نكتب يا ناس
قبل وفاة والد الروائي التركي «أورهان باموق» بفترة قصيرة، أعطاه حقيبة صغيرة مملوءة بكتابات له ومخطوطات وقصاصات مختلفة ودفاتر، مطالبا إياه بأن يقرأها بعد رحيله: «ألق نظرة عليها فقط (قالها الأب وهو محرج قليلا) لترى إن كان فيها ما ينفع، لعلك تختار منها ما يستحق النشر بعد موتي من مختارات.»
يروي باموق ما دار بعد ذلك في كلمته التي ألقاها في حفل العشاء الذي أقيم بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للعام 2006: «أراد أبي أن يكون شاعرا إسطنبوليا، وترجم فاليري إلى التركية، لكنه لم يرد أن يعيش تلك الحياة التي تأتي مع كتابة الشعر في بلد فقير به القليل من القراء.» لكن ما كان يؤرق أورهان هو أنه كان غاضبا من والده؛ «لأنه لم يعش حياة مثل حياتي، لأنه لم يتعارك قط مع حياته، وقضاها سعيدا، ضاحكا بين أصدقائه وأحبابه.»
يطرح باموق هنا أمامنا حياتين، على من يود الكتابة أن يختار بينهما: إما «أن يعيش كاتبا ويتعارك مع الحياة»، وإما «أن يعيش سعيدا ضاحكا بين أصدقائه.» باموق الذي حصل على أرفع الجوائز الأدبية يعترف بأنه: أن تكون كاتبا يعني ألا تكون سعيدا. لكنه لم يكن ناقما على والده بقدر ما كان غاضبا؛ لأنه يريد بالفعل حياة الكاتب، لأنه يحتاج إلى الكتابة، لأن لديه - كما قال في كلمته تلك: «احتياجا داخليا للكتابة! أكتب لأنني لا أستطيع القيام بأي عمل آخر مما يفعله الناس. أكتب لأنني أريد قراءة كتب مثل التي أكتبها. أكتب لأنني غاضب منكم كلكم، غاضب من الجميع. أكتب لأنني أحب الجلوس في غرفة طيلة اليوم أكتب. أكتب لأنني لا يمكنني المشاركة في الحياة الحقيقية إلا بتغييرها. أكتب لأنني أحب رائحة الورق، والقلم، والحبر. أكتب لأنني أحب المجد والاهتمام اللذين تجلبهما الكتابة. أكتب كي أكون وحدي. ربما أكتب كي أفهم لم أنا غاضب جدا جدا منكم كلكم. أكتب لأنني أحب أن يقرأني الآخرون. أكتب لأن الجميع ينتظرون مني أن أكتب. أكتب لأن لدي إيمانا طفوليا بخلود المكتبات. أكتب، لا كي أحكي قصة، بل كي أنظم قصة. أكتب لأنني لم أكن سعيدا تماما مطلقا. أكتب كي أكون سعيدا.»
لكن الروائية الفرنسية «آني إرنو» تكتب لسبب آخر: «أكتب، ربما لأن الكلام كان قد انتهى بيننا.» كل كاتب لديه سبب جوهري للكتابة، مرتبط بالآخر، بالقارئ، كما تحدثت في مقال سابق، لكن كل هذه الأسباب تصب في اتجاه الخلود؛ خلود الكتابة، خلود الحياة، خلود الإنسان على هذه الأرض؛ حتى يصبح ثمة فارق بينه وبين الكائنات الأخرى.
الكتابة هي بداية الكلام وانتهاؤه، هي تكون الجنين ونفخة الصور، هي القصيدة التي لم تكتمل وتتمة الحكاية، هي السؤال المعلق في الهواء مثل بيت أسطوري، وهي الجواب الذي يأتي مثل قطرة ماء لتائه في الصحراء، هي السراب الذي لا نريده أن ينتهي، وهي السراب الذي نريده أن يتحقق. هي التحقق، وهي الرغبة في التحقق، وهي ما بعد التحقق. هي التوق إلى الحرية، والطريق إلى الحرية، والحرية ذاتها؛ لأنها - لكاتبها على الأقل - كل شيء، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أما لغيره ممن لم يدخلوا جنانها، ويسيروا على صراطها ما بين بهجة الوصول وخوف السقوط، فليست أي شيء.
يقول صلاح جاهين:
في يوم من الأيام ح اكتب قصيدة
ح اكتبها
وإن مكتبتهاش أنا حر
الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة.
الكتابة تكسر القيد، الكتابة تطلق حمائم الله في سمائه، ثم تنظر إليها، الكتابة حمامة تحلق، فتخلف في السماء سحابات بيضاء، تمطر على البلاد الفقيرة، وتورق الورد في الحدائق وفوق الأسطح، وتلون ملابس البنات الذاهبات إلى المدرسة بالسماوي المبهج.
الكتابة تخلق اللغة، تعيد صياغتها، استخدامها، نحتها، تشكيلها مثل قطعة صلصال في يد طفل. لم تتطور اللغة إلا بفضل الكتابة. لم نحافظ على اللغة إلا بفضل الكتابة. ما الذي حفظ تراث الأدب الجاهلي، واللغة الهيروغليفية، واللاتينية؟ هل يتوجب على الإنجليزية أن تنحني شكرا لشكسبير؟ كيف يمكن للإغريقية أن تشكر هوميروس وإلياذته والأوديسا؟
الكتابة اختيار للطريق الصعب؛ فباموق ودع سعادته من أجل الكتابة، راضيا بذلك، وهو يعرف أن الكاتب يدفع الثمن، لكنه في المقابل يحصد الثمن. لا أتكلم هنا فقط عن الخلود، والجمهور، لكني أتحدث عن الانتصارات الصغيرة، عن السعادة بانتهاء نص، عن الفرحة الغامرة بصورة جديدة، عن عملية الخلق التي يمارسها مع كل نص، عن رغبته في الحياة حتى يكمل نصا آخر، عن شعوره بأنه يقوم بغاية إنسانية، تقول الشاعرة فيسوافا شيمبوريسكا: «الشعر غاية إنسانية بالدرجة الأولى، ويكفيني أن أستمر في كتابة الشعر حتى مماتي.»
كل كاتب عندما تسأله: لماذا تكتب؟ سيجيب بطريقته؛ جالسا أو واقفا أو نائما، متواضعا أو متعاليا، أطال أم قصر. يقول جارثيا ماركيز: «أكتب ليحبني أصدقائي.» ويشرح جورج أمادو: «أكتب لكي يقرأني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم؛ ومن ثم أستطيع المشاركة في تغيير واقع بلادي وحمل راية الأمل والكفاح.» ويبرر جورج أورويل الأمر ب «الرغبة في رؤية الأشياء كما هي، بالعثور على الوقائع الحقيقية وحفظها من أجل الأجيال القادمة.» أما نجيب محفوظ فلأمر آخر: «أولا كتبت للاستمتاع الشخصي، وبعد أن أخذت موضوع الكتابة مأخذ الجد، بدأت أحلم.»
الكتابة إذن تغير الواقع وتحمل راية الأمل والكفاح، كما أنها توضح الأشياء وتحفظها للمستقبل؛ فإذا كان يقال: إن التاريخ يكتبه المنتصرون، فيمكننا أن نقول: إن الكتابة الإبداعية هي التاريخ الذي يكتبه البسطاء والعاديون، المهزومون من مجتمعاتهم وظروفهم وحيواتهم، ويسعون للانتصار من أجل حياة أفضل. الكتابة هي بوابة الحلم كما رأى نجيب محفوظ، بل الكتابة تسعى لتحقيق هذا الحلم.
يمكنك أن تعتبرني منحازا، لكني أقول لك: الكتابة هي ذواتنا التي لم نتعرف عليها إلا بفضل الكتابة. الكتابة تمنح الحياة للحياة. الكتابة هي الحياة.
دوائر الكتابة المغلقة المتوازية
خلال العقد الماضي، حدثت في مصر انفجارتان في عالم النشر الورقي. كانت الأولى في عام 2007 تقريبا، بسبب التدوين الذي اجتذب قطاعا كبيرا من الراغبين في الكتابة، ثم وجد بعضهم أن «التحقق » الحقيقي يكون عن طريق إصدار كتب ورقية؛ وهو ما أدى إلى هجرة عدد منهم لدور النشر الموجودة لنشر «تدويناتهم»، أو إنشاء دور نشر جديدة تواكب هذه الحركة الجديدة، وسحبوا معهم أيضا إلى هذا «العالم الجديد» عددا كبيرا من متابعيهم وأصدقائهم في هذا العالم.
الانفجارة الثانية في عالم النشر كانت عقب ثورة 25 يناير؛ فالتمرد على النظام الأبوي السياسي السائد، واكبه تمرد مماثل على دور النشر التقليدية والكتاب التقليديين؛ وهو ما أدى أيضا إلى ظهور عدد كبير من دور النشر، وظهور عدد أكبر من الكتاب الذين اتجهوا في البداية إلى كتابة «مذكراتهم» وذكرياتهم عن الأيام الثمانية عشر في ميدان التحرير، ثم قرروا خوض تجربة الكتابة الإبداعية، جالبين معهم قراءهم من متابعيهم عبر العالم الافتراضي أو من المحيط الخاص بهم؛ وهو ما أوصل بعض هذه الكتب إلى ما يعرف باسم «البيست سيلر»، وأن تصير الأكثر مبيعا.
كانت الانفجارة الأولى في عالم النشر «انفجارة التدوين» مدوية، لدرجة أن دور النشر الكبرى استجابت لها؛ لدرجة أن «دار الشروق» أصدرت سلسلة متخصصة في التدوين، وهي - وإن لم تستمر طويلا - أحد أبرز إصداراتها كان كتاب «عايزة أتجوز» لغادة عبد العال، تحول إلى مسلسل درامي فيما بعد. لكن تجربة «النجاح» هذه لم تتكرر كثيرا، إلا في كتاب أو كتابين، كما أن تجربة التعامل مع هذا «المنتج» باعتباره «تدوينا» لم تتكرر أيضا سوى مرة أو مرتين.
لم تنفصل «الانفجارة الأولى» عن العالم الحقيقي للكتابة وللنشر، ولم ينفصل كتابها أيضا عن هذا العالم الذي وقفوا على بوابته وعرفوا ملامحه وإن لم يدخلوه تماما أو دخله بعضهم وصار من نجومه، على عكس «الانفجارة الثانية» التي خلقت عالمها الخاص الموازي لعالم الكتابة الحقيقي الموجود برموزه ونجومه، سواء أكانوا كتابا أم كتبا.
ففي هذا العالم الجديد، لم يعد مستبعدا أن تجد كاتبا طبع كتابه طبعتين أو ثلاثا، ولديه صفحة على «فيس بوك» يتابعها الآلاف، لكنه لا يعرف من هو «إبراهيم أصلان»، أو «محمد البساطي» مثلا، أو لم يقرأ «خيري شلبي» مثلا؛ وهذا يعود لأسباب كثيرة، أبرزها أن أي شخص أصبح باستطاعته أن يصير كاتبا، وبعد أن ينشر كتابه ويقوم بعمل «حفلة توقيع»، لن يشعر بفارق كبير بينه وبين كتاب ربما كان يوزع أكثر منهم، ولن يهتم كثيرا بقراءة ما كتبوا.
وعلى الرغم من أن الانفجارتين (الأولى والثانية) لهما فضل كبير في أن يصير النشر أسهل، بعد أن كان مغلقا لسنوات طويلة على دور نشر رسمية، ويعاني الكتاب من أن كتبهم «مركونة» في الهيئات الحكومية لسنوات طويلة، فإنها في المقابل سمحت لأي شخص بأن ينشر ما يريد، ما دام يدفع جيدا؛ وهذه هي الكارثة الحقيقية.
وهذه «الكارثة» كانت موجودة من قبل، لكن بشكل خفي لدى بعض دور النشر الخاصة، عندما يريد بعض الكتاب العرب أن يطبعوا كتبهم في القاهرة، كانت تلك الدور تتغاضى عن الجودة مقابل المال، وإن كان هناك في النهاية بعض الجودة، لكن الأمر الآن ضرب بكل شيء عرض الحائط.
حكى لي صديق أراد أن ينشر كتابه الأول لدى واحدة من دور نشر «الانفجارة الثانية»، أنه حينما أبلغهم برغبته في النشر قالوا له إنه لا مشكلة، المهم أن يدفع! وعندما سألهم: «هل ستقرءون العمل أولا؟» كرروا الإجابة نفسها: «ليس مهما، المهم أن تدفع!» وبهذه الطريقة يمكنك أن ترى عشرات الكتب الجديدة يوميا، والكتاب الجدد الذين يرى بعضهم الأمر من باب الوجاهة الاجتماعية، لكنهم لا يعرفون شيئا عن الكتابة ولا عن عالمها، ولا عن قواعدها، لكن لديهم كتب تطبع طبعة واثنتين وثلاثا.
لا أعترض على «البيست سيلر»، ولا أن ينشر كل شخص ما يريد؛ فالزمن في النهاية مصفاة جيدة، ولن يتبقى سوى الأعمال الجيدة، ولا أبحث هنا عن قط أعلق في رقبته الجرس، لكن المحزن حقا هو أن تقرأ بعض هذه الأعمال، وتسمع كتابها، وهم لا يعرفون شيئا، لا عن واقعهم الثقافي، ولا عن تراثهم، ولا حتى عن الأجيال التي سبقتهم، ولا عن تطور الكتابة، بل يبدون كأنهم في غرفة منعزلة عما يدور، مكتفين بأضواء الكاميرات في حفلات التوقيع.
لا أحد ينكر أن المجتمع الثقافي - إذا كان هناك شيء بهذا الاسم - ظل طوال الوقت يعاني من فكرة الشللية، ومن وجود دوائر متباينة داخلة، لكنها كانت دوائر متقاطعة؛ فهناك أدباء أقاليم، وأدباء عاصمة، وشعراء قصيدة نثر، وشعراء تفعيلة، وجماعات ثقافية متصارعة، وندوات في أماكن مختلفة تناصر أشكالا مختلفة من الكتابة، ومقاه تجمع كتابا لا يقرءون سوى الأعمال المترجمة، وآخرون منحازون للكتابة المحلية، وعشرات المجموعات المختلفة؛ لكن في النهاية كانت كلها تطل على بحر واحد اسمه «الكتابة» وتغترف منه.
كان الأمر في البداية أشبه ب «صالة» حولها غرف متعددة، كل من في هذه الغرف يطل على الصالة ويرى ما بداخلها، بغض النظر عما إذا كانت هذه الغرف مفتوحة على بعضها أم لا، على عكس «الموجة الجديدة» التي تبدو وكأنها غرفة في بناية أخرى، لا ترى ما في هذه «الصالة»، ولا ترغب حتى في ذلك؛ لأنها تشعر باكتفائها بذاتها، ولديها شعور بعدم أهمية ما سواها.
ربما من المهم أن توضع كل كتابة في سياقها، وهذا دور النقد، فلم تدع الكتابة المسلية يوما أنها غير ذلك، وظلت «كتب الجيب» طوال الوقت تتجه إلى شريحة عمرية معينة؛ لذا من المهم أن يتصدى النقاد لما يكتب ولما تصدره دور النشر «الجديدة» يوميا بالنقد والتوجيه؛ فهناك أصوات جيدة ضائعة تحتاج إلى من يأخذ بيدها فعلا؛ لأن الأمر يتجاوز فكرة «الأكثر مبيعا» هنا، إلى ذوق جيل يتكون، سواء في الكتابة أو القراءة، وهو ما يمكن ملاحظته من تعليقات قراء وكتاب «الانفجارة الثانية» على صفحاتهم المتخصصة على «فيس بوك»، على سبيل المثال.
لا أحد يدعي أنه يملك صك الكتابة، أو أنه من يضع قواعدها، ولا أحد يملك نزع حق الكتابة من أحد، أو صفة الإبداع من أي كاتب، لكن تعريفات الكتابة الأولية واضحة وجلية، وكلها تنبع من مصدر واحد، أما الغرف المتجاورة المغلقة على ذاتها؛ فهي في النهاية لا تؤدي إلا إلى اختناق من فيها.
هل غادر الشعراء من متردم؟
هذا مقال قديم ومكرر. لا أعني بهذا أنني أعيد كتابته أو أنه تم نشره من قبل في مكان آخر، لكن أعني أن موضوعه قديم، وربما كتب أو فكر فيه كل من أراد يوما أن يكتب نصا جديدا. قديم قدم قول امرئ القيس:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن خذام
وقدم بيت عنترة بن شداد:
هل غادر الشعراء من متردم؟
أم هل عرفت الدار بعد توهم
موغل في القدم لما قبل كعب بن زهير الذي توقف يوما وهو يكتب قصيدة جديدة قائلا في أسف:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
هل كرر هنا كعب ما قاله عنترة؟ هل سرق فكرته؟ أم إنه أدرك فجأة - تماما كما أدرك عنترة - أن منبع الأفكار واحد، أن ثيمات الكتابة معروفة ومحددة؛ كل ما في الأمر فقط هو كيف نتناولها، كيف نأتي بوجه جديد لها؟ هذا هو مأزق كل شاعر وكاتب، مأزق من يسعى إلى «خلق» شيء جديد، لغة جديدة، معنى جديد.
هذا هو وجع كل شاعر، كل فنان، ذنبه، لعنته التي تطارده حتى يموت، كلما فكر أن يكتب نصا جديدا - لم تطأه قدم بشر من قبل - يكتشف في آخر حرف أنه لم يقل إلا ما قيل فعلا، فيبدو كالبطل الإغريقي «سيزيف» الذي حكم عليه أن يدفع صخرة عظيمة إلى أعلى الجبل، فإذا وصل إلى القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها نحو القمة، ويظل هكذا حتى الأبد؛ فأصبح رمز العذاب الأبدي.
مضى الوقت الذي كان يمكننا فيه أن نكون «الأول»؛ أول من كتب قصيدة، أول من كتب رواية، أول من نحت شيئا جديدا. هل انتهت إذن الحبكات السينمائية، والثيمات الموسيقية، والعقد الروائية، والمناسبات الشعرية؟ ما زالت هناك فرص جديدة، يمكن الوصول إليها باستعارة المثل القديم الذي يضربه النقاد دائما بكلام عمرو بن بحر الجاحظ: «المعاني ملقاة على قارعة الطريق يعرفها العربي والأعجمي، والعبرة بالألفاظ.» أي إن الكلمات ملك للجميع، لكن العبرة في النهاية بكيف نعيد صياغة هذه الكلمات في نصوص جديدة.
يرد النقاد الأمر إلى «التناص»، و«التلاص»، و «الشيوع»، و«التوليد»، و«المشتركات»، و«الالتقاط»، و«توارد الخواطر»؛ رغم ما قاله الجاحظ، لكن ثمة من يرى أننا بالفعل نعيد كتابة ما كتب، لكن في ظني ربما يجب أن نضيف إلى ما مضى التقاطع الزماني والمكاني مع النصوص ذاتها؛ فلكل زمن ولكل مكان قواعده التي تجعل إعادة قول ما قيل مختلفة عما سبق، إذا وضعنا تطور الثلاثة مسارات بشكل متجاور: «مسار الفن، مسار الزمان، مسار المكان»، أضف إلى ذلك: التطور البشري، وتطور العقل البشري، وتطور العلاقات البشرية. ويمكننا هنا أن نستعير فكرة «هيجل» باستخدام مفهوم الكائن الحي أو العضوي في وصفه الفلسفة، باعتباره أن كل الفلسفات عبارة عن أجزاء أو مراحل تطور لهذا الكائن العضوي؛ لذا يصف «هيجل» الزمن الذي يعيش فيه بأنه: «زمن ميلاد وانتقال نحو حقبة جديدة.» بهذا الشكل يمكننا أيضا أن نقول إن الفن - بأشكاله المتعددة - هو كائن حي، حياته هي عمر البشرية، ومراحل الكتابة ليست إلا مراحل عمرية له.
تطور الزمان والمكان يؤدي بالتبعية إلى تطور الخيال؛ ومن ثم يخرج الفن من كونه تصويرا فحسب للمشاعر التي تتحرك عبر الزمن ببطء؛ فبذلك يصبح التعبير عنها أقل تطورا. إذن يمكن أن نربط تطور الفن ومفارقته - ليس بشكل كامل بطبيعة الحال - بتطور الفكر والخيال، وبحسب «ديكارت» فإن «النقلة من المستوى الخيالي إلى الفكري تتم بما يشبه الوثبة؛ إذ تصبح الذات في فاعلية خاصة ناجمة عن توحيد آليات التفكير بشيء وآليات تخيله ضمن إطار موحد من الوعي.» لذا يعتبر «كانط» أن الخيال قوة تركيبية مثله مثل فعل التفكير الذي هو في حقيقته فعل تركيبي. وقد اعتبر أغلب فلاسفة القرن السادس عشر كل إحساس مجرد خيال، لكن «كانط» اعتبر أن الاختلاف بينهما اختلاف في الدرجة، وأن المحسوس الحق هو الذي يفسر بواسطة الفهم باعتباره وحده الجدير بأن يتصف بالحقيقة.
الخيال إذن هو الإجابة على هذه الأسئلة: ما الذي يجعلنا نشاهد عشرات العروض المسرحية عن «هاملت» ولا نمل؟ ما الذي يعنيه إعادة التوزيع الموسيقي؟ لماذا نقرأ عشرات الروايات التاريخية عن الحدث نفسه ونستمتع بها؟ بل لماذا نعيد قراءة العمل نفسه أكثر من مرة؟ هل يشبه الأمر الترجمات المختلفة للرواية الواحدة إلى نفس اللغة؟
يقول «بول فاليري» إن «الليث هو عبارة عن خراف مهضومة.» وبهذا المعنى يمكن أن ننظر إلى كل الأعمال الفنية الموجودة، والتي وجدت، والتي ستوجد. وبهذا أيضا يمكن أن نرد على الأسئلة السابقة، وعلى سؤال عنترة. غير أن الأمر هنا يتوقف دائما على شكل هذا «الليث»؛ ما يقوله، وما يعنيه. إن مهمة الفن هي الخلق، حتى لو كان هذا الخلق نتاج خراف مهضومة. والخلق يعني الخصوصية؛ الخصوصية التي يسعى إليها الكاتب، والخصوصية للقارئ. يقول «تشارلز بوكوفسكي» في قصيدة له:
يقول بعضهم إننا ينبغي أن نبقي أسانا الشخصي
بعيدا من القصيدة «ابق تجريديا» وثمة منطق في هذا
لكن يا إلهي!
اثنتا عشرة قصيدة ذهبت، وأنا لا أحتفظ بنسخ الكربون، ولديك
لوحاتي أيضا، أفضلها. هذا خانق
أتحاولين سحقي كالأخريات؟
لم لم تأخذي مالي؟ فهن عادة يأخذنه
من السروال السكران النائم المريض في الزاوية
فلتأخذي المرة المقبلة ذراعي اليسرى أو خمسين دولارا
لكن ليس قصائدي
لست شكسبير
لكن أحيانا ببساطة
لن يكون هناك المزيد من القصائد؛ تجريدية أم سواها
سيكون ثمة دائما، وحتى القنبلة الأخيرة
مال وعاهرات وسكارى
لكن مثلما قال الرب
مصلبا ساقيه:
أرى أنني صنعت الكثير من الشعراء
لكن ليس الوافر
من الشعر.
أعتقد أن «تشارلز بوكوفسكي» لخص الأمر؛ لخص هذا المقال وعشرات المقالات التي كتبت قبله وستكتب بعده. وهذا هو دور الفن؛ هذا هو السر الذي يبحث عنه الفن طوال تاريخه، السر الذي يسعى وراءه كل شاعر وكل روائي وكل صاحب فن. لم يمسكه أحد بيده، لكننا نبحث عن متعته في كل نص جديد. لذا سيستمر الفن، وسيبقى السؤال من دون إجابة، وسيبقى سيزيف ملعونا يدفع صخرته إلى أعلى للأبد.
الشعراء من السماء ... الروائيون من الأرض
أيهما أكثر صعوبة: كتابة الشعر أم الرواية؟ هذا سؤال عبثي، والإجابة عنه ستكون أكثر عبثية، تماما مثل السؤال الذي يوجه لشاعر قرر أن يكتب رواية: «لماذا اتجهت للرواية؟» فيجتهد للإجابة عن سؤال لا يحتاج إلى إجابة.
في فيلم «العظمة
The Prestige » الذي أخرجه «كريستوفر نولان» وقام ببطولته «هيو جوكمان» و«كريستيان بيل»، نحن أمام ساحرين، كل منهما يتقن مهنته، لكن مع ذلك يسعى كل منهما إلى اكتشاف «سر» لعبة الآخر؛ مفتاح صنعته الذي يجعله يرى النظرة المنبهرة على وجه جمهوره، كلاهما يعمل بنفس الأدوات، لكن المنتج مختلف.
كلا المبدعين (الشاعر والروائي) يفعل ما يفعله الساحر، معتمدا على ثلاثة أجزاء كما فصل الراوي العليم في الفيلم:
الجزء الأول يسمى الوعد: يريك الساحر شيئا مألوفا. الجزء الثاني يسمى الدوران: يأخذ الساحر الشيء المألوف ويفعل به شيئا غير اعتيادي ولكنك لم تصفق بعد؛ لأن جعل الشيء يختفي غير كاف، بل يجب أن يعود مجددا. الآن أنت تبحث عن السر، ولكنك لن تجده؛ لأنك بالطبع لا تبحث عنه بجدية، أنت في الحقيقة لا تريد أن تعرفه، تريد أن تخدع. لهذا السبب، لكل خدعة سحرية جزء ثالث؛ الجزء الأصعب، الجزء الذي يسمى: «التميز».
بعض الشعراء لم يتعرضوا للخداع، استطاعوا اكتشاف السر، فكتبوا الرواية؛ لأن فن «السحر» واحد، يحق للشاعر/المبدع/الساحر، التنقل بين ألعابه المختلفة، وأن يقدم جديده، معتمدا على خبرته في ألعابه الاعتيادية.
لا أميل لمقولة إن الشاعر يكتب الرواية لأنه يبحث عن الشهرة، أو لأنها تحصد الجوائز؛ فهو ليس تاجرا يبحث عن الأكثر ربحا، كما أن الشاعر لا يميل لابتزاز عبارة «زمن الرواية»؛ لأنه يعلم كما يعلم الجميع المقولة القديمة أن «الشعر هو أعلى مراتب الفن». الأمر لا يتجاوز أنه يبحث عن مساحة جديدة للكتابة، تجريب في مساحة أخرى، اكتشاف «سحر» جديد يملك تفاصيله، مستغلا فيها أدواته الشعرية؛ ولهذا تبدو روايات الشعراء تحمل لغة مختلفة، يميل النقاد لتبريرها بأن سببها قدومهم من عالم الشعر، مع أن الحقيقة أن هذه اللغة هي سلاح الشاعر الحقيقي الذي يقتحم به العالم الجديد؛ لذا يتميز الشعراء القادمون من هذا العالم، سواء حافظوا على كونهم شعراء فيما بعد أم لا؛ ففي الأدب العربي نجد تجارب «رشيد الضعيف» و«جبرا إبراهيم جبرا» و«إبراهيم نصر الله» و«سليم بركات»، وفي التجارب العالمية نجد «تشارلز بوكوفسكي» و«بورخيس» و«بول أوستر» و«ميلان كونديرا» و«كواباتا» و«ساراماجو» و«فيكتور هيجو» و«جونتر جراس» و«كازانتزاكي»، و«هيرمان هيسه»، وكلهم بدءوا بالشعر.
قد يبدو من المزعج للبعض الآن التفريق بين أنواع الفنون المختلفة، ونحن نتحدث عن الرواية الشعرية، والسرد في الشعر، والكتابة عبر النوعية، والتداخل بين أنواع الفنون المختلفة، وموت النص الأدبي، والنص المفتوح ... فمثلا الناقد «إدوار الخراط» نشر مقاطع من إحدى رواياته في ديوان له باعتبارها شعرا، وهناك عشرات النماذج للتدليل على هذا. لكن رغم ذلك، ورغم حالة التداخل والكلام عن نصوص تمزج بين الفنين وفنون أخرى، يبقى كل فن قائما بذاته؛ فلم يصدر فرمان بإلغاء هذا التقسيم الأدبي، ولا كف الصحافيون عن سؤالهم، أو النقاد عن تبريرهم أو اتهامهم. بل على العكس، يبدو أننا متجهون لمزيد من التمييز الذي لم يكن موجودا في بداية النهضة الأدبية العربية الجديدة بدايات القرن الماضي؛ حيث كان ينظر للكاتب باعتباره مبدعا لكل الفنون؛ فنرى «العقاد» و«المازني» يكتبان الشعر والرواية، و«شوقي» يكتب الشعر والمسرح، وغيرهم.
لست معنيا هنا بالقول بأفضلية أحد الفنين على الآخر؛ فالفن في النهاية واحد، أيا كانت الطريقة التي يقدم بها. لكن في معظم الحالات تكون البداية من الشعر. كل الروائيين بدءوا بكتابة الشعر في صباهم، قبل أن يتجهوا للرواية. الشعر كان هو ضربة الموهبة الأولى، لطخة الفرشاة الأولى التي ستشكل الرسم، السلمة الأولى لصعود الدرج، اكتشاف بدايات الدهشة. حتى في الخيال الجمعي الشعبي؛ يبدو الشاعر هو القادم من «وادي عبقر»، الذي يحمل السحر، ربما يمكن رد هذا إلى حداثة فن السرد العربي نسبيا، لكن الأمر أبعد من ذلك في العقل الباطن.
الشعراء عادة يتجهون لكتابة الرواية، لكن قلما تجد روائيا اتجه لكتابة الشعر. هذا لا يعني أيضا صعوبة أحدهما عن الآخر، لكن مفهوم الشعر يبدو ملغزا قليلا لمن لم يكتبه منذ البداية. لا أتكلم هنا عن «العروض»، أو «التفعيلات والقوافي»، فقد تجاوزت قصيدة النثر ذلك من زمن، لكنها هالة الشعر التي تختصر كل شيء في كلمات قليلة.
الشعر يطرح الأسئلة، والرواية تقدم أجوبتها. الشعر هو اللغز، والرواية هي المفتاح الكامن بين الورق. الشعر كلمة، والرواية فقرة. الشعر سير فوق السحاب، الرواية انتظار نزول المطر. الشعر من عالم آخر، الرواية من هذا العالم. الشعر هو السراب، الرواية هي الماء الذي كان سرابا. الشعر قائم بذاته حتى لو اعتمد على السرد، الرواية وعاء جامع يستطيع أن يضم كل الفنون. الشاعر يملك عيني صقر تنظران للمشهد من أعلى، والروائي يسير في الدروب بحثا عن خيط طويل. الشاعر يفضل أن يحمل لقب «شاعر» حتى لو كتب الرواية، الروائي يتمنى أن يصبح شاعرا. قراء الشعر قلة لأنهم نخبة، الرواية أكثر انتشارا حتى بين العامة. الشعر لا يصل إلى «البيست سيلر» ولا يهتم بذلك، الروايات - حتى الرديئة منها - تصبح الأكثر مبيعا. الشاعر بجناحين، الروائي يقود دراجة في حي شعبي. الشعر صوت الرعد وضوء البرق ونزول المطر، والرواية صعود البذور من الأرض في شجيرات. الشعراء من السماء والروائيون من الأرض.
هل أنا منحاز للشعراء؟ طبعا.
فنية الغناء في «الحمام»
في إحدى حلقات برنامج المواهب «أرابس جوت تالنت
Arabs Got Talent »، في موسمه الرابع، قدم أحد المتسابقين نفسه، بأن موهبته أنه «يأخذ حماما»؛ كان يقصد أنه يغني وهو يقوم بالاستحمام. وبالفعل، دخل «حماما» مغلقا لا يظهر منه إلا رأسه، وبدأ الغناء وسط انهمار المياه عليه، ووسط سخرية لجنة الحكام وضحكات الجمهور.
هذا المشهد، رأيناه من قبل في فيلم «إلى روما مع الحب» الذي أخرجه وقام ببطولته «وودي آلان»، وكان يقوم فيه بدور منتج أوبرا معتزل، يفاجأ بأن هناك متعهد جنائز يتمتع بصوت عذب عندما يغني أثناء «الاستحمام»، ويصبح صوته سيئا إذا حاول الغناء خارج حدود ذلك، فيقرر أن يقدمه للجمهور على خشبة المسرح، وهو يغني أسفل «الدش»، داخل حمام متنقل، مثل الذي قدمه متسابق البرنامج الشهير.
لاقى الفيلم نجاحا كبيرا، ولفتت شخصية «مغني الحمام» الانتباه، بفنيتها وطرافتها وغرائبيتها، لكن لم تفعل ذلك الشخصية الحقيقية في برنامج المواهب. هل هذا يعني أن الفن يضفي هالة على الشخصية، ويمنح متعة إضافية للمتلقي، حتى لو كانت الشخصية غير اعتيادية في الواقع؟
ثمة مثال آخر: فقبل أعوام أمطرت السماء ضفادع في اليابان، ووقعت أحداث مشابهة تعرف بتسمية «فافروتسكايز» (مختصر السقوط من السماء) في أماكن أخرى حول العالم؛ حيث حملت زوابع عابرة ضفادع وقناديل بحر. وبعيدا عن التفسير العلمي لذلك؛ فإن استقبال المتلقي كان مختلفا عن مشهد سقوط الضفادع نفسه في الفيلم المهم «ماجنوليا» الذي كتبه وأخرجه «بول توماس أندرسون»، أو مشهد سقوط الأسماك من السماء في رواية «هاروكي موراكامي» الأشهر «كافكا على الشاطئ».
ربما يبدو الاحتفاء بما يتناوله الفن - رغم وجود مثيل له في الواقع - جوابا على من يقولون إن الحياة صارت أكثر غرائبية من الخيال، وربما يجيب أيضا عن أسئلة حول دور الفن، وما يفعله ويغيره، وربما يصلح أيضا جوابا لسؤال يتكرر لمعظم الكتاب في حواراتهم، عن مدى تقاطع حياتهم الشخصية مع النص الروائي؛ لأن الفنان عموما عندما يعيد تقديم مشهد واقعي اعتيادي، سواء في الشعر أو الرواية أو المسرح أو السينما، فإنما يضيف إليه تلك اللمسة السحرية، التي اسمها الفن، التي تضيف إليه روحا تجعله مختلفا عن ذلك الاعتيادي الذي تعودنا على رؤيته كل يوم، فتحوله من جثة ممددة على الأرض إلى عداء في سباق تنافسي، من حكاية اعتيادية إلى كرة ثلج من الأسئلة تتدحرج على الجميع بحثا عن الإجابة.
في رواية «لو أن مسافرا في ليلة شتاء»، للروائي الإيطالي «إيتالو كالفينو»، نجد نصا مؤسسا بالكامل على الفانتازيا، كان هدفه أن يتحدث عن حقيقة لم يكن بوسعه أن يرويها بأية طريقة أخرى، ويقول «كالفينو» إن الروائيين «يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في أعماق كل كذبة، وبالنسبة إلى الروائي - كما للمحلل النفسي - ليس بالأمر المهم النظر فيما إذا كنت تقول صدقا أو كذبا؛ لأن الأكاذيب يمكن لها أن تكون ممتعة وبليغة وكاشفة، شأنها شأن أية حقيقة ندعي قولها بصدق.»
ما بين الصدق والكذب، الواقع والخيال، يبني الكاتب عالمه، فيبدو كصانع عرائس ماريونيت، قد يضع يد شخصية، مع رأس شخصية أخرى، مع قدم شخصية ثالثة، لكي يصنع شخصية رابعة. إنها لعبة «البازل» التي تصنع في النهاية شكلا مختلفا عندما يكتمل، رغم عاديته. لذا يحدد الشاعر والروائي الأمريكي «وليم فوكنر» ثلاثة أشياء يحتاجها الكاتب لرسم الشخصية: الخبرة، والرصد، والخيال، معتبرا أن أي اثنين منها - وفي بعض الأحيان أي واحد منها - يمكنهما تعويض نقص الصفات الأخرى. ويقول:
معي، يبدأ الأمر غالبا مع فكرة وحيدة أو ذكرى أو صورة رمزية. كتابة القصة ليست إلا مسألة عمل للوصول لتلك اللحظة من البدايات؛ لتفسير لماذا حدث هذا، أو ما تسبب به لاحقا. فالكاتب يحاول خلق شخصيات ذات مصداقية ضمن مواقف انتقالية منطقية في أكثر طريق متنقل يمكنه الحصول عليه. من الواضح أنه لا بد له من استخدام البيئة التي يعرفها باعتبارها واحدة من أدواته.
لا نتحدث هنا عن القصة الواقعية، أو نقل الواقع إلى الورق؛ فصفحات الحوادث في الصحف تمتلئ بآلاف القصص الواقعية «المفجعة» والرديئة في كتابتها، وصفحات الأخبار نائمة تحت آلاف الجثث، لكن الفرق بين هذا الواقع والواقع الذي يقدمه الأدب، هو الفن؛ تلك اللمسة السحرية التي لا يملكها أحد دون من ضربته تلك اليد العملاقة التي اسمها الفن.
في رأي «فوكنر» أيضا أن الموسيقى أسهل وسيلة للتعبير منذ أن اكتشفت بداية في خبرة وتاريخ المرء، «ولكن لأن الكلمات هي موهبتي، فلا بد أن أحاول التعبير من خلال الكلمات عن الموسيقى الصافية التي قد تفعل ذلك بشكل أفضل.» الموسيقى لا يشبهها شيء؛ لذا تبدو خارج المنافسة، لكن الكلمات تشبه الحياة؛ ومن هنا تبدو الصعوبة في أنها تقوم بعمل الموسيقى، وتضاهي الحياة، وتنتصر عليها، وتحولها من قطعة معدن ملقاة في الأرض إلى طائرة تحلق في السماء، من ريشة بلا قيمة في جناح دجاجة إلى أداة لنسخ آلاف الكتب ورسم آلاف اللوحات، من امرأة قد تدعى «الموناليزا»، إلى لوحة مبهرة تثير آلاف الأسئلة لسنوات طويلة.
الأمر يشبه إلى حد كبير المغني «وودي آلان» الأوبرالي، الذي لا يتمتع بصوت جميل إلا بين جدران أربعة وتحت زخات الماء. تستطيع أن تعتبر أن تلك الزخات، وتلك الجدران، هي الفن الذي يعيد صياغة الاعتيادي - أو حتى غير الاعتيادي - ويقدمه بشكل مختلف، بحثا عن جوهره الحقيقي، وإجابة عن الأسئلة التي يطرحها؛ الأسئلة التي صدئت لأن أحدا لم يجب عنها من قبل. إن الأمر أشبه بإشعال نار نائمة تحت الرماد في وجه عاصفة قاسية. إنه جوهر الحقيقة، الغائص في عمق الكذبة.
لا يوجد شيء - في ظني - اسمه أن الواقع أكثر خيالا من الفن؛ لأن الفن قادر على جعل الحياة - بحكاياتها الغريبة والعادية - أكثر جمالا، والأهم: أكثر احتمالا.
أن تكون أسطورة
ما إن يبزغ نجم أحد الكتاب أو الفنانين أو المغنين، أو يجمع حوله بعض المعجبين، حتى تسارع الأقلام النقدية إلى تشبيهه بأحد الرموز الإبداعية السابقة وتصفه بأنه خليفتها المنتظر، وهكذا نظل طوال الوقت ندور في حلقة مفرغة ننتظر «متنبيا» جديدا لا يأتي، وأم كلثوم وعبد الوهاب جديدين قد رحلا، ويطارد شبح محمود درويش كل الشعراء الفلسطينيين الجدد، بعد أن حبسهم في بوتقة «قصيدة القضية»؛ حتى لا يغادروها.
وعلى هذا المنوال، فكل ممثل أسمر اللون شهدته مصر في السنوات الماضية كان «النمر الأسود» أو خليفة أحمد زكي، وكل مطربة جديدة ستكون أم كلثوم الجديدة، وكل زعيم جديد هو امتداد ل «عبد الناصر». أما الذين يفكرون في تحرير القدس، فهم طوال الوقت ينتظرون «صلاح الدين» الجديد، وهي حالة الانتظار المتجذرة في الوعي الديني من «المهدي المنتظر» إلى «المسيح الدجال».
والملاحظة هنا ليست فقط الغرام بالشخصيات القديمة والسقوط في أسرها، بل وأسطرتها أيضا. ويمكن إحالة هذا إلى ظاهرة ثقافية أخرى متجذرة في الوجدان الشعبي، وهي «ميلاد البطل الشعبي»، وبطولته في هذه الحالة هي حالة التشابه بينه وبين رمز سابق تكونت أسطورته من دراماتيكية حياته (مرض عبد الحليم حافظ، تأثير النكسة على صلاح جاهين، علاقة أم كلثوم بثورة 1952، مرض أحمد زكي، فضلا عن الموت المبكر الذي لاحق معظم هؤلاء)، وهو ما يجعلنا نفكر في أسباب عدم وجود من يتم تشبيهه بفاتن حمامة على سبيل المثال، والإجابة هي أنها صنعت أسطورتها الخاصة من خلال فنها وليس من خلال دراماتيكية حياتها الشخصية. ومن هنا ظلت بعيدة عن المخيلة الشعبية وطريقتها في صناعة الأسطورة؛ لذا لا يرد المتخصصون في الأدب الشعبي مولد البطل إلى الفرد ذاته، بل إلى الجماعة والطقوس التي تقوم بدور الجهاز العصبي في حياة الجماعة؛ لذا قالوا إن الأساطير لم تكن إلا التعبير القولي عما يمارس عملا في الطقوس القبلية، وإن البطولة في تلك الأساطير لم تكن إلا تجسيما للوعي الجماعي، أو تعبيرا عن النظام الذي تقوم عليه حياة الجماعة. ومن هنا يصبح البطل (النجم الجديد) تعبيرا عن الجماعة أو عن وظيفة اجتماعية، لكن هذا لا يبدو كافيا في الفن؛ لأنه يحتاج في الأساس إلى موهبة، وآليات صناعة مختلفة عن تلك الآليات المستخدمة في خلق البطل (النجم) الشعبي.
وصناعة البطل، أو الأسطورة أو الرمز، تتجلى في ظاهرة ثقافية عربية أخرى؛ هي ظاهرة الألقاب التي يمنحها النقاد دائما لكل مبدع في مجاله، سواء عن وجه حق أو غير ذلك؛ لدرجة أن بعض الألقاب إذا فكرت فيها تبدو غريبة وغير مفهومة وغير ذات دلالة إلا أنها مجرد لقب، فقد يكون من المفهوم أن يكون هناك «أمير الشعراء» أو «شاعر الشباب» أو «رب السيف والقلم»، ويفهم منها أن الأول «أحمد شوقي» أفضل الشعراء، والثاني «أحمد رامي» جل إنتاجه موجه للشباب، والثالث «محمود سامي البارودي» كان ضابطا وشاعرا، وكان بارعا في المجالين، فإليه ينسب فضل إحياء القصيدة المعاصرة، كما دفع ثمن وطنيته بنفيه، لكن من غير المفهوم ألقاب شعراء مثل «شاعر الكوخ» الذي أطلق على الشاعر الراحل محمود حسن إسماعيل، أو «شاعر الجندول» الذي أطلق على الشاعر الراحل علي محمود طه، أو «شاعر الأطلال» الذي أطلق على الشاعر الراحل إبراهيم ناجي.
وقبل أن يفهم أحد أنني أشكك في شاعرية أي منهم، أود أن أقول إنني أعرف دورهم المهم في تطور القصيدة العربية الجديدة، فينسب إلى محمود حسن إسماعيل - مثلا - أنه أول من كتب قصيدة التفعيلة، لكن سؤالي هو ما الذي يعنيه لقب «شاعر الكوخ»؟ الإجابة طبعا أنه كتب ديوان «أغاني الكوخ»؛ ولذا أطلق عليه هذا اللقب. لكن الحقيقة هي أن اللقب لا يعني شيئا، ولا يضيف شيئا، وهو ليس أكثر من مجرد لقب حتى يصبح شاعرا «ذا لقب»، لا يضيف شيئا إليه ولا إلى شاعريته، ولا يضيف له قيمة، ولا يصف حتى دوره.
ويذكرني هذا بإعلانات شهيرة انتشرت قبل أكثر من عقد من الزمان في شوارع القاهرة على جدران المترو وأسوار المدارس لكاتب مغمور اسمه محمود عبد الرازق عفيفي، أطلق على نفسه لقب «أديب الشباب»، لم يكن أحد يعرفه، وكان يكتب أدبا أصفر، لكنه أدرك أنه لن يصبح معروفا ما لم يطلق على نفسه لقبا، فأغرقت إعلاناته جدران القاهرة، بجوار إعلانات مدرسي الدروس الخصوصية «صاروخ الكيمياء» و«آر بي جي الفيزياء». وهذه الظاهرة نراها موجودة الآن في السينما بصورة مكثفة، فكل ممثل قدم عملين دراميين نجد من يشتق لقبا له من أحد عمليه سواء كان «قطة السينما» أو «بلطجي الشاشة» ... وهكذا، وهي الظاهرة التي لا نجدها في الغرب، فلم نسمع عن لقب منح لممثلين كبار مثل آل باتشينو، أو أنتوني هوبكنز، أو ميريل ستريب، على سبيل المثال. ويمكننا هنا أن نمد الخيط على امتداده ونقول إن هذا موجود في التعاملات العادية في الشارع، وهو ما يعني أنه جزء من تكوين الثقافة الشعبية، فإذا كانت الألقاب الرسمية قد ألغيت مع الثورة، فإنها ما زالت سارية بشكل غير رسمي، بالإضافة إلى عشرات الألقاب التي يمكن أن يناديك بها الناس إذا سرت في الشارع بداية من «يا باشا» إلى «يا برنس»، ومن «يا هانم» إلى «يا عروسة».
وإذا عدنا لأصل الفكرة التي نناقشها، فسنجد أن محاولة التشبيه بالقدامى هي في جزء منها محاولة لمنح لقب جديد، لكنه مرتبط بحنين إلى الماضي، ومحاولة لاستعادة أمجاد ما مضى، وهو ما يمكن تفسيره باضمحلال الواقع الحالي، فلو كان الواقع يعبر عن نفسه بشكل جيد، ويفرز نجومه في مجالات الإبداع المختلفة لما ظل الناس متعلقين بهذا الشكل بالماضي، وهو التفسير الذي لا ينفي أيضا الرغبة العربية العارمة دائما في تقديس ما سلف وأسطرته.
والإجابة دائما لمن يقول إننا في انتظار «المتنبي» الجديد، بسيطة جدا؛ وهي أن المتنبي صنع مجده باختلافه عمن سبقه ومن جايلوه، فماذا سيصنع الصوت الجديد؟ وبمناسبة الصوت، فدار الأوبرا تمتلئ بعشرات الأصوات القوية التي تشبه وتقلد أم كلثوم، لكن لا أحد يسمع عنها، وعلى مدار السنوات الماضية، قدمت وسائل الإعلام عشرات أخرى من الأصوات التي وصفتها بأنها أم كلثوم جديدة، ومع ذلك لم يبق منها شيء، والسبب يرجع إلى أن أدوات تكوين أم كلثوم الثقافية والاجتماعية والسياسية مختلفة، كما أن العوامل التي كونت «فكرة أم كلثوم» ذاتها تغيرت، وهي غير قابلة للتكرار، كما أن آليات الاستقبال والتذوق تغيرت؛ لأن كل عصر يفرض أدواته وآلياته.
ورغم أن البعض يقول إن التاريخ يعيد نفسه، لكن أظن أن أخطاء الإنسان وعدم تعلمه من دروس الزمن هي التي تجعله يعتقد ذلك؛ لأنه إذا تكررت المعطيات الموجودة طوال الوقت وتكررت نفس ردود الفعل، فمن الطبيعي أن تتكرر النتائج، لكن في الفن أنت لا تستطيع أن تتحكم في الذوق الجمعي الذي هو نتاج عصارة اجتماعية وسياسية وفكرية عصرية.
وأعتقد أن الناس لا يريدون من يكرر لهم الماضي حتى لو قالوا ذلك؛ لأنهم يحبون الماضي كما هو، بصورته الذهنية المرتسمة لديهم عنه، ورغم السعي طوال الوقت للتشبه بالماضي، وتشبيه كل «مبدع» جديد بأحد الرموز القديمة، فهذا ليس أكثر من انعكاس الوجه في صفحة النهر، يدرك الجميع أن حصاة صغيرة ستضيع كل ما تشكل في الماء.
ما يحتاجه كل مبدع هو أن يكون ذاته، لا أن يكون غيره؛ لأن غيره كان موجودا بالفعل وترك بصمته، وما يحتاجه المبدع هو أن يضع بصمته الجديدة بجوار بصمة من مضى؛ فمن دون هذا لن يكون له وجود. ففي كل يوم تصدر المطابع مئات الكتب لا يبقى منها إلا الصوت الحقيقي القادر على البقاء، وصنع أسطورته الخاصة، سواء حمل لقبا أو ظل حرا طليقا كريشة في الهواء، هي لقب ذاتها.
اقتل الرقيب
في مقال آخر في هذا الكتاب نتحدث عن القارئ الذي يكون رقيبا على الكاتب ويدفعه في اتجاه معين، لكن في بعض الأحيان لا يحتاج الكاتب إلى رقيب خارجي، من أي نوع، بل يكون رقيبه داخليا ينمو داخله كل يوم حتى يتعملق؛ حتى يحتويه تماما، يمنعه من اصطياد الفكرة، بل يمنعه حتى من النظر في اتجاهها.
ينمو الرقيب الداخلي مع التقدم في العمر، ومع الانصياع للمحددات التي يفرضها المجتمع؛ لذا نجد أن النصوص الأدبية المكتوبة في سن مبكرة لدى جل الكتاب هي الأكثر تمردا وجموحا وتجديفا؛ مما يجعلها نصوصا براقة لامعة ومحفزة دائما، وهو ما يتراجع في السنوات التالية لدى الكاتب، حتى يختفي ذلك البريق تماما، وربما تخفت الموهبة أيضا، وربما يتوقف عن الكتابة. وهناك حالات كثيرة نعرفها لشعراء وروائيين توقفوا عن الكتابة بعد أن بدءوا بأعمال مبشرة؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتمردوا على رقيبهم، ولم يستطيعوا أن يخونوا كتابتهم أيضا، ورغم أن عددا منهم عاد للكتابة بعد سنوات تحت إلحاح الموهبة المكتومة والصهد الذي يدفع غطاء الفوهة إلى أعلى، فإنها كانت أعمالا بغلاف الموهبة فقط، بعد أن أكلت السنوات والرقيب جوهرها، وانطفأت نيران البركان.
يمكن القول إن الرقيب الداخلي هو انعكاس للرقيب الخارجي؛ فالرقيب الذي يولد داخل الكاتب هو ابن من زواج غير شرعي مع الرقيب الخارجي بأشكاله المختلفة، لدرجة أننا يمكن أن ننسب الرقيب الداخلي إلى الرقيب الخارجي، بل إنه أحيانا يفوقه تشددا ومغالاة ومزايدة، وأنواعه متعددة؛ فهناك الرقيب الداخلي السياسي، والخوف من السجن والاعتقال والقمع؛ لذا يلجأ الكاتب إلى ما يسمى بالإسقاط، أو يهرب من الرقيب إلى مجالات أخرى في الإبداع. وهناك الرقيب الداخلي المجتمعي حين يتحول المجتمع بعاداته وتقاليده وقيمه، الجيد منها والمتخلف، إلى جزء من أفكار الكاتب الذي يسعى إلى تغييره، فيصبح عبئا إضافيا على تقدم المجتمع بفضل رقيبه الداخلي، ويصبح الأمر شبيها بلعبة شد الحبل، كل طرف يسعى إلى شد الآخر في اتجاهه والسيطرة عليه. وهناك الرقيب الداخلي العائلي، حين يتحول أفراد العائلة إلى رقباء على كل كلمة، ويحاكم كل نص ليس باعتباره إبداعا يخضع لقواعد فنية محكمة، ولكن باعتباره سيرة ذاتية لكاتبه، ويتحول إلى مفتاح للتلصص على حياته؛ وهو ما يجعل الكاتب يفكر في كل ما يكتب فيما بعد؛ خوفا من أن يتم تفسير ما يكتبه بشكل شخصي، وهو ما يجعله يكبح جماح الإبداع. وهناك أيضا الرقيب الداخلي الديني، وهو ما نلاحظ تصاعده دائما وأبدا حين يقرر بعض من يدعون أنهم متحدثون باسم الأديان أن يفسروا النصوص على مزاجهم، فيصبح كل ما يشغل الكاتب حين يشرع في إمساك قلمه الخوف من سوء التأويل.
والخطر - كما قلت - ليس من وجود هذه الأنواع المختلفة في بيئة الكاتب، وإنما أن يتحول عقله الباطن إلى بيئة حاضنة لها؛ إذ سيفكر كلما هم بالكتابة في القارئ الذي لن يعجبه ما سيكتب، وفي الرقيب الديني والمجتمعي والعائلي والسياسي ... إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الرقباء، مع أنه من الأفضل للكاتب أن يكتب بمعزل عن كل هذا، أن يكتب ثم يعرض ما كتبه لمقص الرقيب، لا أن يترك مقص الرقيب يعمل قبل حتى أن يكتب.
في الغالب لا يستطيع الكاتب أن يفلت من رقيبه الداخلي تماما، لكنه يستطيع أن يتمرد عليه أو يخدعه أو يغافله باللجوء إلى بوابة المخيلة التي لا يجرؤ الرقيب على الدخول منها. يقول الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط: «في داخلي رقيب ذاتي، لكن أصبح عندي حرفة، وأستطيع أن أتحايل عليه؛ الجمال يقتل الرقيب.» وهذا الجمال يمكن أن نسميه هنا الفن، وحرفية الكاتب، التي يستطيع من خلالها أن يقول: «إني أرى الملك عاريا.» دون أن يقول ذلك، فباعتراف الماغوط أضحكت مسرحياته السياسية السلطة، رغم أنها تنتقدها، إلا أنه استعان ب «الجمال»، و«الحرفة».
وسؤال الرقيب هو سؤال كل كاتب حقيقي، لكنهم قلة من يستطيعون الإجابة عنه ، كتب الروائي الراحل عبد الرحمن منيف في مذكراته في أوائل الثمانينيات يقول: «يجب أن «أتمتع»، وأن أستفيد من جو الحرية المؤقت الذي أعيش فيه الآن، ويجب أن أمتلك جرأة حقيقية في الكتابة. هل أستطيع أن أحذف من داخلي الرقيب الذي يطاردني في كل لحظة؟ وهل يمكن لإنسان تعود على القهر والملاحقة أن يحلم بلحظات حرية ... حتى لو كانت وهمية أو قصيرة؟ السؤال التحدي. ومثل هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا بطريقة عملية، وربما تكون الإجابة الأولى في «مدن الملح»؛ إنها الامتحان.» كما كان الرقيب هاجس منيف كانت الحرية هاجسه وتحديه الأكبر؛ لأن الرقيب هو قاتل الحرية، ولا كتابة بلا حرية، بلا قفز على التابوهات المجتمعية.
ربما تلخص هذا المعنى مقولة دوستوفيسكي: «ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية»، وهو ما يمكن أن نخلص منه أيضا إلى أن سؤال الرقيب إذن هو سؤال الحرية، وسؤال الكاتب وامتحانه في كل نص هو سؤال الحرية؛ هو السؤال الأزلي الذي لا ينفك يطرح مع كل نص جديد، مع كل حضور لإبداع، هو سؤال الرغبة في المضي قدما إلى الأمام أو النكوص؛ الكتابة تمنح القارئ والكاتب الحرية، الكتابة تذكر بالحرية، الكتابة تدفع المجتمع إلى الحرية، الكتابة هي الحرية.
معركة الرقيب الداخلي والمبدع تتطلب رصاصة واحدة في مسدس موضوع على الطاولة، أحدكما سيخطف الرصاصة ويطلق الرصاصة أولا، ربما تموت أنت وربما يموت الرقيب، لكن في كل الأحوال، ستعيش أو تموت حرا.
نصوص تمشي على الأرض
تستطيع إيزابيل الليندي أن تكتب خطابا باللغة الإنجليزية، لكنها لا تستطيع أن تكتب رواية بها، لماذا؟ لأن الكتابة لا تأتي إليها إلا باللغة الإسبانية. لماذا مرة أخرى؟ تجيب بأن «كتابة الخيال تحدث في الرحم، ولا تتم معالجتها في الذهن حتى تشرع في المراجعة والتصحيح. ولكن رواية القصص تأتي إلي بالإسبانية؛ الأمر يشبه ممارسة الحب، لا أستطيع أن أعشق بالإنجليزية، الأمر لا يحدث بهذه الطريقة.»
يمكن بهذه الطريقة أن نقول إن الكتابة هي جزء من التكوين الأساسي للكاتب، هي إعادة صياغة لأفكاره وهمومه وطفولته وأحلامه وكوابيسه وقراءاته وثقافته، إعادة ترتيب للغرف المغلقة والحميمية في ذاكرته، وهنا يمكن أن نستعير قول يوسا إن «الروائي يغتذي على نفسه مثل الكاتوبليباس؛ ذلك الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطون في رواية فلوبير.» وهو ما يذكر بقول ماركيز أيضا: «لم أكتب شيئا إلا حول ما عرفته عن أشخاص شاهدتهم.» رغم كم الواقعية السحرية في كتابته. وإيزابيل تكتب بالإسبانية لأنها اللغة التي أجادتها صغيرة، وكونتها ثقافيا وفكريا، وإذا كان الكاتب هو نتاج بيئته ومجتمعه، فإن الكتابة هي نتاج تكوين الكاتب نفسه؛ لذا يكتب الكاتب عادة ما يعرف، حتى لو كان ما يكتبه خيالا محضا، لكن ثمة بداية لهذا النص أو ذاك تبدأ من مشهد حقيقي، ذكرى عبرت في الخيال، صارت سطرا فصفحة فنصا طويلا.
وربما يكون السؤال الأكثر شهرة في الحوارات الثقافية مع الروائيين، عن المساحة ما بين الذاتي والمتخيل في نصوصهم، وهناك إجابات مختلفة يعتمدها كل كاتب للدفاع عن نفسه في هذه الحالة (كأن الأمر تهمة)، منها مثلا أن هناك شخوصا حقيقيين لكن الأحداث مختلفة، أو أن هناك خيطا واحدا حقيقيا في النص، أو أن الأمر بأكمله متخيل، «وأي تشابه بينه وبين الواقع من قبيل المصادفة»، لكن لا يذكر الروائي في الإجابة الأخيرة أن هناك لمسة من الواقع كانت هي الباب الذي دفعه ليدخل إلى عالم الخيال، ولهذا - مثلا - نجد هذا الحضور المكثف لعالم الجاز مثلا في روايات هاروكي موراكامي؛ لأن ذلك كان جزءا من تكوينه وثقافته الشخصية؛ ولهذا السبب أيضا يعتقد خوليو كورتاثر أنه «غير قادر على تخيل شخصية سوداء اللون؛ لأن هناك سياق عرقي وثقافي يلعب دوره، إن كان أفريقيا أسود، أو واحدا من الذين يعيشون هناك، فليست لدي أدنى فكرة عن رؤيته للعالم.»
سؤال «من أين تأتي الكتابة؟» لا يسأل عن طرق تكوين «الموهبة»، لكنه يسأل عن تلك الحروف والأسطر السوداء التي تملأ الكتب؛ من أين يتكون هذا العالم؟ ويمكننا أن نعتبر الكتاب أنفسهم هم الإجابة، يمكننا أن نعتبرهم نصوصا تمشي على الأرض ، أجولة من البذور - إذا جاز التعبير - تنبت أشجارا. ليس بالضرورة أن يكون من مر بأقسى التجارب الأكثر موهبة، فهذا الأمر لا علاقة له بالكتابة؛ لأن هناك فنيات وآليات أخرى في الأمر أهمها الموهبة، بل يمكن أن يكون الأقل تجربة هو الأفضل؛ لأنه عرف كيف يعتني بأشجاره، وكيف يختار جانبا يخصه، وكيف دخل من باب لم يلجه أحد قبله.
الكتابة متعلقة ب «المشاعر»، كما قالت إيزابيل؛ لا تستطيع أن تعشق بطريقة أخرى غير هذه الطريقة، لا تستطيع أن تكتب إلا إحساسا كامنا، ربما يدفعك فيما بعد إلى تغيير العالم الحقيقي إلى عالم متخيل. مهمة الكاتب إذن هي إعادة تشكيل العالم، إعادة صياغته ليكون أفضل، خلق العالم الموازي الذي كان يحلم به، إكمال الجمل التي بدأت في الحياة الحقيقية ولم تكتمل، شفاء المرضى، وإعادة بصر العمي، وإحياء الموتى الذين عجز الطب عن فعل ذلك معهم. من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتابة بابا للانتقام أيضا، من الأشخاص السيئين الذين يتحولون إلى حيوانات وزواحف في النصوص. الأمر كله متعلق بما علق من الماضي في الذاكرة ولا يزال يتردد ويطارد الكاتب حتى يكتبه، أو يتخلص منه.
وصف موراكامي الماضي بأنه «صندوق الكنز»، وقال خلال مقابلة معه في دار كنوبف الأمريكية التي نشرت روايته «تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه»، واصفا مشاعر بطله تسوكورو بأنها مشاعر «من يرمى من على سطح سفينة في البحر وحيدا في الليل. فأردت أن أكتب عن مثل هذا الإحساس.» وأضاف موراكامي: «ما كتبته ملفق، ولكن المشاعر صادقة.»
وإذا اتفقنا أن الكتابة تخلق عالما موازيا، أو تكمل العالم الأصلي، يمكننا أن نفهم هذا الحوار الذي دار بين ماركيز وأحد الصحافيين.
الصحافي :
كيف تصف أدبك بأنه أدب الحياة والحقيقة، وأنت الذي جعلت إحدى شخصياتك تطير في الهواء ناقضة قانون الجاذبية؟
ماركيز :
لكن هذا موجود.
الصحافي :
وأين هو موجود؟
ماركيز :
من أين جئت به أنت؟
الصحافي :
من روايتك.
ماركيز :
أوجدته في الرواية؟
الصحافي :
أجل.
ماركيز :
ألم أقل لك إنه موجود في مكان ما؟!
هذه ليست إجابة سفسطائية أو ساخرة، ولكنها تعبير عن دور الأدب الحقيقي، في إكمال العالم وإصلاحه، وخلقه وإيجاده؛ فماكوندو القرية الأسطورية التي صنعها خيال ماركيز استلهمها من بلدة أراكاتاكا، التي تقع بإقليم ماجدالينا، التي ولد بها. لا إجابات شافية لكل أسئلة الصحافيين المكررة، ولا للأسئلة المطروحة في هذا المقال؛ لأنه لا إجابة شافية للفن، ربما يحمل الفن ذاته الشفاء، لكن مم؟ من الحياة؟ ربما! لكن ما أريد قوله هو أنه إذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن الأدب يكتب التاريخ المفترض حدوثه، يكتب العالم كما يجب أن يكون، والذين أوكل الله إليهم هذه المهمة يأخذون قطع الصلصال من الأرض ويعيدون تشكيلها مرة أخرى، حتى إنك لا تصدق أن هذا الصلصال الجميل خرج من هذه الأرض القاسية.
من قتل الشعراء؟
توصل بحث إحصائي لأستاذ علم النفس المساعد في جامعة كاليفورنيا «جيمس كوفمان»، خلال عام 1987، عن علاقة المبدعين بالموت، من ثقافات وبلدان مختلفة، إلى أن متوسط أعمار الشعراء 62 عاما، وكتاب المسرحية 63 عاما، وكتاب الرواية 66 عاما، وبقية الكتاب 68 عاما، وأن الشاعرات هن الأكثر عرضة للإصابة بالمرض النفسي قبل موتهن أو انتحارهن.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني - بحسب الإحصاء الذي تقصى أعمار الشعراء خلال الفترة من عام 390 حتى أواخر القرن العشرين - أن الشعراء هم الأقصر عمرا، هم الذين يخطفهم الموت أولا، قبل أن يلتفت إلى الباقين، هم الذين يقولون ما لديهم وهم يعرفون أنهم به يستفزون الموت. والدراسات التي تحدثت عن الموت المبكر للكتاب، أو إيداعهم المصحة النفسية قبل رحيلهم، أو اتخاذهم قرارا بمغادرة الحياة انتحارا؛ كثيرة. لكن المؤكد أن ثمة علاقة غامضة بين الموت والشعر تحديدا، واللافت أيضا أنه على الرغم من مغادرتهم الحياة مبكرا فإنهم تركوا آثارا شعرية لا تزال من عيون الشعر، وكأنهم أرادوا أن يقولوا كل ما لديهم خلال الفترة القصيرة التي سمحت لهم الحياة بها؛ فخرجت القصائد كأنها قطعة من العذاب أو قطعة من الجحيم، إذا استحضرنا روح «رامبو». ولدينا في شعرنا العربي نماذج كثيرة؛ أقربها: أبو القاسم الشابي، وأمل دنقل ، وصلاح جاهين، وأسامة الدناصوري. وربما تجدر هنا الإشارة إلى الأنطولوجيا الشعرية التي أعدتها الشاعرة اللبنانية جمانة حداد قبل سنوات، بعنوان «مائة وخمسون شاعرا انتحروا في القرن العشرين»، وذكرت فيها خمسة عشر شاعرا عربيا، ربما يبدو أشهرهم الشاعر اللبناني خليل حاوي.
وتتبع تاريخ أشهر شعراء العالم الذين رحلوا عن الحياة مبكرا أو انتحارا، يبدو مثيرا للدهشة والتساؤل فعلا، وإذا كنا قد أشرنا في مقال سابق إلى بعض الشاعرات اللائي اخترن الانتحار طريقا للموت؛ مثل: «سيلفيا بلاث» التي اختارت أن تنهي حياتها بأن وضعت رأسها في فرن البوتاجاز المشتعل، أو «آن ساكستون» التي انتحرت في سن السادسة والأربعين. فإن هناك حالات أخرى تؤكد لنا أنه بقدر الموهبة يكون الألم، ويكون العذاب، ويكون الجنون، ويكون الموت.
ف «بول فرلين» الذي أطلق على صديق عمره «رامبو» رصاصتين لأنه أخبره أنه سيتركه ويرحل وأودع السجن بعد ذلك؛ خرج مريضا بتلف في الدماغ، ومرض السكر، وتقطع في ضربات القلب، وتليف في الكبد، والتهابات جلدية معدية، وتصلب في شرايين الساق اليسرى، والتهاب الرئة؛ قبل أن يدخل مستشفى الأمراض النفسية، قبل أن ينهي الموت حياته القصيرة البائسة. أما الشاعر «جيرار دو نيرفال» الذي دخل المصحة النفسية أيضا؛ فقد اختار أن يضع حدا بيده لحياته عندما توجه إلى ساحة «شاتليه» بباريس، وعلق نفسه في شجرة هناك ليموت مشنوقا في ساحة تحمل اسمه الآن، وهو قريب مما فعله الشاعر الروسي «ماياكوفسكي» الذي أطلق النار على نفسه في غرفته وهو ما زال في العقد الثالث من عمره. أصغر الشعراء رامبو حاول أن يفر من الشعر ومن الموت الذي يحمله الشعر؛ فارتحل إلى أفريقيا واليمن، وعمل تاجر سلاح ورقيق، لكن الموت جاءه على هيئة سرطان نهش ساقه حتى بترت، قبل أن يقضي عليه تماما.
لكن لم يكن الانتحار هو سبيل الموت لدى الشعراء العرب القدامى، بل كان الشعر هو الطريق، وكانت الكلمة مرادفا للسيف. ولعل الجميع يعرف حكاية بيت الشعر الذي قتل صاحبه، ويقصد به «المتنبي»؛ إذ قطع طريقه - أثناء عودته إلى الكوفة بعد مدحه عضد الدولة البويهي في شيراز - أعراب من بني ضبة بقيادة «فاتك الأسدي»، وكان المتنبي قد هجا ضبة بشعر مقذع وسب أمه؛ فدار قتال شديد بينهم وبين المتنبي وابنه وغلامه، وأراد المتنبي أن يفر، ولكن غلامه قال له: كيف تفر من المعركة وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فرجع للقتال وقاتل حتى قتل.
أما صاحب إحدى أشهر المعلقات، وهو «طرفة بن العبد»، فقد قتل وهو لم يزل في السادسة والعشرين من عمره، بعد أن هجا الملك «عمرو بن هند»، فأعطاه عمرو رسالة - ولم يكن طرفة يعرف القراءة - إلى عامله على البحرين جاء فيها: «إذا جاءك حامل الرسالة فاقطع رأسه.» وهو ما حدث. وهناك حوادث كثيرة شبيهة قتل الحكام فيها الشعراء، مثلما حدث مع الحلاج وابن الرومي ووضاح اليمن وبشار بن برد ودعبل الخزاعي، والمهلهل الذي قال فيه امرؤ القيس:
ومهلهل الشعراء ذاك الأول
وإذا كانت الكلمة أو القصيدة هي السبب في مقتل شعراء العرب القدامى، فإنها كانت وراء مقتل بعض شعراء الغرب المحدثين، مثل الشاعر الإسباني «فيديريكو غارثيا لوركا»، الذي مات وهو في السابعة والثلاثين من عمره، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية بين الملكيين والجمهوريين على يد نظام الجنرال فرانكو، ويقال إنه أعدم رميا بالرصاص.
أما «بابلو نيرودا»، فبعدما قتل جنود الجنرال أوغوستو بينوشيه الرئيس «سلفادور الليندي»، ذهبوا إلى بيته، وعندما سألهم نيرودا عن الذي يريدونه، قالوا له: «جئنا نبحث عن السلاح في بيتك.» فرد قائلا: «إن الشعر هو سلاحي الوحيد.» ثم توفي بعدها بأيام، لكن عاد نيرودا مؤخرا للأضواء مرة أخرى بعد أن نبش رفاته لمعرفة ما إذا كان مات بالسم أم بالمرض.
أما الشاعر الروسي العظيم «ألكسندر بوشكين» الذي مات في الثامنة والثلاثين من عمره، فقد كانت وفاته هكذا: ظهر 26 يناير من عام 1837، في غابة من ضواحي «سان بطرسبورغ»، وقف أمام البارون «جورج دانتس» يحمل كل منهما مسدسه في مبارزة حاسمة، قبل أن يطلق الضابط رصاصته لتخترق معدة الشاعر الذي هوى على الثلج ، ومات بعدها بيومين.
هناك عشرات الحكايات عن موت الشعراء الغريب والمبكر والفجائي، والذي كان الشعر فيه حاضرا بقوة؛ حاضرا كشاهد وكمحرض وكدافع، وأحيانا كقاتل! هل يقتل الشعر شاعره؟ هل يدفعه إلى الموت؟ هل تدور الكلمات في رأسه مثل طاحونة فتدفعه للجنون؟ هل يصبح مثل الزيت المغلي الذي يصب على الحياة فيصهرها حتى تختفي تماما؟ من قتل الشعراء؟ ربما يمكن اعتبار الشعر هو المتهم الأول في معظم ما فات، لكن ما أجمله من قاتل! ما أروع كلماته ودبيبه في الجسد! ما أشهى خنجره الذي تسيل منه الكلمات والدم! نتقدم نحوه بابتسامة واسعة، وأحضاننا مفتوحة على اتساعها؛ فلا نامت أعين الجبناء.
عزيزي القارئ ... من أنت؟
يجلس الصحافي على المقهى أمام الكاتب، وبينهما فنجانا قهوة وجهاز تسجيل، ثم يسأل: لمن تكتب؟ يصمت الكاتب قليلا، يرفع عينيه إلى السماء، ثم يهبط بهما إلى مقدمة حذائه، ثم يجيب في حكمة: أكتب لنفسي.
الإجابة السابقة لا تخص أحدا بعينه، لكنها الإجابة التي تتناثر بتشكيلات لغوية مختلفة في حوارات عدد من الكتاب، ربما أكون منهم. وكأن من العار أن يكتب المبدع لقارئ، كما أن الحديث عن هذه الإجابة ليس تكذيبا لهؤلاء الكتاب الذين يقولون ذلك بكل صدق، وإنما استدعاء لإشكاليات متعددة، ربما تبدأ بالتصور النظري للكتابة، ولا تنتهي عند ظاهرة «البيست سيلر».
الإجابة السابقة تطرح أيضا القضية الأكثر إشكالية، وهي «الكتابة الشعبوية» التي تبحث عن قارئ، والكاتب الذي يكتب لفئة محددة وينظر إلى الباقين من عل، رافضا الهبوط إليهم من برجه العالي. الجملة السابقة أيضا لو فسرت بحروفها وكلماتها فقط، لكانت حقا يراد به باطل؛ فليس كل كاتب شعبوي جيدا، وليس كل كاتب (يكتب لنفسه) يجلس في برج عاجي، والكتابة لجمهور ليست تهمة، كما أن الكتابة لفئة معينة من القراء ليست سبة أيضا.
تيد كوزر (ولد عام 1939م) هو أحد أبرز الشعراء الأمريكيين المعاصرين، ينشر صوره على أغلفة دواوينه وهو يرتدي زي عامل أو مزارع، وقصائده تدور في هذا الإطار أيضا: نصوص من الواقع المعيش عن مشاهدات يومية من دون أن تقع في التسطيح والخفة، وهو ما جعل النقاد يعتبرون شعره شعبيا، لا بالمعنى الجماهيري، بل بالارتباط بيوميات الناس العاديين من دون «التفلسف» عليهم أو عرض عضلات لغوية أو تباه بصعوبة تعجز القارئ، كما يرى بعض من ترجم شعره.
والحقيقة هو كذلك بالفعل؛ فتيد كوزر يعيش في مزرعته مع زوجته وكلبيه، ولا علاقة وثيقة له بعالم المثقفين وأصحاب القرار المؤثرين في ذائقة الناس. ومع ذلك استطاع أن يحوز شهرة حين عينته مكتبة الكونجرس عام 2004م «شاعر أمريكا المتوج»، قبل أن يثبت موقعه على الساحة الأدبية بنيله جائزة «بوليتزر» عام 2005م.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن القارئ الذي يتوجه إليه «شاعر أمريكا المتوج» تيد كوزر، موجود بالفعل في مخيلة الكاتب، وأن إقراره بذلك - بأنه شاعر شعبوي - لم يقلل من شاعريته أيضا، بل إنه في قصيدته «إلى قارئة» يعترف بأنه يكتب والقارئ الفقير - الذي يفضل شراء الخبز على شراء كتاب - في باله.
الأصل في الأشياء أن ثمة علاقة أزلية بين المبدع والمتلقي؛ ولهذا كان شعراء المعلقات في العصر الجاهلي يعلقون قصائدهم على الكعبة - ولهذا سميت المعلقات - حتى يقرأها الناس. الأمر في جزء منه هو بحث عن القارئ بقواعد ذلك الزمن، وافتخار ب «البيست سيلر» بقواعد ذلك الزمن أيضا.
كان سوق عكاظ يقال فيه الشعر: الرديء والحسن منه، وعلى المستمع/القارئ/المتلقي أن يحكم، وكان الشاعر هو المتحدث الإعلامي باسم القبيلة، يفتخر بها وبأنسابها وببطولتها، ويغير على الأعداء «شعرا». إذن بدأ الشعر/الأدب شعبويا ينطلق من فم الشاعر إلى أفواه وآذان المتلقين. بالتأكيد تطور التلقي فيما بعد كما تطور الشعر، ولم يعد هناك خليفة يمنح الشاعر صرة من الدنانير كي يزيد من مدحه. تغيرت أغراض الشعر والإبداع عموما، لكنه لم يفقد علاقته بالمتلقي الذي يسعى إليه، فحتى أكثر الكتاب نخبوية يسعى إلى طباعة كتبه وتوزيعها بيده إذا لزم الأمر، وصارت هناك فنون تعتمد في وجودها على وجود جمهور بالأساس، كالمسرح والسينما، وحتى الراوي الذي كان يدور في المقاهي القديمة ليحكي السير الشعبية .
إذن الإشكالية هنا ليست في المتلقي بقدر ما هي في أدوات السوق وأذواقه التي صارت أكثر رداءة وسعيا للربح السريع على حساب الجودة، والتي أثرت في أذواق بعض المتلقين فجعلتهم لا يميزون الغث من السمين، والجيد من الرديء، وصار هذا البعض يفضل كتب الإثارة على الروايات التي تقدم إبداعا حقيقيا، ولهذا أسباب كثيرة تتعلق بمعطيات العصر وغياب الدور التثقيفي للدولة، وانهيار التعليم، وعشرات الأسباب التي تحتاج إلى مقالات كثيرة لمناقشتها.
تحكي الشاعرة المصرية إيمان مرسال أنها كانت طوال الوقت تعتقد أنها تكتب لنفسها فقط، حتى جاء يوم كانت تبحث فيه عن مجموعة قصائد لها غير منشورة - على «فلاش ميموري» - ولم تجدها، ولحظتها أدركت مرسال الحقيقة، فلو كانت فعلا غير مهتمة بما تكتبه أو غير مهتمة بإيصاله إلى قارئ ما، وأنها لنفسها فقط، أو لإفراغ الشحنة الشعورية؛ لما كانت ستهتم مطلقا بضياع قصائد قديمة.
لكن رغم ذلك يجب علينا ألا نخلط الأوراق فيما يخص القارئ، فإذا سلمنا بضرورة وجود المتلقي في المعادلة، ففي هذه الحالة علينا أن ندرك ما الذي سنقدمه له، وهنا الفارق الحقيقي بين الكاتب النخبوي المبتعد في عليائه، وبين الكاتب النخبوي الذي يسعى إلى تغيير ذائقة القارئ، وفتح مجال جديد للتلقي، وسحب القارئ معه إلى فضاء أرحب وأوسع، وهذا هو ما يقصده فلاديمير نابوكوف بقوله: «إن كان القارئ - على أية حال - يخلو من العاطفة والصبر؛ صبر العالم وشغف الفنان، فمن الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم.»
يقول ساراماغو في حوار معه نشرته «باريس ريفيو» إن «المواضيع المفرطة بالجدية بطبيعتها لا تجذب القارئ، وإنه لأمر محير أنني أحظى بمراجعات ممتازة من الولايات المتحدة.» إذن ربما يستسيغ البعض الكتابة السهلة التي يمكن ببساطة بيعها، لكن الأصعب بالفعل هو أن تجبر القارئ على شراء كتاب لم يتعود على قراءته.
هذا المقال ليس دفاعا عن ظاهرة البيست سيلر، فكثير من الكتب التي توضع تحت هذا التصنيف رديئة وتقع في الاستسهال، وبعضها يصبح هكذا لأنه يتم التسويق جيدا لها ، لكن هذا ليس مبررا لاستباق نجاح أي عمل ناجح باتهامه بالسقوط في الشعبوية؛ فالشعبوية ليست عدو الجودة، كما أن الجودة ليست نقيض الانتشار، وفي ظني أن ثالوثا مقدسا يدير أية عملية إبداعية بأكملها: «العمل الفني، والمبدع، والمتلقي» كل واحد منهم يقوم بدور تحفيزي للآخر؛ لا نستطيع أن نسقط أحد هذه الأضلاع الثلاثة من المعادلة ونقول إنها كاملة. الكاتب يحتاج إلى أن يرى عمله في كتاب/فيلم/أغنية/رقصة/موسيقى؛ لكي يستطيع أن يقدم عملا آخر، بل إن وجود القارئ هو أحد أسباب استمرار وتطور العملية الإبداعية؛ إذ يقوم بعمل المحفز والمقوم طوال الوقت، فمن دون نصوص سابقة، لم يكن من الممكن أن نرى نصوصا أكثر تطورا، لتستمر تروس الآلة الإبداعية في الدوران والتجديد.
عزيزي الكاتب ... كلنا قراء.
الصورة التقليدية للشاعر
في عام 1880 قرر الشاعر الفرنسي آرثر رامبو (20 أكتوبر 1854-10 نوفمبر 1891) الاتجاه إلى الشرق متنقلا ما بين الإسكندرية والحبشة وعدن، مستغلا ما تبقى له من عمر في فعل ما لا يتخيل البعض أن شاعرا يستطيع فعله.
عمل «رامبو» في تجارة السلاح وتجارة العبيد في إثيوبيا، في التهريب وقطع الطرق في السويس، كاتبا في شركة للبن، شيالا في البندقية، عاملا مفتول العضلات على متن سفينة سكر إنجليزية، مغامرا في أفريقيا ... حتى داهمه في عدن ورم في ساقه، فاضطر للعودة إلى فرنسا في مايو عام 1891، لتبتر ساقه، ثم انتشر السرطان في جسمه حتى مات. «رامبو» الذي أسماه الشاعر بول فرلين «الرجل الذي انتعل الريح» أشهر من قرر أن يحطم الصورة التقليدية للشاعر، الصورة المحفوظة في الذاكرة الجمعية، ومع ذلك استطاع أن يكون شاعرا مجيدا.
إذا كنت شاعرا، فلا بد أنك تعرف هذه الصورة التقليدية للشاعر، لا بد أنك قابلت - ذات يوم - شخصا يقول لك إنه كان يكتب الشعر «أيام الثانوية» وتوقف، أو أن لديه «كراريس وكشاكيل» ممتلئة بمثل هذا الكلام. وإذا اشتركت في الملتقيات الجامعية الشعرية، فلا بد أنك قابلت عشرات الأشخاص الذين يكتبون الشعر - أو يظنون أنفسهم كذلك - وإذا مررت من أمام محطة مترو جمال عبد الناصر بالإسعاف بالقاهرة، فلا بد أنك تعثرت مرة في شخص يسأل عن طريقة تسجيل قصائده أو أغانيه في الشهر العقاري «حتى لا يسرقها أحد».
كل ما مضى مشاهد محفوظة يعرفها معظم الشعراء، ويدركون معها أن الجميع كانوا شعراء في يوم ما ثم أنقذهم الله. كما تكشف هذه المشاهد عن النظرة الشعبية التقليدية ل «الشاعر» التي تبدأ من صورة أمير الشعراء «أحمد شوقي» الشهيرة وهو يسند وجنته إلى يده، ولا تنتهي عند السؤال الغريب: «طيب إنت بتكتب عن إيه؟» أو «سمعنا حتة حب!» وهي الصورة التي نراها دائما في الأفلام المصرية عندما يكون بطل الفيلم شاعرا، فيكتب قصائد على طريقة اللمبي «الشوق الشوق، الحب الحب، الحضن الحضن»، على حد تعبيره!
لكن هذا لا يمنع أيضا وجود شعراء يؤمنون بالصورة التقليدية للشاعر، الذي يجب أن يجلس في أحد مقاهي وسط البلد، ويدخن النارجيلة ويلعب النرد. ويبدو الأمر بالنسبة إلى البعض الآخر «وجاهة اجتماعية» ليس أكثر، مثلما في بعض المجتمعات القبلية التي لا بد أن يكون كبيرها شاعرا، وبعض الطرق الصوفية أيضا؛ لأن هذا هو المتوارث عن أجيال سابقة.
هذه الصورة خلعها بعض الشعراء مثل «الحلاج» عربيا، والشاعر الفرنسي «شارل بودلير» الذي يتحدث في قصيدة له في ديوان «سأم باريس» عن الشاعر الذي يخلع هالته؛ لأن الأمر بحسب ما يقول «آرثر رامبو»: «يصبح الشاعر رائيا بفعل تشويش طويل، واسع ومدروس لجميع الحواس. ينبغي أن يعرف جميع أشكال الحب والمعاناة والجنون؛ أن يبحث بنفسه عن جميع السموم، ويستنفدها في ذاته، ولا يحتفظ إلا بعصارتها. هي معاناة لا توصف، يلزمه فيها الإيمان كله والقوة فوق الإنسانية كلها، فهو يصبح بين الجميع أعظم مريض، وأكبر مجرم، وألعن ملعون؛ يصبح هو العارف الأعظم.»
وبغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع ما قاله رامبو، ففي ظني أن الشكل التقليدي للشاعر تغير تماما - أو فلنقل: إنه تطور - ومع ثورة ال «سوشيال ميديا» أصبح بإمكان الجميع أن يعودوا شعراء كما كانوا من قبل - بغض النظر عن قيمة ما يكتبون - وأصبح من السهولة بمكان أن يجدوا من يثنون عليهم، من الأهل والأصدقاء والمعارف. وهذا يصعب مهمة الشاعر الحقيقي وسط هذا العالم المفتوح؛ ولذا تجد عشرات الأشخاص على «فيس بوك» ممن يضعون قبل أسمائهم لقب «الكاتب» أو «الشاعر» أو «المبدع»، مع أن الكاتب الحقيقي لا يحتاج أن يوصف نفسه، بل يجب على المتلقي أن يصنف ما يكتبه.
كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في خلق عشرات الكيانات الوهمية المنغلقة على ذاتها من الكتاب الافتراضيين، مع آلاف المعجبين الافتراضيين أيضا، الذين لا يكلفهم الأمر أكثر من ضغطة «لايك». ساهمت أيضا صفحات «فيس بوك» في كسر المسافة ما بين الكتاب الحقيقيين - والمقصود بهم هنا من يقدمون جودة متفقا عليها فيما يكتبون، ولا يسبقون أسماءهم بأية صفة - وقرائهم؛ فأصبح بإمكان القارئ الدخول إلى أي نص لشاعر مشهور، والتعليق أسفله بأنه رديء أو جيد. كما أصبح من السهل جدا التواصل بينهما، وأصبح بإمكان الشاعر أن يكون طيلة الوقت وسط قرائه.
سهل هذا عودة الكاتب إلى الأرض؛ أقصد أنه ساهم في هبوطه من برجه العاجي إلى الشارع، وإلى القراء، وإلى تعليقاتهم، والتي وإن حظيت في معظمها بصيغة المجاملة، فإنها أيضا كسرت الهالة المقدسة التي قد يرسمها بعض الكتاب حول وجوههم.
الأفضل للشاعر دائما أن يكون في الشارع، أن يعود لممارسة دوره الحقيقي كإنسان، دون أن يصنع حاجزا يفصله عن محيطه وعن المتلقين - كما حدث للشعر في بعض الفترات السابقة فابتعد الشعر عن الناس، وابتعد الناس عن الشعر.
وربما أقرب مثال لهذا الشاعرة الأمريكية «دوريان لوكس» التي عملت في مهن عديدة؛ بين طاهية، ومديرة محطة بنزين، وخادمة ... وغيرها من الوظائف. هذه الحياة مكنت «دوريان» التي حازت جائزة «أوريجون» للكتاب من استبصار الطبقات السفلى والحياة المعتمة للفقراء؛ لذا نجد في شعرها هذه التفاصيل، كما نرى تفاصيل حياتها المختلفة من هم وحزن، وانكسارات ونجاحات، وهو الشعر الذي يصل إلى شرائح واسعة من القراء؛ مما يجعله في رأيها شعبويا رغم نخبويته الفلسفية. وتبرر «دوريان» ذلك في حوار معها بأنها: «عاشت حيوات متعددة، عرفت في طفولتها قسوة الحياة العائلية وحنانها، عرفت التشرد، اختبرت الحب واللذة، اختبرت الزواج والأمومة والطلاق، تنقلت بين وظائف كثيرة جعلتها تحتك بالطبقات السفلى والوسطى من المجتمع؛ أي إنها نمت لديها إحساسا عميقا بذاتها، كما بالآخرين، لا بمعنى التضامن العام إزاء قسوة شروط الحياة، بل بمعنى الفهم العميق للفرديات المتمزقة والقلقة، للآلام الداخلية الخاصة، لأشكال العزلة، للمطالب البسيطة التي تبدو إزاء تعقيدات الحياة اليومية مستحيلة»، وهو ما يشكل ذاتها الشعرية.
يقول الفيلسوف الدنماركي «سورين كيركجور» إن الشاعر «هو رجل تعيس، يكتم غما عميقا في قلبه، إلا أن شفتيه مطرزتان للغاية؛ مما يحول عويله وبكاءه إلى موسيقى فاتنة. فقدره كقدر الضحايا البائسين الذين سجنهم الطاغية «فالاريس» حينما كانوا يتعذبون على نار رصينة؛ لا تصل صرخاتهم إلى أذنيه كوقع مرعب في قلبه، بل تصل لهما كلحن نقي.»
لا أقصد بهذا أن على الشاعر أن يعذب نفسه أو يصبح تاجر سلاح مثل «رامبو»، لكن ما أقوله هو أن الناس هم مصدر الشعر الحقيقي، والدخول في صراعات الحياة من شأنه أن يصنع شاعرا مختلفا. على الشاعر أن يعرف أنه مسئول عن هذه الحياة، عن توثيقها شعرا، ليس عليه أن ينفصل عنها، بل يجب عليه أن يذوب فيها؛ حتى يصبح مثل حبة رمل وسط صحراء، تعرف كيف ترى ما حولها، وترصد، وتكتب، دون أن يسبق اسمها لقب «الشاعرة: حبة الرمل».
لماذا يا روبن؟
1
كانت حالة الحزن التي عمت الجميع على رحيل الفنان الأمريكي روبن ويليامز (الذي انتحر يوم 11 أغسطس 2014) مفاجئة للجميع، ربما لأنهم لم يتوقعوا أنهم يحبونه لهذه الدرجة، حتى الذين شاهدوا له فيلما واحدا أصابتهم نفس الحالة بسبب رحيل الرجل، حتى الذين كانوا يعرفون صورته فقط، شعروا في ملامحه بعضا ممن يعرفونه.
لم تكن هذه هي الحالة الأولى؛ فقد تكرر الأمر من قبل عند رحيل الفنان الأمريكي سيمور هوفمان، الذي كان انتحاره مفاجئا للجميع، وملأت صوره صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وقبله حدث الأمر ذاته مع الممثل هيث ليدجر، والمدهش أنهم جميعا لم يكونوا من أبطال الصف الأول، وهو ما تكرر قبلهم مع كثيرين من الذين قرروا الانتحار وترك العالم بإرادتهم، دون أن يدركوا كم هم مؤثرون، وكم تركوا خلفهم من ملايين المحبين في شتى بقاع الأرض!
2
في ندوة أخيرة، سألني أحد المشاركين السؤال المتكرر: لماذا تكتب؟ وقلت إجابتي التي أكررها كثيرا أيضا: إن الكتابة هي الحياة بالنسبة إلي، وإنني في اللحظة التي سأتوقف فيها عن الكتابة ستنتهي الحياة بالنسبة إلي، كأن مداد القلم هو الدم بالنسبة إلي، وقلت أيضا إنني أكتب ربما لقارئ في القطب الشمالي في الجانب الآخر من القارة، قد يتأثر بما أكتبه، ربما لفلاح في الريف، أو طفل في الصعيد، أو مراهق في سيبيريا، أو أرملة على مقربة من غابات الأمازون قد تهدي لها كتابتي جزءا من الحياة والأمل، أكتب دائما من أجل هذا القارئ المجهول الذي لا أعرفه ولا أظنني سألتقيه أبدا، لكن ربما كانت كتابتي كلها معلقة من أجل سطر واحد سيقرؤه لي، وسيغير شيئا في حياته للأفضل، تماما كما قرأت لكتاب عالميين لم أعد أذكر أسماء بعضهم، لكنهم أثروا في، ودفعوني لاتخاذ قرارات، ربما من دونهم ما كنت لأتخذ تلك القرارات.
قلت إن كل قراءة للنص هي إضافة جزء من الحياة إليه، كل قارئ يضيف جزءا من روحه إلى النص فيظل النص حيا حتى لو رحل كاتبه، تماما كما يضيف الكاتب/الفنان جزءا من روحه إلى عمله فتتناثر روحه في أرواح من قرءوا أو سمعوا أو شاهدوا النص.
لماذا أروي هذا الكلام؟ ربما لأن هذا هو تفسيري لحالة الحزن الشديدة على روبن ويليامز التي ما زالت مستمرة، ربما لأننا جميعا نشعر بالامتنان لروبن الذي ترك قطعة من روحه في كل عمل قام به، فشعرنا أننا أمام شخصيات حية. لا يعرف روبن هؤلاء الملايين الذين أصيبوا بالحزن عليه، لا يعرف ذلك المراهق في سيبيريا، ولا العجوز في جنوب أفريقيا، ولا الأرملة في إندونيسيا الذين اكتئبوا حزنا عليه، لكن هذا هو دور الفن الحقيقي، الذي يجمع الجميع حول نص نؤمن أنه كتب بإتقان، وخرج إلى الناس كما يجب أن يكون، فتشعر أن الكاتب جزء من حياتك أو من عائلتك.
جزء من حالة الحزن على روبن، على ذلك الأثر الذي تركه من قبل في نفوسنا؛ لأننا أدركنا وقت مشاهدتنا لتلك الأعمال أنه صادق. والفن الصادق لا يموت، حتى لو مات صاحبه.
3
لا أبحث عن مبررات لانتحار روبن، تماما كما لم أبحث عن مبررات من قبل لرحيل هيث ليدجر، وسيمور هوفمان، وصلاح جاهين، وداليدا، وإرنست همنجواي، وفرجينيا وولف، وفان جوخ؛ فهناك الآلاف ينتحرون بشكل دائم. هناك دوما من يقرر قطع علاقته بهذا العالم الذي لم يعد يستحق معاناة العيش فيه؛ بحثا عن عالم آخر. لكن ربما لأن المشاهير يصيرون جزءا من حياتنا يصير الأمر مختلفا.
حياة الفنان مختلفة حتما؛ فهو يعيش بمشاعره، يكتب ويغني ويمثل بمشاعره، يعيش على حافة العالم بهذه المشاعر التي تجعله في أية لحظة على أهبة السقوط، إذا أصيبت هذه المشاعر بإحساس بعدم التقدير أو فقدت الاهتمام بها فقد تنهار في أية لحظة، تماما كما حدث مع فيرجينيا وولف التي أصيبت باكتئاب بعد أن كتبت روايتها الأخيرة، وزادت حالتها سوءا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وتدمير منزلها في لندن، والاستقبال البارد الذي حظيت به السيرة الذاتية التي كتبتها لصديقها الراحل روجر فراي، فقررت أن ترتدي معطفها وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها، بعد أن تركت رسالة لزوجها قالت فيها: «عزيزي، أنا على يقين بأني سأجن، ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة. لقد بدأت أسمع أصواتا وفقدت قدرتي على التركيز؛ لذا سأفعل ما أراه مناسبا. لست قادرة على المقاومة بعد الآن، وأعلم أنني أفسد حياتك، ومن دوني ستحظى بحياة أفضل. أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ.» ولا يختلف معنى الرسالة عن تلك التي وجدت بجوار داليدا وكتبت فيها: «الحياة لا تحتمل ... سامحوني.»
الشاعرة سيلفيا بلاث التي انتحرت في الثلاثين من عمرها بأن فتحت الغاز ثم حشرت رأسها في الفرن ووضعت مناشف مبللة تحت الأبواب لتكون حاجزا بين المطبخ وبين غرف أطفالها، تقول في قصيدة أخيرة لها: «لا أستطيع الحديث معك، فقد علق لساني بفكي.» أما صديقتها الشاعرة آن ساكستون التي انتحرت في السادسة والأربعين من عمرها، فتقول في قصيدة لها: «حتى وإن لم يكن لدي شيء ضد الحياة، فأنا أعرف جيدا شفير الأعشاب التي تذكرون، ذاك الأثاث الذي وضعتم تحت حرقة الشمس. الانتحارات لها لغتها الخاصة. تماما مثل النجار، يريد أن يعرف كيف يستخدم الأدوات، لكنه لم يسأل مطلقا لماذا يبني!»
هذا ليس دفاعا عن المنتحرين، وليس بحثا عن مبررات لهم، لكن بقراءة نصوصهم الأخيرة، وبالاطلاع على تفاصيل حياتهم يمكن أن ندرك كم يعانون، بعيدا عن الصور المبهرة لهم كفنانين، ومع عيشهم بمشاعر حادة كحد السكين، يصبح أقل شيء مبررا للاكتئاب والموت، مبررا للسقوط من أعلى الهوة المسماة بالحياة، حتى الشعور بأنهم لن يستطيعوا تقديم المزيد وأنهم أدوا مهمتهم في الحياة، تماما مثل روبن الذي أصيب بالشلل الرعاش قبل وفاته، فلم يكن يستطيع أن يفعل شيئا، سوى أن يوثق حياته بالانتحار، كأنه عمله الفني الأخير.
هنا لا أقول: لماذا يا روبن؟ بل: أنت ما زلت معنا يا روبن. تماما مثل الآخرين الذين أودعوا حياتهم في أعمالهم الفنية، ثم غادرونا. فنك هو حياتك يا روبن، فنك هو حياتنا. وداعا يا روبن!
كأننا روحان حللنا بدنا
«سأختار قارئتي امرأة فاتنة، تجيء ماشية ببطء إلى قصائدي، في لحظات النهار الأشد وحدة، قبل أن تغادر البيت، وستكون قد استحمت، وسيكون شعرها مبللا عند العنق، وستأتي مرتدية معطفها الواقي من المطر، وسيكون المعطف قديما ومتسخا، لأنها لا تملك ما يكفي من المال، لكي تضعه في المصبغة، هناك في المكتبة، ستنزع نظارتها الطبية، حتى تجد أحد كتبي، ثم ستعيده إلى مكانه على الرف، قائلة لنفسها: بهذا المبلغ من المال، أستطيع غسل معطفي، وهذا ما ستقوم به.»
هذه قصيدة للشاعر الأمريكي تيد كوزر، ذكرتها في المقدمة ، لأنني أعتقد أنها تلخص فكرة قصيدة الذات في ظني. والتي تقوم على عقد بين شاعر وقارئ يشبهه، مثل تلك القارئة التي تحدث عنها كوزر.
لا يكتب إذن الشاعر نفسه، بل يكتب قارئه، ولا يكتب شاعر «قصيدة الذات» القصيدة لنفسه، بل يكتبها للآخرين، الذين يشبهونه، الذين ملوا مثله من الشعر المغلق، وبحثوا عن قصائد تصف مشاعرهم، وربما يكون هذا المدخل مهما للحديث عن أن قصيدة الذات لا تتحدث عن ذات الشاعر فحسب، بل عن ذاته التي تتقاطع مع ذوات الآخرين.
لم أدرك هذا المعنى، ولم أصل إليه مبكرا، ولا أعتقد أنه نهاية العالم، فكل شيء قابل للتطور والتغيير، لكن ما أذكره أنني في خريف 1990، كتبت قصيدتي الأولى. كانت أقرب ما تكون إلى مرثية لوالدتي التي توفيت في حادثة، وكنت في القصيدة التي أذكرها إلى الآن أتحدث عن ذات ومشاعر الطفل داخلي في ذلك الوقت.
كانت قصيدة سيئة لا ريب بمقاييس الشعر العادية وغير العادية، مجرد كلام مرصوص له ما يمكن تسميته تجاوزا قافية، لكن كان من كتبها طفل في الصف الرابع الابتدائي، وجد طريقة ليقول لأمه من خلالها إنه يفتقدها بعد 5 سنوات من رحيلها، لكن القصيدة كانت بالنسبة إلى ذلك الطفل طريقة استطاع من خلالها فيما بعد أن يقول الكثير مما لا يستطيع الحديث عنه.
كانت التجارب الشعرية التي أقرؤها في ذلك الوقت، يمكن تلخيصها في القصائد الموجودة في الكتب التراثية والتاريخية التي تضمها مكتبة خالي، ومعظمها ينتمي لشعراء العصور العباسية والأموية وصدر الإسلام والجاهلية، أما أحدث القصائد، فكانت تتوقف عند محمود سامي البارودي وأحمد شوقي؛ وهو ما يعني أن كل القصائد جعلت من القافية والوزن شرطا أساسيا لشاعريتها، ومن المديح والهجاء والغزل والوصف والفخر موضوعا لها.
كنت أستغرب وقتها كيف يمكن لشاعر أن يكتب قصيدة ليمدح خليفة، أو شخصا لا يعرفه، أو يصف ناقة في الصحراء، فيما ذاته غائبة عن ذلك تماما، طبعا يمكن تفسير ذلك بقوة الشاعرية وتحليق الخيال. وطبعا كانت تلك الأسئلة قد أجيب عنها من زمن ولم أكن أعلم ذلك . حين انتقلت للدراسة في المرحلة الإعدادية في مدينة مجاورة، فتح أمامي أستاذي الشاعر بهاء الدين رمضان، الذي صار صديقا أفتخر وأعتز به، عالما آخر من الشعر، وجدت أنه يستوعب طاقة شعرية أكبر، ويسمح للذات بالخروج والحديث أكثر. كان ذلك عالم قصيدة التفعيلة ثم النثر بعد ذلك، ومن خلاله تعرفت على عوالم شعراء آخرين، جدد.
كان الأستاذ بهاء وقتها يدرس لي مادة الأدب والنصوص، وكان يشرح لنا في الحصة قصائد عنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم والنابغة الذبياني، والشعر الأندلسي، وبعد أن تنتهي الحصة، يحدثني عن القصيدة الجديدة، التفعيلة والنثر، وأزوره في منزله ليعطيني دواوين لشعراء من جيلي الثمانينيات والتسعينيات، فبدأت كتابة قصيدة التفعيلة.
كان عالما مختلفا، وكتابة مختلفة وجدت أنها تشبهني، وأدين للأستاذ بهاء حتى الآن بأنه دلني على الطريق. بعد أن انتقلت للقاهرة، وشعرت بتضاؤل ذاتي وسط ذوات الآخرين الكثيرة، شعرت بأنني هش في ماكينة عملاقة، بلا شيء يحميني، كانت قصيدة النثر التي ترادف قصيدة الذات بالنسبة إلى التجربة في ذلك الوقت، قصيدة النثر هي الحماية الحقيقة لي، قصيدة الذات هي التي تجعلني أستطيع أن أقف وأقول للبنايات العالية المحملقة في، وفي زحام المترو والحافلة: ها أنا ذا، كانت قصيدة الذات، هي بمنزلة حبل الإنقاذ، قبل أن أتحول إلى لاشيء، تدهسني المدينة مثلما تفعل مع الكثيرين كل يوم.
يمكن القول، إنني بدأت البحث عن القصيدة التي تمثلني، القصيدة التي تشبهني، قرأت عشرات بل مئات التجارب، المصرية والعربية والمترجمة، للإجابة عن سؤال القصيدة. وما هي القصيدة، من أين تنبع الشاعرية؟ وربما كانت الإجابة في كلمة واحدة، أقرب إلي من حبل الوريد: الذات.
ثمة أشياء هنا لا بد من التنويه إليها، أولها أن الكتابة عن الذات، كما أتخيلها، لا تعني الانكباب على النفس، وكتابة جملة مغلقة، لا يفهمها حتى من يكتبها، بل هي الانفتاح على الآخر؛ حيث الهم الممتد بطول وعرض الكرة الأرضية؛ الألم الذي ألمسه في صدر طفل في غابات أفريقيا، وأرملة في فيضان الهند، وعجوز في إعصار الفلبين؛ الألم الذي يجمعنا كلنا هو الذات، الذات المفردة بصيغة الجمع.
الوصول إلى هذا المعني يعني المرور بتجارب آخرين، ولعلي هنا أستحضر ما ذكره الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك، حينما ذكر أنه بدأ كتابة الشعر «حين رأيت أن الفتيات الجميلات ينجذبن إلى الفتيان الذين يكتبون لهن القصائد الحزينة»، لكن مع الزمن تبدلت أسباب الكتابة لديه، فيقول في أحد حواراته ويعدد ذكر أسماء الشعراء المعاصرين الذين تأثر بهم في بداية حياته الشعرية من أمثال إليوت وباوند، إن الشاعر الذي وجد علاقة خاصة به في بداية حياته الشعرية كان هارت كراين؛ وذلك بسبب الغموض في شعره، ويوضح «شعرت أن هذا الشعر العصي تماما على الفهم هو شكل أرقى من الشعر»، وبدأ وقتذاك يقلد كراين «مستعينا بكل الألفاظ الصعبة الممكنة من قاموس المترادفات حتى أصل إلى مرحلة لا يمكن لأحد، بما فيهم أنا، فهم شيء من القصيدة.» لكنه يضيف: «الحمد لله أن هذه القصائد لم تعد موجودة.»
سيميك الذي أصدر أكثر من 20 مجموعة شعرية، تتميز بالبساطة والوضوح والعمق، وصل إلى هذه القناعة بعد تجربة الغموض، لتدور قصائده في النهاية حول الذات، وحول التفاصيل الصغيرة حولنا التي قد لا تلفت نظر أحد، مثل الشوكة، والملعقة، لكن تجربته التي ذكرها سابقا، ربما تشبه تجربة القصيدة المصرية، التي بدأت عمودية، ثم تفعيلة، ثم مرت بمرحلة الغموض الملغز في بعض الأحيان، مع بعض شعراء السبعينيات، ثم لتنفتح على العالم وعلى ذاتها في الأجيال التالية.
الشيء الثاني الذي أود التنويه إليه، هو أن الأمر لا يعتمد فقط في قصيدة الذات على كتابة قصيدة ذاتيه، بل على استحضار صور شعرية خاصة بتلك الذات، وهنا أستحضر مقولة الشاعر الأمريكي إيه آر أمونيز «كان ذلك حين توفي أخي الذي يصغرني بسنتين ونصف، ولم يكن تجاوز السنة ونصف السنة، وجدت أمي بعد أيام قليلة من موته آثار قدميه في الباحة، وحاولت بناء شيء حولها لتقيها هبوب الريح، تلك هي الصورة الشعرية الأقوى التي عرفتها»، فحتى الصورة الشعرية تخلت عن ردائها القديم ولم تعد تشبيه الحبيبة بالقمر، والأعين بأعين الغزلان، الصورة هنا هي ذاتك، أو انعكاس ذاتك على الأشياء التي تحيط بك، هي التي تمس قلب قارئك الذي لا تعرف أين هو الآن، وتجعله يشعر أن هذا حدث له وأنه رآه.
الشيء الثالث الذي أود التنويه إليه، هو أن قصيدة الذات كان من الضروري أن تصعد مع صعود ذات الفرد في العصر الرقمي الذي نعيشه، فمع دخول عصر الفرد وبعد أن أصبح حاضرا في كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وأعني به، مع انتشار الإنترنت، بداية من عصر التدوين والصحفي الشعبي وانتهاء بمواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع التي تتيح للقراء العاديين التعبير عن ذاتهم والكتابة، وإمكانية تعليق القارئ على قصيدة أو قصة ومعارضتها لو استخدمنا المصطلح التراثي في نفس الوقت، هذا التواجد المكثف كسر جزءا من الهالات المقدسة للأشياء، ليس فقط في عالم السياسة، الذي جعل الأفراد للقيام بثورات شعبية أطاحت بديكتاتوريات ظن بعضها أنه خالد فيها، بل انعكس على التواصل والكتابة، وعزز من مفهوم الذات بشكل أكبر، وساهم في انتشار الكتاب الجدد، بكتابتهم الجديدة، وأصبحت الذوات أكثر قربا وتشابها، ورغم البون الشاسع بين بعض هذه العوالم على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا فيس بوك، فإن الأمر يبدو جديرا بالدراسة والمتابعة، وهو ما حول محمود درويش في النهاية لشاعر شعبي، ولا سيما بعض قصائده التي يمكن اعتبارها قصائد ذات، وجعل شعراء آخرين يكتبون ذواتهم نجوما لدى فئة لم يكن متخيلا في يوم أنها ستهتم بالقراءة، وقراءة الشعر تحديدا.
صعود نجم الذات، في عالم الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، عزز من كتابة الذات، التي صارت توزع الهم المشترك على الكثيرين، ويتناقلونها، كأنها تعبر عن حالتهم. ورغم وجود الكثير من «الغث» بين هذا، فإن هناك «السمين» أيضا الذي يدعو بقوة لدراسة هذه الظاهرة.
الأمر الأخير الذي يبدو من المهم التنويه إليه هو سؤال: هل تستطيع قصيدة الذات أن تعيد جمهور الشعر إليه مرة أخرى؟ يبدو هذا هو السؤال الأهم الذي قد أكون أجبت على جزء منه في النقاط السابقة، لكن على النقاد أن يجيبوا بشكل أكثر تفصيلا.
لكن، ربما تحتاج الإجابة أن نعرف قصيدة الذات، وربما تحتاج من الشعراء أن يتخلوا عن قولهم إنهم يكتبون لأنفسهم. فثمة كتاب في النهاية يصدر، ويقرؤه قارئ في مكان ما. وربما على القارئ نفسه أن يجيب هل يفضل قصيدة الذات أم لا، هل يجدها أقرب إليه من غيرها أم لا.
لكن ما يجب ألا نغفله، ونحن نقدم الإجابات، أن جزءا من مشكلة المتلقي عندنا في عالمنا العربي، هو الأشكال المحفوظة التي حفرها مدرسو اللغة العربية والنصوص في أذهانهم للقصيدة التقليدية، التي يجب أن تكون ذات شكل معين، ولها أغراض معينة يجب ألا تتجاوزها، وأن يحتوي امتحان آخر العام على أسئلة من نوعية: ما الدروس المستفادة من القصيدة؟
فالطالب، الذي سيصير قارئا فيما بعد، لن يجد في القصيدة الجديدة، ما تعلمه من شروط كي تكون قصيدة من وزن وقافية وأغراض ودروس مستفادة، لكنه سيجد قصائد تعبر عنه، لا تمدح كافور الإخشيدي، بل تتحدث عن معاناته، ولا تصف الجمل الذي شرد في الصحراء، وإنما تذكر معاناته في انتظار الحافلة، لا الحرب الشعواء التي لم يشهدها أو يسمع بها.
بالنسبة إلي، فربما بعد كل هذه السنوات مع القصيدة، ترسبت داخلي القناعة بأن القصيدة هي أنا. أقصد أن قصيدتي هي ذاتي، حتى لو قال عمرو بن بحر الجاحظ إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق. أدرك ذلك، لكن المعاني التي أعنيها والتي تعبر عن حالتي، تختلف عن المعاني التي تعبر عن حالة آخر، حتى لو استخدمنا نفس الكلمات. ما أدركه تماما، هو ما قاله الشاعر العظيم أبو نواس في قصيدة ذاتية تماما عن الخمر قبل قرون، لكن مع تغيير بعض الكلمات: «أنا القصيدة والقصيدة أنا، كأننا روحان حللنا بدنا.»
عن السينما
من السينما إلى الواقع ... والعكس
في فيلم «زهرة القاهرة القرمزية» للمخرج الأمريكي «وودي آلان»، يخرج بطل الفيلم من شاشة السينما إلى صالة العرض؛ ليقابل إحدى المشاهدات الدائمات له، رافضا العودة مرة أخرى إلى الفيلم الذي عجز باقي أبطاله عن إكماله؛ بسبب غياب أحد الأدوار الرئيسية فيه.
يبدو هذا الفيلم الأكثر تعبيرا عن علاقة السينما بالمشاهدين، والعكس، وما يمكن أن تغيره السينما في حياتهم وتضيفه من جماليات إلى الواقع الصعب، وهو ما نجده في أفلام كثيرة مثل فيلم «قط أبيض، قطة سوداء» للمخرج اليوغوسلافي «أميركوستاريتشا»، عندما جعل سقف المنزل في النهاية يطير بمن عليه. وهو ما قدمته من قبل «ألف ليلة وليلة» كحلول خيالية لواقع الفقراء.
هذا المزيج من التداخل بين عالمي السينما والواقع الذي قدمه وودي آلان في فيلمه الجميل، من الممكن أن يدلنا على سؤال مهم عما أخذته السينما من الواقع، وما أخذه الواقع من السينما، وكيف استفاد كل منهما من الآخر.
من يتابع جميع أفلام الكوارث، وأفلام «أيام القيامة» والخيال العلمي الأمريكية، خلال العقد الأخير - على غرار «2012»، و«ستار تريك»، و«إكس من»، وجميع أفلام شركة «مارفل» - فسيجد أن مشهد انهيار المباني يشبه بالضبط مشهد انهيار برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2011، وهو المشهد الذي بدا لنا وقتها بالفعل كأنه جزء من فيلم هوليوودي يذاع على الهواء مباشرة.
سبقت مشاهد «11 سبتمبر» كل ما قدمته السينما الأمريكية من عنف ورعب ومشاهد للتدمير؛ المبنى الذي سقط في مكانه في مشهد أسطوري، الناس وهم يطيرون في الهواء، الموظفون وهم يهرولون في الشارع. لم يكن المشاهد الأمريكي - الذي هيأت له هوليوود لسنوات طويلة أنه بانتظار حرب كونية وغزاة من كوكب آخر (فيلم يوم الاستقلال على سبيل المثال) - يعتقد أن الأمر سيكون أكثر رعبا مما صورته هوليوود؛ فأدى ذلك إلى أن تحولت كل مشاهد الانهيارات والتدمير في الأفلام الأمريكية منذ تلك اللحظة إلى صورة للمشهد الواقعي الذي رأوه في ذلك اليوم، ولم ينج من ذلك أحد، من أفلام مخرج كبير في حجم «جيمس كاميرون»، إلى فيلم رديء فنيا مثل «جي آي جو» الذي قدم مشهدا لقصف «برج إيفل» يشبه إلى حد كبير ذلك المشهد.
إذا كان هذا ما أخذته هوليوود من الواقع، فإنها حاولت أن تقدم للواقع أشياء أخرى ، مختلفة عن صورتها الحقيقية، سواء وضعها الداخلي أو بنيتها المجتمعية التي تناولتها أفلام قليلة مثل «الجمال الأمريكي»، كما قدمت ما يمكن اعتباره غسيل سمعة لأجهزتها الأمنية في أفلام كثيرة بعضها حصل على جائزة الأوسكار مثل فيلم «أرجو» الذي أخرجه وقام ببطولته «بن أفليك»، وأعلنت فوزه «ميشيل أوباما» قرينة الرئيس الأمريكي بنفسها، في دلالة سياسية لا تخفى على أحد، وهو الفيلم الذي يحكي قصة عملية استخباراتية لتحرير رهائن أمريكيين عقب قيام الثورة الإيرانية في عام 1979، وأيضا «القبطان فيليبس» الذي ترشح للأوسكار وقام ببطولته «توم هانكس»، ويحكي قصة تحرير سفينة وقعت في قبضة قراصنة صوماليين، وسبقه أيضا فيلم «30 دقيقة بعد منتصف الليل» الذي أخرجته وأنتجته «كاثرين بيجلو»، والذي يروي كيف «اصطادت» المخابرات الأمريكية «أسامة بن لادن» في مخبئه، وطبعا يمكن أن نعود إلى أفلام أقدم مثل فيلم «عدو الولاية» الذي قام ببطولته «ويل سميث»، ويتناول كيف يمكن للأجهزة الأمنية الأمريكية أن تصل لمكان أي شخص على الأرض، وتحدده، وتحصل عليه، أو فيلم «المملكة» الذي يحكي الدور الأمريكي في القضاء على القاعدة في السعودية.
هذه الأفلام التي تقدم صورة شديدة الوضوح ل «قوة» الأمريكي، يبدو وجه العملة الآخر لها مشوشا قليلا، فلأنها تقدم باعتبارها تعتمد على وقائع حقيقية؛ فهي تعكس إذن صورة للقوة الأمريكية بشكلها الأعم، وهي القوة التي لم يلحظها المتابع/المشاهد في كثير من الأحداث الواقعية مثل ذبح رهينتين على يد «داعش» في العراق مثلا، أو مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، وغيرها.
يحضرني هنا ما ذكره الروائي «مصطفى ذكري» في مقال له من أن «فرانز كافكا» كتب روايته الشهيرة «أمريكا» دون أن يزورها ولو لمرة واحدة؛ لأنه أدرك أن أمريكا لا داخل لها، وأنه يكفي رؤية بعض الكروت السياحية لكتابة الرواية، وكأنه بهذا يسخر من الصورة الأمريكية المصنوعة، ويؤكد أنه يمكن الكتابة عنها كصورة، كما تفضل دائما أن تقدم نفسها أو كما تمنح نفسها للواقع سينمائيا.
يقول المخرج «كوينتن تارانتينو» في حوار معه: «كونك أمريكيا تصنع فيلما عن ماضي أمريكا يمكن أن يكون قاسيا .» قال هذا بعد فيلمه الأخير «دجانجو طليقا»؛ لأن «من أكبر التحديات التي تواجهنا في صناعة هذه الأفلام هي حقيقة أنه لا يوجد الكثير من هذه الأفلام.» رغم اهتمام هوليوود بكشف كل ماض للدول الأخرى، ولاهتمامها بالأساس برسم صورة أشبه بقناع لها.
الأمر يتجاوز آلاف الحروب التي تدور في الفضاء، والوحوش التي تغادر كهوفها، والعلماء المجانين الذين يريدون السيطرة على الأرض، والروبوتات التي تمردت، والديناصورات التي ستعود، والحروب التي ستدمر الأرض ومن عليها ولن يبقى عليها إلا أمريكي أخير، يتجاوز محاولة قولبة الخيال إلى قولبة الواقع، ورسم صورة خارجية تجافي الداخل. الأمر يعيدنا إلى سؤالنا الأول مرة أخرى، عن العلامات الفارقة بين ما تأخذه السينما من الواقع والعكس، وهل يمكن أن يتم صنع دولة أو قارة بأكملها من الخيال؟
ماذا يريد «كريستوفر نولان»؟
رغم أن الكثيرين توقعوا أن يحصد الفيلم الأخير للمخرج البريطاني الشهير كريستوفر نولان
Interstellar
بعد صدوره، جائزة الأوسكار لهذا العام؛ فإنه لم يترشح إلا لجوائز قليلة، غير أن هذا لا ينفي عظمة الفيلم الذي يمكن اعتباره واحدا من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما عن الفضاء منذ فيلم ستانلي كوبريك الشهير «أوديسا الفضاء 2001»، الذي أنتج عام 1968؛ ربما لأنه يعيد طرح نفس الأسئلة المتعلقة بالزمن، وبشكل أكثر معاصرة ودقة.
أهمية الفيلم تنبع من أهمية مخرجه؛ فعلى الرغم من أن نولان يميل لإخراج أفلام الإثارة والخيال العلمي، فإنه استطاع أن يحملها بعشرات الأسئلة الفلسفية، وهو ما تبدى واضحا في ثلاثية «باتمان»، التي تتجاوز كونها إعادة تقديم لقصص مصورة، إلى أبعد من ذلك؛ وهو أيضا ما يمكن ملاحظته في الفيلم المهم «استهلال
inception » الذي قام ببطولته ليوناردو دي كابريو، أو في «أرق
Insomnia » الذي قام ببطولته آل باتشينو وروبين وليامز، أو في فيلم «العظمة
The Prestige » الذي قام ببطولته كريستيان بيل، أو فيلمه الأهم الذي كان طريق تعريف الجمهور به «تذكار
Memento »؛ وهو ما جعل أربعة من أفلامه في قائمة الأكثر تحقيقا للأرباح في التاريخ، وثلاثة من أفلامه في أول ثلاثين فيلما من قائمة أفضل 250 فيلما في التاريخ ، كما أن اسمه دائما يأتي في قائمة متقدمة دائما في قوائم أفضل المخرجين في العالم.
يتجاوز «النجومي» كونه فيلم خيال علمي، إلى كونه فيلما عن الإنسان بكل تعقيداته، بكل أسئلته الفلسفية، عن صراع الوجود والخلود والرغبة في البقاء، عن علاقته بحاضره ومستقبله، وعلاقته بأبنائه التي تدفعه للصراع من أجل الحياة، وربما لو نزعنا الجانب العلمي من الفيلم واكتفينا بالنظر إلى العلاقة بين الأب والابنة لوجدنا أنفسنا أمام شريط سينمائي في غاية الرهافة. لم يقدم الفيلم كائنات فضائية، ولا روبوتات إلا روبوتا واحدا، ولا معارك طاحنة، ولا صراعا بين أشرار وخيرين بالمعنى الذي نشاهده في الأفلام الهوليوودية، لم يقدم فيلم حركة كما ينتظر من أفلام الخيال العلمي؛ لكنه يقدم كثيرا من الأسئلة المتعلقة بالآخر وبعلاقتنا بالآلة وبتأثير التكنولوجيا على حياة الإنسان، التي قد تقوده إلى تدمير نفسه. «النجومي» هو فيلم الأسئلة الصعبة بامتياز، الأسئلة التي بلا إجابة، الأسئلة التي تصحبك بعد انتهاء الفيلم الذي يتجاوز الساعتين، وتدعوك للدخول في دوامة الزمن التي دخلها الفيلم. الزمن هو سؤال الفيلم الأول، وهو سؤال كل أفلام نولان في المقابل.
ثمة سؤالان مهمان تطرحهما سينما كريستوفر نولان؛ أولهما: الزمن بتحولاته، والثاني: العلاقة الأبدية بين الخير والشر. يمكن أن يتداخل السؤالان، ويكون أحدهما إجابة عن الآخر، غير أن السؤالين يتكرران بشكل ملح - ربما بحثا عن إجابة - بداية من فيلمه الأول «التابع»، وانتهاء بفيلمه الملحمي «النجومي».
سؤال الزمن هو السؤال الأول والأبرز لدى نولان، فالماضي والذكريات جزء أساسي في تكوين كل شخصياته؛ ففي «تذكار»، الذي يحكي قصة شخص مصاب بفقدان ذاكرة جزئي، نحن أمام شكل مبتكر جديد للسرد؛ حيث تبدأ المشاهد من النهاية، ومع كل مشهد جديد نرى مشهدا قديما، فتأتي كل المشاهد بترتيب زمني معاكس؛ لذا فنحن نتعامل بشكل مختلف هنا مع الزمن. في فيلم «أرق» نحن أمام تحد حقيقي للزمن، فنحن في مدينة بلا ليل، وبطل الفيلم «آل باتشينو» يسابق الزمن للكشف عن جريمة قتل، فيتورط في جريمة بالمقابل. أما «استهلال»، فنحن أمام درس سينمائي في تفتيت الزمن؛ حيث يدور حول شخص يقوم بزرع الأفكار في عقول الناس والدخول إلى أحلامهم، ليبدو السؤال الأهم عن العلاقة بين عالمي الأحلام والواقع، وعن طبقات الحلم المختلفة، عن الفرق الشاسع بين الزمن الواقعي والزمن في الحلم، عن الولوج إلى الزمن وتثبيته لتغيير الواقع من خلال واقع مواز في الأحلام. أما «النجومي»، فتقوم فكرة الفيلم بالأساس على السفر عبر الزمن لإنقاذ الأرض، في رحلة عبر الفضاء بصحبة نظرية النسبية لأينشتاين والنجوم النيوترونية، وحركة دوران الثقوب السوداء في الفضاء، وتمدد الزمن، وعشرات المصطلحات العلمية التي تذوب في القصة والحبكة الدرامية الإنسانية؛ ولهذا يستعير نولان في الفيلم مقطعا من قصيدة الشاعر الويلزي «ديلان توماس» على لسان أحد أبطاله، يقول فيه:
لا تدخل في ذلك الليل اللذيذ، فحري بالشيخوخة أن تشتعل وتهيج لحظة انقضاء النهار؛ صب جام غضبك، صب جام غضبك على احتضار الضوء.
كريستوفر نولان سارد ماهر، وحكاء يعرف كيف يجذب متلقيه، يجيد استخدام كل تقنيات الفن الروائي في أفلامه، خاصة أنه يشارك في كتابة كل أفلامه، بل يقوم أيضا بارتجال مشاهد جديدة أثناء التصوير بحسب ما قالت النجمة آن هاثاواي التي شاركت في فيلمه الأخير، ويقدم شخصيات مركبة، تشهد صراعا نفسيا مستمرا؛ لذا يبدو من الصعب الحكم عليها هل هي شريرة أم خيرة، هل تنحاز إليها أم ضدها، معظمها مدفوع بدافع الانتقام فيتداخل الخير مع الشر من أجل تحقيق الدافع. يقول هارفي دنت في فيلم فارس الظلام: «إما أن تموت بطلا، وإما أن تعيش طويلا بما يكفي لترى نفسك تصبح شريرا.» وهذه الجملة تبدو كاشفة لتناول الخير والشر في أفلام نولان؛ ففي فيلم «التابع
Following » نحن أمام ما يمكن اعتباره الجريمة الكاملة؛ حيث يترك الشر ينتصر في النهاية عبر نص معقد لا تظهر تفاصيله إلا في اللحظات الأخيرة، وهي تيمة سينمائية قلما استخدمت في السينما، ولعل أحد أبرز أمثلتها فيلم «نقطة المباراة
Match Point » للمخرج وودي آلان، لا يطرح الشر هنا باعتباره شرا محضا، فنحن أمام كاتب شاب يقرر تتبع الناس في الشوارع بحثا عن شخصيات لكتابته، ثم لا يلبث أن يتورط في اقتحام بيوت لا للسرقة، بل للمتعة فقط، لاكتشاف ما يخبئه الآخرون؛ وفي «استهلال» شر من نوع جديد، يتيح الدخول إلى الأحلام وعالم اللاوعي وسرقتها، لكن ذلك ليس بمعزل أيضا عن صراع نفسي كبير داخل نفس البطل.
أما في «أرق»، فنحن أمام الضحية والجلاد في شخص واحد، مفتش الشرطة الذي يقتل زميله بالخطأ، ولا يراه سوى المجرم الذي يبحث عنه، ليضع المشاهد في مأزق نفسي، بين تواطئه لإخفاء جريمة القتل التي قام بها المفتش، وتواطئه ضد الكشف عن المجرم الذي رأى الجريمة. في فيلم «العظمة» نحن أمام ساحر لا يعرف هل دبر لجريمة قتل أم لا، وفي النهاية يقتل الساحر المدفوع بالانتقام نفسه كل يوم، وهي الفكرة التي تتقاطع مع فيلم قصير لنولان اسمه
Doodlebug
مدته ثلاث دقائق، ويحكي عن رجل يحاول قتل حشرة بحذائه، وحين يقتلها يكتشف أن الحشرة ما هي إلا نفسه.
في مشهد مهم في «النجومي»، يقوم «مات ديمون» بمحاولة قتل الملاح «ماثيو ماكونهي»، في محاولة لإنقاذ الأرض من وجهة نظره، لكن لا يعرف المشاهد من المحق؟ من الذي على صواب هنا: القاتل أم المقتول؟ من يستحق أن يقف معه وينحاز إليه؟ وهي الحيرة واللعبة النفسية التي يجيدها نولان، في رحلته إلى أغوار النفس البشرية مستخدما كل العقد الموجودة في علم النفس من «أوديب» إلى «إليكترا»؛ لذا يبدو مفهوما الخير والشر أنفسهما مفهومين متغيرين، وقابلين للتغير طوال الوقت، وربما يبرر هذا سبب النجاح اللافت لثلاثية «فارس الظلام»؛ حيث يطرح مفهوما مختلفا للصراع بين الخير والشر من منظور أكثر جدية وتطورا وإنسانية، على عكس المفهوم الذي طرحه تيم برتون أو جويل شوماخر، في الإصدار الأول لباتمان في أفلام الثمانينيات والتسعينيات؛ حيث يبدو الشر شرا محضا وخالصا، من خلال أبطال تقليديين مثل: الجوكر أو فريز أو ذي الوجهين أو رجل الألغاز، كانت تبدو أقرب للقصص الكوميكس منها لأي شيء آخر. هذا المعنى؛ معنى السفر إلى أغوار النفس البشرية ، موجود أيضا بشكل واضح حتى في الأفلام التي أنتجها نولان، مثل فيلم «تسام» الذي قام ببطولته النجم جوني ديب، والذي يطرح في النهاية سؤالا حول الهدف مما يحدث؛ إنقاذ الأرض أم تدميرها.
بالإضافة إلى ذلك لا يقدم كريستوفر نولان مجرد أفلام للتسلية، حتى لو كانت تندرج تحت بند الإثارة والخيال العلمي، فبالإضافة إلى تقديم تصور إنساني درامي مختلف في ثلاثية باتمان، نجده في فيلمه الأخير يقدم نظرية فيزيائية محضة للعالم الفيزيائي «كيب ثورن»، من خلال قالب فلسفي يختلف عن كل الأفلام الكارثية التي قدمت عن نهاية العالم، بل إنه درس الفيزياء لمدة ثمانية أشهر، ليأخذ المشاهد بعد ذلك في رحلة عبر ثقب دودي في الفضاء للبحث عن أرض بديلة للبشر، ربما تكون أنسنة للعلم كما في «النجومي»، أو أنسنة للخيال كما في «استهلال»، أو أنسنة للأبطال الخارقين كما في «باتمان».
ثمة شيء آخر يميز أفلام الخيال العلمي التي يخرجها نولان؛ أنها لا تبدو مفتعلة مطلقا، حتى لو كانت تدور في عالم كامل من الخيال، مثلما حدث في «استهلال»، والسبب أن في كل هذه الأفلام رحلة داخل العقل البشري، وهي رحلة موجودة في معظم أفلام نولان، بداية من «تذكار» وتقديم شخص فاقد للذاكرة، مرورا بتقديم قراءة نفسية لشخصية «باتمان»، ثم «استهلال» الذي يخلق فيه عالما كاملا داخل العقل البشري، رابطا إياه بأسئلة فلسفية حول الضمير والتطهير النفسي وعمليات غسيل المخ والعلاقة بين العالمين المتوازيين، فضلا عن استخدامه أفكارا وردت في لوحات رسامين عالميين، ورغم كل هذه الأسئلة فإنها لا تخلو من الإمتاع الذي يجعل ذهنك مشحوذا وممتلئا بالأفكار أثناء مشاهدة الفيلم وبعده، والأفلام التي تفعل ذلك قليلة، خاصة إذا كانت من نوعية الأفلام التي قد يراها البعض «خفيفة»؛ لأنها تدور في عوالم الإثارة والخيال العلمي.
ما بعد الكارثة
من أكثر الأشياء التي اتفق البشر على قرب حدوثها أن ثمة كارثة قادمة في يوم ما لتدمر الأرض وتقتل من عليها. يمكن قراءة هذا حتى في الأديان التي تتحدث عما يسبق يوم القيامة ، أو في النظريات العلمية التي تتحدث عن نفاد الطعام والشراب وتلوث الهواء، أو في نبوءات المنجمين التي تتوقع دمار الأرض، أو في الأدب كبعض أعمال إدجار آلان بو، أو ه. ج. ويلز، أو في النظريات الكونية التي تتحدث عن حرب نووية، أو اصطدام الأرض - ذات يوم - بكوكب آخر.
لم تخط السينما كثيرا بعيدا عن هذه النظريات، بل ربما وجدت فيها منجما غنيا بالأفكار؛ فشاهدنا الأفلام التي تتحدث عن «نهاية العالم» وأفلام «الكوارث» وما يعرف بأفلام «ما بعد الكارثة». وما يميز هذه الأخيرة أنها تتحدث عن تصور الإنسان لما يمكن أن يحدث إذا حدثت الكارثة وانقرض معظم البشر، وكاد أن ينتهي العالم. ما الذي يمكن أن يفعله كي يواصل الحياة على كوكب الأرض، أو حتى في كوكب آخر بديل؟
ما تتفق عليه جميع هذه الأفلام هو أن العالم سينتهي بطريقة ما؛ كي يبدأ عالم جديد مختلف تسيطر عليه الهمجية والقوة والعنف، ويعود بدائيا تماما، إلا من مجموعة صغيرة تسيطر على مقدرات ما تبقى من البشر، وتتحكم في التكنولوجيا إذا بقي منها شيء. قد ينتهي العالم عن طريق حرب مدمرة مثلما رأينا في فيلم «ألعاب الجوع» بأجزائه الثلاثة، وفيلم «مختلفة» بجزأيه، أو عن طريق سيطرة التقنية والآلات على مصير البشر مثل «ماتريكس» أو «المبيد»، لا سيما في جزئه الأخير، أو انتشار فيروس يبيد البشر مثل «أنا أسطورة»، أو إعصار مثل «المستحيل»، أو كارثة نووية مثل «بعد الأرض»، أو عودة الحيوانات المنقرضة أو تمردها مثل «كوكب القرود»، أو غرق الأرض مثل «عالم الماء»، أو غزو فضائي مثل «يوم الاستقلال»، وحتى فيلم كريستوفر نولان الأخير «النجومي» يمكن أن ندرجه ضمن هذه القائمة، الذي اعتمد فيه على نظرية نهاية الأرض بسبب شح الطعام وتلوث الهواء.
آخر هذه الأفلام هو الجزء الرابع من سلسلة «ماكس المجنون»
Mad Max
التي عادت بعد توقفها 30 عاما، والذي عرض أخيرا تحت اسم «الطريق المرعب»
Fury Road ، وقام ببطولته تشارليز ثيرون، وتوم هاردي بديلا لميل جيبسون، وقدم شكلا مبهرا من أفلام ما بعد الكارثة، معتمدا على فكرة شح الطعام والماء والنفط وتصحر الأرض وانقراض البشر، إلا من فئة قليلة تسيطر على مقدرات ما تبقى من بشر بالقوة، وعصابات قطاع طرق تنتشر هنا وهناك.
ورغم أنه من الصعب الحديث عن فنيات في هذه النوعية من الأفلام التي تعتبر الإبهار والحركة هما أوليا لها، فإن الأفكار الصغيرة - التي يتم طرحها - تصلح دائما لإثارة التساؤل، كما أنها لا تحمل إلا رؤية نقدية بسيطة لما يحدث في العالم، يمكن تتبعها في جملة أو جملتين من الفيلم.
ورغم أن معارك فيلم «ماد ماكس» جاءت مبهرة، بل قدمت شكلا جديدا للحروب، خاصة حروب العصابات، اعتمد الفيلم السرعة في الإيقاع والحركة والمونتاج، الذي بدا فجا في بعض المشاهد، واعتمد على الموسيقى التصويرية كأحد الأسلحة المستخدمة في الحرب بين فريقي الفيلم اللذين يمثلان بالضرورة الخير والشر، كما في هذه النوعية من الأفلام، إلا أن هذه المشاهد تعطي انطباعا - في أجزاء أخرى منها - بأنها تدور في ألعاب الفيديو، خاصة أن الفيلم تحول إلى لعبة فيديو شهيرة. غير أن السؤال الذي يهمنا هنا ويطرحه الفيلم بالفعل هو آخر جملة ينتهي بها، والمقتبسة من كلام للإنسان الأول نقشه على الكهوف، متسائلا فيه عن: أين نذهب في هذا العالم المقفر؟ وهو ما يجعلنا نتساءل: إذا كان الإنسان الأول طرح هذا السؤال الوجودي قبل آلاف السنين؛ فماذا يمكننا أن نفعل اليوم؟
في أحد مشاهد الفيلم يطالب أحد المسيطرين على العالم - على ما تبقى من مائه وزرعه ونفطه - البشر الذين يتدافعون على بابه بألا يدمنوا «المياه»، التي فتحها لهم لكي يملئوا بها أوانيهم لفترات محدودة. ورغم سذاجة الفكرة، خاصة أنه لا حياة دون مياه للإنسان، فإنها تطرح سؤالا فعليا حول كيف ستنتهي حرب المياه التي تشتعل في مناطق متعددة في العالم الآن. في مشهد آخر نشاهد حرب النفط، وفي مشهد ثالث نشاهد أن المرأة تتحول مع الوقت - ربما يحدث هذا كلما تقدم المجتمع أو تخلف بشكل واحد - إلى سلعة للتجارة والمتعة ليس أكثر، وفي مشهد رابع نرى كيف تحول الدوجما (الدينية تحديدا ) البشر إلى عبيد، خاصة أولئك الذين يريدون أن يفجروا أنفسهم لكي يصلوا إلى النعيم والخلود اللذين ينتظرانهم. ورغم أننا يمكن أن نسقط هذا سياسيا على كثير مما يحدث حولنا، ولا سيما ما يفعله تنظيم داعش، فإن الفكرة الأساسية هنا هي انتقاد تلك الأفكار البراقة التي تؤدي إلى الاستلاب التام، الذي يتيح للطاغية أو الديكتاتور أو الحاكم - أيا كان - أن يسيطر على غيره من البشر.
سؤال الفيلم الأساسي تجيب عنه تشارليز ثيرون، عندما يسألها ماكس عما تريد أن تذهب إليه، فتشير إلى فتيات هاربات معها بأنهن يبحثن عن الأمل، وعن نفسها تقول إنها تريد «الخلاص». ورغم أنه لا خلاص حقيقي، ولا أمل موجود في هذا العالم المقفر الذي يأكل بعضه بعضا؛ حيث تنتهي رحلة الفرار باليأس بعد أن تحولت الواحة الخضراء إلى صحراء مقفرة، ولم يبق منها إلا بذور جافة لنباتات لا يوجد مكان لزراعتها، فإن هذه النوعية من الأفلام تكشف جانبا مهما من جوانب الإنسان؛ وهو إصراره على البحث عن أمل حتى لو كان يدرك أنه ليس موجودا.
أفلام ما بعد الكارثة، حتى لو كانت تنتج لمجرد الكسب المادي، فإن الأفكار التي تطرحها - حتى لو كانت قشورا - تكشف هما حقيقيا يجب أن يؤرق كل إنسان، وتطرح سؤالا نعرفه جميعا، لكننا لم نفكر قط في الإجابة عليه: إذا كنا نعرف أننا ذاهبون بهذه السرعة إلى كارثة، فماذا فعلنا لكي نوقفها؟ بالتأكيد لم نفعل شيئا. ربما اكتفينا بمؤتمرات وندوات ومقالات، من باب ذر التراب في العيون، مع أن الأجدر بنا أن نفكر فعلا في «الخلاص»، حتى لو كان على طريقة تشارليز ثيرون.
هابرا كادابرا
يختار وودي آلان في فيلمه الأخير «سحر على ضوء القمر
Magic in the Moonlight » أن يذهب إلى مساحة ذهبية في السينما والحياة عموما، وهي عالم السحرة؛ إذ تظل هذه المساحة هي الأكثر غموضا وإثارة وتشويقا، والأقل تسليطا للأضواء على كواليسها، وهكذا أرادها آلان في فيلمه الجديد، وإن حاول تقديم مفاهيم أخرى للسحر.
وربما يجب هنا أن نفرق بين «السحر » المقصود به ألعاب الخفة، والذي يعتمد في جزء منه على حيلة ذكية وسرعة الأداء والإبهار؛ والسحر الذي يعتمد على النبوءات والشعوذة واستخدام عظام الموتى، والتنبؤ بالموت، وتحضير الأرواح، واستخدام التعويذات الشريرة، كما في عدد من الأفلام المأخوذة عن قصص لستيفن كينج. وإذا غضضنا الطرف عن هذه الأفلام الأخيرة التي تتناول السحر من منطلق مغامراتي بحت، وسعيا لاقتناص مزيد من المشاهدين في شباك التذاكر، وهي كثيرة مثل أفلام «هاري بوتر»، بأجزائها المتتالية، والتي أصبح بعضها من أكثر الأفلام تحقيقا للأرباح في التاريخ، وفيلم «ملك الخواتم» بأجزائه الثلاثة، ثم ثلاثية «الهوبيت»، وعشرات الأفلام الأخرى، التي تتعامل مع السحر باعتباره «تتبيلة» جيدة لفيلم يحطم الإيرادات، فضلا عن الأفلام التي تستخدم السحر - لا سيما السحر الأسود - كمدخل جيد لصناعة فيلم رعب معروف الحبكة مسبقا؛ إذا تغاضينا عن كل هذا، فإننا نجد الأفلام التي تتناول عالم السحرة - لاعبي الخفة - قليلة العدد بشكل ملحوظ.
لكن الجميل في فيلم وودي آلان الأخير ليس أنه يتناول عالم السحرة فحسب، بل إنه يغوص في العلاقات الإنسانية المتشابكة بينهم، طارحا أسئلته الأزلية - التي لا يمل من تقديمها في كل أفلامه - عن الحب والكراهية والخيانة والأرواح والآلهة، ساخرا في الوقت ذاته من الألعاب الروحانية. نحن لسنا أمام سحرة مبهرين كما قدمتهم الأفلام الأخرى، بل أمام أشخاص ضعفاء يقهرهم الحب، فينقلب السحر على الساحر، ويصبح الساحر الحقيقي في الفيلم هو «الحب» الذي يحول كولين فيرث من كاشف للمتآمرين إلى متواطئ معهم.
في الفيلم يأخذنا وودي آلان إلى مناطق أخرى للسحر، غير ألعاب الخفة، وهو ما يمكن أن نعتبره منطقة موازية لتلك التي اصطحبنا إليها أحد أهم الأفلام التي تناولت عالم السحرة «العظمة
The Prestige »، والذي أخرجه كريستوفر نولان؛ حيث تغدو عملية السحر بأكملها ليست أكثر من رغبة في الانتقام، ويصبح السحر هو «سحر الكراهية» الذي يحرك بطلي الفيلم كلا في اتجاه الآخر، كما يسعى المخرج طوال الفيلم لإسقاط الأقنعة عن السحرة واحدا تلو الآخر طوال الفيلم، لكنه يحتفظ بقناع أخير لمشهده الأخير، ليتحول المخرج هنا إلى صانع خفة، وتتحول السينما إلى الماكينة التي تنقل الشخص من عالم إلى آخر.
لكن أكثر الأفلام التي قدمت عالم السحر والخفة بشكل مبهر كان فيلم «الآن أنت تراني
Now You See Me »، الذي قام ببطولته مورجان فريمان وجيسي آدم آيزينبيرغ. ورغم أن الفيلم يمكن اعتباره أحد أفلام الإثارة، خاصة أنه يقتبس فكرة اللص الشريف الذي يسرق من الغني ليعطي الفقير، إلا أنه استطاع الدخول إلى عالم الخدع السحرية، وطريقة صنعها، ليترك المشاهد مشدود الأنفاس طوال الوقت، بحثا عن خدعة أخيرة يكتشفها من المشهد الأخير من الفيلم، الذي عمد إلى الاحتفاظ بها لآخر لقطة. واللافت هنا في معظم أفلام الخفة والسحر هو أهمية المشهد الأخير؛ حيث يتحول الفيلم بأكمله إلى لعبة خفة لا تكتمل أركانها إلا باكتمال مشاهد الفيلم، ويجد المشاهد نفسه يتابع عالم السحرة بكواليسهم، بالموازاة مع لعبة خفية يحركها المخرج في الخلفية.
من الأفلام المهمة في هذا السياق فيلم «المخادع
The Illusionist »، الذي قام ببطولته إدوارد نورتون وبول جياماتي، والمأخوذ عن رواية «أيزنهايم المخادع»، الذي يتحدث عن الساحر المخادع من أجل الحب، والذي يرصد بداية من تلك اللحظة التي مرت بنا جميعا ونحن صغار، عندما ننبهر بالساحر فنفكر أن نصبح سحرة، ونفتش عن الخدع السحرية، مرورا بذيوع صيته للدرجة التي تجعل ولي العهد نفسه يطلب مقابلته، انتهاء بالغرور المدمر.
وعلى الرغم من الخفة التي يتميز بها فيلم «أوز العظيم القوي»، الذي صدر عام 2013 في نسخته الجديدة، بعد أن قدم مرتين من قبل، فإن ما لا يمكن إنكاره هو انحيازه للعلم، على خلفية القصة الرومانسية الخفيفة التي يقدمها، وكأن الفيلم بأكمله تحية لمن ساهموا في أشياء جعلتنا نؤمن بالعلم لا بقوة الخداع. فنحن أمام ساحر فاشل، تنتظره مدينة خيالية لينقذها من الأشرار، كالعادة. ولأنه لا يملك السحر، يقرر أن يستعين بالعلم الذي يتحول إلى سحر بسبب جهل أهل المدينة بهذه التقنيات العلمية.
في كل هذه الأفلام - سواء كنا نسعى لمعرفة الخدعة أو نعرفها بالفعل - لا نرى الساحر مجرد مقدم حيل، ولا يتوقف الأمر عندما يهتف «هابرا كادابرا »، بل نراه شخصا ذكيا لماحا يقول لك: «أنت الآن تراني؛ فحاول أن تعرف كيف سأخدعك.» يؤكد لك أن لا شيء مما نراه حقيقي، لكن ما يحدث ليس أكثر من مجرد خدعة تنتصر للعلم وللذكاء الإنساني في النهاية. كما أن هذه الأفلام تهتم بإظهار الوجوه الإنسانية لهؤلاء السحرة، الصراعات بينهم على فكرة جديدة. لكن الأهم أنها تظهر لنا أن هناك سحرا مختلفا نتلمسه في كل فيلم؛ وهو سحر الإنسان نفسه، ومشاعره، وانحيازاته، سحر الحب - كما قدمه وودي آلان في فيلمه الأخير - الذي انتصر على السحر الحقيقي، وعلى الخداع أيضا.
وعلى الرغم من قلة هذه الأفلام، فإنها تثبت لمن يشاهدها أن ثمة سحرا آخر، لا يخبو ولا نصل إلى منتهاه، بل نسعى إلى الخدعة مرة تلو المرة ونحن سعداء بها؛ هو سحر السينما الذي يمكن أن نلمسه في أفلام لم تتحدث عن السحر لكنها قدمته؛ مثل فيلمي «هوجو» لمارتن سكورسيزي، و«باريس منتصف الليل» لوودي آلان، وربما هذا ما حرصت كل هذه الأفلام على تأكيده.
قبل أن تأكل نفسك
«عندما استيقظ جريجوري سامسا في الصباح - بعد أحلام مضطربة - وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة.» هذه الجملة الشهيرة في بداية رواية فرانز كافكا «المسخ»، والتي طالما كانت مؤشرا لكتابة الكثيرين في السبعينيات، تبدو هي الأكثر تعبيرا اليوم عن حالنا.
لا أتحدث هنا عن الكتابة، وإنما عن واقع فرضه التحول الدراماتيكي في العالم منذ قرابة العقدين مع اكتشاف تقنيات الاتصال الحديثة، من هواتف محمولة وإنترنت وكمبيوتر، وغيرها، والتي جعلت للإنسان رفيقا آخر غير بشري، يكاد أن يكون ونيسه الوحيد في كثير من الأحيان، وزادت انغلاقه على نفسه.
رغم القراءات المختلفة التي قدمت لفيلم
Her
الذي كتبه وأخرجه سبايك جونز، وقام ببطولته خواكين فينيكس وإيمي آدامز وروني مارا وسكارليت جوهانسون، والرؤى الفلسفية التي قدمها، فإن القضية الأهم بالنسبة إلي كانت معالجة الفيلم لهذه القضية تحديدا: قضية الوحدة والانغلاق على الذات، وهي إحدى تجليات عصر المعلومات.
في مشهد دال يلاحظ بطل الفيلم - بينما كان يسير في الشارع - أن جميع من حوله منهمك تماما في الحديث إلى هاتفه، وعلى وجوههم انطباعات السعادة والحب والحزن والغضب والألم، لا يوجد شخصان يسيران معا في الطريق، بل كل شخص يتحدث إلى هاتفه فقط، وهي الحالة التي يمكن ملاحظتها بسهولة الآن داخل أي بيت، أو حافلة، أو مكان انتظار؛ حيث كل شخص يدور في فلك ذاته وعالمه الافتراضي الذي يلجأ إليه هربا من العالم الحقيقي، ينظر إلى الشاشة التي أمامه ويستغرق تماما (أيا كانت هذه الشاشة لهاتف أو لكمبيوتر أو لتلفاز أو لجهاز لوحي) ويتوحد معها تماما، حتى فكرة إقامة العلاقات عن طريق الهاتف مع صوت جهاز تشغيل، التي قدمها الفيلم، يمكن أن تجدها في الواقع؛ لأنك بالفعل لا تعرف من يجلس خلف الشاشة التي تحادثها.
عندما تراجع «التايم لاين» الخاص بأي شخص على فيس بوك أو تويتر، ستجد هناك الآلاف الذين يسكبون مشاعرهم يوميا؛ أملا في شخص افتراضي يربت على أكتافهم تربيتة افتراضية، ويمنحهم حضنا وحنانا افتراضيين، رغم يقيننا في كثير من الأحوال أن هذا الشخص الذي نخاطبه شخص افتراضي، ومن المستحيل أن نلتقيه يوما. الأمر قد يذكر - في جانبه العاطفي - بالمشهد المكرر في القطارات المصرية العتيقة، عندما يركب شخص إلى جوارك ويحكي لك كل همومه، رغم أنه لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه أراد أن يفرغ ما يلهب جوفه، ووجد أخيرا من يسمع.
على فيس بوك وتويتر، ستجد ملايين الحسابات بأسماء مزورة لأشخاص اختاروا أن يقوموا بأدوار أخرى، اختاروا أن يخلعوا وجوههم التي منحتهم إياها الحياة، ويمنحوا أنفسهم وجوها وأسماء وشخصيات جديدة، تتصرف وتكتب وتحكم على الأشياء بطريقة أخرى غير الطريقة التي تعيش بها، وهو ما أعطاهم تعويضا عن رفضهم لأسلوب حياة أو أيديولوجيا أو مستوى اجتماعي معين، أو قيود مجتمعية.
لا أناقش هنا انفصام الشخصية لدى البعض، لكني أسعى للإجابة عن تساؤل: ماذا بعد أن توحدنا في عوالمنا الضيقة والمحدودة، بعد أن ظللنا لسنوات طويلة ننظر فقط في المرآة، وتخلينا عن البشر الحقيقيين، بعد أن صارت حياتنا وما نحبه موجودين في أجهزة الآي باد، والآي فون، والآي كلاود، ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح لنا أشخاص افتراضيون، نقضي معهم أوقاتا أطول - وربما أسعد - مما نقضيه مع أصدقائنا؟
يمكن تبرير هذا بأن العلاقة الإلكترونية من الممكن أن تنتهي بضغطة زر، لكن في رأيي الأمر ليس بهذا البساطة، فثمة «بعد كافكاوي» في الأمر يتمثل في عبوديتنا للتكنولوجيا، وتحورنا إلى حشرات تكنولوجية، أو خلق ذوات موازية، وهو ما انعكس في عبوديتنا لذواتنا، وانغلاقنا عليها، حتى غدونا مثل بطل فيلم
Her
الذي يهجر أصدقاءه من أجل علاقة عاطفية مع «نظام تشغيل إلكتروني» وجد معه الراحة التي لم يجدها في علاقته الطبيعية. راقب نفسك اليوم، وقد تحول فيس بوك إلى عالم خاص بك، مغلق تماما، به أسرارك، ووقت راحتك الذي تلجأ إليه أحيانا، ووجهك الآخر الذي تريد أن يراه العالم.
يذكر هذا بفيلم
Face Off
للنجمين الأمريكيين جون ترافولتا ونيكولاس كيج، عندما استبدل كل منهما بوجهه وجه الآخر وحياته. نحن نفعل هذا الآن ونحن ندرك أن من يجلس أمامنا قد يكون شخصا مزورا، لكننا ارتضينا وجوده، كأن هناك عقدا غير مكتوب: أن تسمعني وأسمعك، ما دام العالم لا يسمعنا. لكن، من قال إن العالم لا يسمع أو يسجل أو يتلصص؟
في عدد كبير من أفلام الخيال العلمي الأمريكية (المتحولون على سبيل المثال) تتحول الآلات التي تخدم الإنسان إلى أعداء له، وتسعى للسيطرة على العالم، بعد أن يكون الإنسان قد سلمها كل معلوماته تماما، وبعد أن يكون قد اعتمد عليها في كثير مما يفعله. وفي الحقيقة، لا أستطيع أن أمنع نفسي وأنا أتابع التطور التكنولوجي - ليس فقط في وسائل الاتصالات وإنما في صناعة الروبوتات المنزلية، والعقول الذكية، والأجهزة المقرونة بأوامر صوتية، والطائرات من دون طيار، والنظارات والساعات الذكية، وغيرها - من التفكير في نهايات تلك الأفلام.
وفي معظم أفلام مارفل الأخيرة، بداية من سلسلة «الرجال إكس»، مرورا بكل قصص الكوميكس التي تحولت إلى أفلام حصدت ملايين الدولارات، مثل «الرجل الحديدي»، و«هالك»، و«ثور»، وأخيرا «كابتن أمريكا»؛ تبدو السمة الأساسية التي يتحدث بها من يريدون السيطرة على العالم عبر السيطرة على الأجهزة الذكية، هي أن البشر قبلوا التخلي عن خصوصيتهم، في مقابل أن يحصلوا على الأمان والسلام (هذه العبارة وردت بالنص على لسان البطل الشرير في الجزء الثاني من سلسلة أفلام «كابتن أمريكا»؛ جندي الشتاء)، ويمكن تحوير هذه الصيغة إلى أن البشر قبلوا التخلي عن خصوصيتهم، في الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي التي تجمع جميع المعلومات عنهم وعن جميع تحركاتهم، في مقابل سلامهم الداخلي، والتربيتة الإلكترونية على أكتافهم، وهو ما افتقدوه في حياتهم، لكن من قادهم إلى هذا المصير؟ أليست الآلة أيضا؟ «ماستر سين» فيلم
Her
في ظني، حين يسأل بطل الفيلم «نظام التشغيل» الذي يحبه: «هل تحبين أحدا غيري؟» فتجيبه: «ستمائة وواحدا وأربعين.» ليكتشف أنه مجرد رقم لدى نظام التشغيل ليس أكثر، ليطرح السؤال: من الذي يدير العلاقة، أنت أم جهاز الكمبيوتر الذي أمامك؟ من الذي يسيطر على العلاقة بعد أن توحدت مع الآلة وسقطت في عبوديتها، أنت أم هي؟
في ندوة أخيرة شاركت فيها عن «الكتابة والعولمة»، سألني أحد المشاركين: «هل تعتقد أن الأجدر بالإنسان الابتعاد عن العولمة بأشكالها المختلفة؟» وكان ردي هو أن الوقوف أمام العولمة بأشكالها المختلفة يشبه إلى حد كبير الوقوف أمام قطار سريع، والأجدر بنا أن نكون داخل القطار لا أمامه، لكن المهم هو ماذا سنفعل عندما نكون داخل القطار؟ ما الذي سنأخذه؟ وما الذي سنتركه؟ لأنه لا أحد يستطيع أن يستغني عن كل وسائل الاتصال الحديثة (ما في داخل القطار)، وإلا عاد إلى العصر الحجري. وبهذه الطريقة، لا يسمح للقطار بأن يأكله، ولا يأكل نفسه أيضا.
في رواية «اللجنة» للروائي صنع الله إبراهيم، يأكل بطل الرواية - الضائع ما بين السلطة والحرية - نفسه في النهاية، ويبدو هذا حالنا جميعا اليوم، ونحن ننغلق على ذواتنا يوما بعد الآخر، وقد تخلينا عن خصوصيتنا تماما لشركات عابرة للعوالم متخصصة في الاتصالات واختراق الخصوصيات، مقابل أن نجد الإنسانية المفقودة، حتى لو كانت في «صورة إلكترونية»، حتى غدونا مثل دودة تضع ذيلها في فمها وتواصل الالتهام، حتى تأكل نفسها تماما.
أضواء المدينة المطفأة
تبدو النهايات دائما جديرة بالتأمل، أتحدث هنا عن نهايات بعض من كانوا نجوما - سواء في السينما أو الأدب أو حتى في مجالات العمل المختلفة - ثم دارت الأيام دورتها، فانتقلوا من السماء - حيث يراهم نجوما كل من يرفع عينيه إلى أعلى - إلى الأرض، فأصبحوا عاديين، ومع الوقت بهتت ملامحهم، فأكملوا ما تبقى من حياتهم وكأنهم يعيشون تحت الأرض.
يربط البعض هذا بنضوب الموهبة مع التقدم في العمر، غير أن هذا في رأيي غير صحيح؛ لأن هناك عددا كبيرا من المبدعين لم تبدأ موهبتهم إلا في سن متأخرة، وظلوا نجوما حتى آخر يوم في عمرهم، حتى لو توهجوا في مراحل مبكرة من حيواتهم.
غير أن الخفوت والنهايات المؤسفة يرتبطان بعوامل أخرى تتعلق بالزمن نفسه وبتصاريفه، فينتقل الممثل - على سبيل المثال - في أفلامه الأولى من دور الكومبارس إلى الدور الأول، ثم يعود إلى الصف الثاني وربما الأخير في أفلامه الأخيرة. يمكن أن تلمح هذا في القصص المروية عن نهايات عدد كبير من نجوم الكوميديا العرب؛ مثل: إسماعيل ياسين، وعبد الفتاح القصري، وحسن فايق وغيرهم، وكيف تحولوا من نجوم الصف الأول إلى باحثين عن أي دور ليستطيعوا إكمال الحياة. وهذه الدورة موجودة في حياة المغنين مثلا، أو الكتاب الذين ينتقلون من دور النشر التي تتخاطف كتبهم، إلى البحث عن دار نشر تقدر ما ينشرونه. وهذا أمر جد مؤلم ومحزن، والأمر ينطبق على مناحي الحياة الأخرى. ولعل أشهر فيلم عالج هذه القضية هو الفيلم الشهير «المواطن كين».
لكن انطفاء «أضواء المدينة» وسقوط الهالة التي تبدو دائما براقة حول المبدع «النجم»، يمكن ردهما إلى أسباب مختلفة عن فكرة تراجع الإبداع. وقد قدمت السينما العالمية عددا من الأسباب في أفلام تناولت هذه القضية، أشير هنا إلى أربعة منها: أولها الفيلم الفرنسي الصامت «الفنان»، الذي أخرجه ميشيل هازنافيسيوس وحاز جائزة الأوسكار عام 2011؛ وفيلم «هيوجو»، الذي أخرجه مارتن سكورسيزي وحاز 5 جوائز أوسكار في عام 2011؛ و«الرجل الطائر أو الفضيلة غير المتوقعة للجهل»، الذي أخرجه أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، وحاز جائزة الأوسكار لهذا عام 2015؛ وفيلم قديم نسبيا هو «إد وود»، الذي أخرجه تيم برتون، وقام ببطولته جوني ديب، والمأخوذ عن قصة حقيقية لأكثر المخرجين فشلا في السينما الأمريكية، الذي حمل الفيلم اسمه. إلا أن ما نود الإشارة إليه في الفيلم هو شخصية البطل المساعد (بيلا لوجوسي)، التي قام بأدائها مارتن لانداو، والتي حاز عنها جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد للعام 1995.
السبب الذي يقدمه الفيلم الأول (الفنان) هو تغير الآليات التي تعمل بها السينما، والتقنيات المستخدمة؛ فالممثل الذي كان نجم الشباك الأول في عالم السينما الصامتة، ويفرض شروطه على المنتجين، وينتقل من فيلم إلى آخر؛ لا يعرف كيف يتصرف في السينما الناطقة، ورويدا رويدا تذوي الأضواء حوله، وتبهت الهالة التي كانت تحيطه.
في فيلم «هيوجو» نحن أمام قصة وأسباب مختلفة؛ فهي وإن كانت تدور حول طفل يعيش في ساعة في محطة قطار يحاول حل لغز، فإن القصة الحقيقية هي قصة أحد مخرجي السينما الأوائل والرواد، الذي يقرر الابتعاد عن عالم السينما والأضواء بسبب الفقر والاكتئاب، فتحول لشخص عادي تماما بسبب الإفلاس والحرب، اللذين دفعاه إلى بيع كافة أفلامه لأحد معامل المواد الكيميائية لاستعمالها في صناعة كعوب الأحذية النسائية.
في الفيلم الثالث «بيردمان»، الذي حاز جائزة الأوسكار لهذا العام، نحن أمام أحد نجوم سينما الكوميكس؛ إذ كان يقدم شخصية سينمائية شهيرة هي الرجل الطائر (من الطريف أن بطل الفيلم مايكل كيتون قام بتقديم شخصية باتمان في فيلمين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات) قبل أن تنحسر عنه الأضواء، فيقرر العودة مرة أخرى من خلال مسرحية على مسارح برودواي، ليجد أن كل شيء تغير، وأن مقطع فيديو على يوتيوب قد يجعله مشهورا أكثر من فيلم، وأن النجوم الجدد لا يوقرون الأجيال السابقة، فضلا عن نظرة النقاد إليه باعتباره قادما من عالم هش، هو عالم السينما والكوميكس.
في الفيلم الأخير «إد وود»، رغم أنه يحكي قصة صعود مخرج فاشل - لكنك تتعاطف معه وتحبه على الرغم من ذلك بسبب أداء جوني ديب - فإن القصة الحقيقية هي قصة الممثل الكبير الذي كان يقدم أشهر أدوار الرعب، ثم نسيه الجمهور، ويظن أصحاب شركات الإنتاج أنه فارق الحياة، ويرفضون أن يقوم بأداء أدوار في أفلامهم، بل إن أول مشهد في الفيلم للممثل الذي قام بهذا الدور كان وهو يقيس حجم تابوت على جسده استعدادا للموت. ويستعرض الفيلم كيف صار الممثل يبحث عن دور حتى يشعر أنه لا يزال حيا، لدرجة أنه يفرح عندما تتزاحم كاميرات التصوير عليه بعد دخوله مشفى، وهو ما يتقاطع مع مشهد النهاية في فيلم بيردمان؛ حيث يبحث كل منهما عن نقطة تحقق، حتى لو كانت بإدمان الأول، وقيام الثاني بضرب نفسه برصاصة حقيقية بدلا من الفشنك في مشهد من المسرحية.
يبدو خفوت الهالة وانطفاء الأضواء قاتلين بالطبع، وكفيلين بجلب الاكتئاب والموت لمن تعود على الأضواء، غير أن لكل انطفاء أسبابه؛ ربما صعود أجيال جديدة، ربما الفقر والديون، ربما التمسك بالماضي وعدم الاهتمام بتطوير الفنان لنفسه، وربما دورة الحياة التي تتطلب دماء جديدة توازي الدماء التي تسري في الأجيال الصاعدة نفسها من متلقين ومتعاطين مع الفن. ويمكن تطبيق هذا على الفنون نفسها أيضا - باعتبار الأمر قائما على علاقة تبادلية بين الفن والمبدع - بما فيها الشعر بأنواعه من تفعيلة وقصيدة عمودية، ورواية ومسرح وغيره؛ ولهذا تموت فنون، وتذوي أخرى، وتزدهر ثالثة.
غير أن كل هذه الأفلام السابقة والحكايات الحقيقية الكثيرة، التي لم يتسع لنا الوقت لسردها، والقضية بحد ذاتها؛ تطرح أمامنا سؤالا جوهريا عن ماهية الفن، وطريقة تعاطي الفنان والمبدع مع الزمن، ومدى تطويره لأدواته التي تضمن له ألا تنطفئ من حوله أضواء المدينة، وربما توصله إلى ذلك السر الذي لا يعرفه ولم يصل إليه إلا القلائل؛ ذلك السر الذي يسمونه «الخلود».
كيف تقتل كاتبك المفضل برصاصة واحدة؟
في أحد المشاهد الدالة في فيلم «بؤس
Misery » المأخوذ عن قصة لستيفن كينج، وأخرجه روب رينر في عام 1990م، تجبر إحدى القارئات كاتبها المفضل على أن يحرق مسودة كتابه الأخير؛ لأنه لم يعجبها ، ورغم محاولته إقناعها أن الكتاب لم يطبعه أحد، ولن يقرأه أحد، فإنها أجبرته على ذلك كنوع من التطهر - تحت التهديد - لأن الكتاب يحمل أفكارا يجب ألا يخطها كاتبها المفضل.
لا يختلف هذا المشهد كثيرا عن مشاهد نقرأ عنها يوميا أو نراها، لقراء أو متابعين ومحبين وصحافيين، قرروا أن يجردوا كاتبا أو مغنيا أو فنانا من موهبته التي احتفوا بها قبلا على مدار السنوات؛ لأنه اختلف معهم فكريا، أو لأنه قدم عملا لم يعجبهم، وكأن الموهبة صارت مرهونة بموقف واحد، وليس بنتاج إبداعي على مدار سنوات، وكأن العمل الفني الأخير يشبه ممحاة تمحو ما قبلها.
فعل التطهر الذي فكرت فيه بطلة الفيلم المتدينة، في إشارة إلى الدوجما الدينية - أو السياسية في حالات مشابهة - لا يختلف عن فعل التطهر الذي يفكر فيه القارئ الذي يمحو تاريخ مبدعه المفضل بكلمة واحدة. لكن التطهر هنا يعود على القارئ وليس الكاتب؛ إذ إنه في محاولة للتحرر من تأثير الكاتب عليه طوال السنوات الماضية ودوره في تشكيل وجدانه وفكره وذكرياته، يقوم بمحو الكاتب أو المبدع من الوجود، أو اعتباره كأنه لم يكن، أو اعتبار أن كل ما كتبه هراء، وكأن القارئ يريد أن يقول لنفسه هنا: «إنه ليس شيئا، لم يؤثر في من قبل، إنه ميت، لم يقدم عملا مهما في حياته.» وهكذا تتوالى محاولات النفي لوجوده ولإبداعه.
وإذا كان الأمر يتعلق بشكل أساسي بنظرتنا أو فهمنا لمفهوم «الاختلاف»، و«الآخر»، و«الحرية الشخصية»، فإنه يتعلق أيضا بنظرتنا إلى المبدع بشكل عام، والربط بين الشخصي والإبداعي؛ بين ذات الكاتب كإنسان يمكن أن يخطئ، وبين نظرتنا له كمبدع يقدم أعمالا فنية يجب أن نقرأها وننقدها وفق معايير فنية محددة، وهو ما يجعل الكثيرين يسقطون أمرا على الآخر؛ أي يحاسبون مبدعا فنيا بسبب مواقفه السياسية، أو يجعلون فنانا ضعيفا رمزا فنيا بسبب ذات المواقف، مع أن ما يبقى مع الزمن هو الفن، والفن فقط، لا الحكم الآني الانفعالي المجامل.
ولو نظرنا إلى التاريخ لوجدنا أن عددا كبيرا من أبرز الكتاب لم يكونوا يشبهون الصورة الملائكية التي نرسمها لكل من امتلك موهبة؛ فالكاتب الألماني الحائز على جائزة نوبل «جونتر جراس» خدم في منظمة «فافن إس إس» النازية إبان الحرب العالمية الثانية، والفنان «مايكل دوجلاس» قاد حملة تبرعات لبناء عدة مستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والشاعر «آرثر رامبو» عمل في تجارة الرقيق والسلاح، أما الشاعر المهم «عزرا باوند» فقد عمل في راديو الفاشية الإيطالية التابع للديكتاتور موسوليني أثناء الحرب العالمية الثانية. وحتى لو نظرنا إلى ترشح الروائي البيروفي «ماريو بارغاس يوسا» للرئاسة في بلاده أكثر من مرة، ألا يضعه هذا في معسكر الكراهية من الطرف الآخر؟ أما تاريخ الشعر العربي فجله قائم على المديح مقابل المال؛ فأنت لا يمكن أن تنظر إلى شاعر العرب الأكبر «المتنبي» - إنسانيا - دون توجيه تهمة الانتهازية السياسية له وكتابة الشعر مقابل المال؛ ولهذا تارة يمدح كافور الإخشيدي وتارة يهجوه، لكن هل يجرده هذا من موهبته؟
في النهاية تذهب كل هذه التفاصيل الحياتية، ولا يبقى سوى الفن. فلا بد أن من يقرأ رامبو أو المتنبي أو عزرا باوند، بعد عشرات السنوات لن يهتم كثيرا بمواقفهم، لن يتوقف كثيرا إلا أمام صورة شعرية رائعة في قصيدة ما، حتى لو كانت القصيدة مصنوعة.
وفي فيلم «بؤس
Misery » الذي قام ببطولته «جيمس كان» و«كاثي بيتس» التي حازت عن دورها في الفيلم جائزة الأوسكار لأحسن ممثلة، نحن أمام كاتب شهير يتعرض لحادث فتنقذه قارئة مهووسة بكتاباته، ثم تعزله عن العالم لكي يكون لها وحدها فقط، وتكسر قدميه حتى لا يغادر البيت، وتحرق مسودة الرواية التي كتبها لأنها لا تتفق مع أفكارها! وتكاد مرة أخرى تحطم رأسه لأنه أنهى حياة بطلتها المفضلة في رواية أخرى، وتجبره على كتابة رواية جديدة يعيد فيها البطلة إلى الحياة، وفي النهاية تحاول قتله وقتل نفسها! وإذا رأى البعض أن هذه المشاهد تبدو خيالية، فإن الحقيقة هي أنه يمكن إسقاطها على الواقع بسهولة شديدة؛ فالقارئ أو المعجب يريد فنانه له وحده، منحازا لقضاياه، وإلا فإنه سيقتله في النهاية، دون أن يضع في الاعتبار أن للكاتب آراءه الخاصة التي قد تتغير أو تتطور، بحكم السن وبحكم الخبرة وبحكم فرضية الخطأ والصواب أيضا التي نعيش تحت مظلتها جميعا.
وفي مشهد ختامي من الفيلم، يحرق الكاتب الرواية التي كتبها لإسعاد قارئته المهووسة، كما أجبرته على إحراق كتابه المفضل من قبل، داعيا إياها أن تجرب ما شعر به عندما أجبرته على إحراق آخر أفكاره (مسودته) التي آمن بها، وهذا المشهد يطرح لب القضية: هل يكون الكاتب أمينا مع أفكاره وتطورها - سواء أكانت صحيحة أم خاطئة - أم ينجرف وراء ما يعجب القارئ فقط، من أجل مزيد من الإعجاب؟
لست مع تقديس المبدعين. أدعو إلى إنزالهم من مرتبة الملائكة ومحاكمتهم على أخطائهم البشرية، لكني أرفض ربط ذلك بفنهم، ومحو تاريخهم وتجريم إبداعهم عقابا لهم على مواقفهم؛ لأن الفن للتاريخ، أما المواقف اليومية فزائلة ومتغيرة. فالآراء تتبادل وتدور مع دوران الحياة اليومية، كما أرفض «محاكمة النوايا»، والاتهامات بالعمالة والتخوين.
هذا المقال ليس دفاعا عن موقف أحد، وليس انحيازا لأحد، لكنه انحياز للفن الذي غالبا ما يضيع تحت غبار المعارك والحروب الزائلة، لكنه في النهاية، بعد انتهاء العاصفة، يعود لبريقه كأن شيئا لم يكن؛ لأن هذه هي قيمة الفن، ولهذا يسمو، ولهذا يبقى.
ماتريكس أم ترومان شو؟
لو تم تخيير ترومان بيرنابك، بين العالم المصطنع الذي يعيش فيه، وبين العالم الحقيقي، ماذا كان سيختار؟ الإجابة التي لا أريدها منك الآن، تشبه الإجابة عن سؤال آخر، عن الفارق بين حلم/كابوس، نحياه بالرغم منا، لكننا نعرف أننا سنستيقظ في نهايته، وبين حلم صنعناه بأنفسنا ونجاهد لنصل إلى نهايته.
اللجوء إذن، إلى فرضية أن ما نحياه كابوس قد نستيقظ منه بعد قليل - فقط تأخر الاستيقاظ قليلا - ليس إلا بوابة للخروج من مواجهة الواقع، لكن هذه البوابة تتقاطع من جهة أخرى، مع الانتقام من الأعداء الواقعيين، باللجوء إلى قتالهم وهزيمتهم والتنكيل بهم، في أحلام اليقظة ليس أكثر، وليس بالضرورة أن يكون هذا دليلا على الضعف، بقدر ما هو دليل على تغير منظومة القيم، التي تجعل الإنسان السوبرمان يلجأ إلى العنف الخيالي، في عالم متسامح بطبيعته.
النوم هو بداية الحلم، لكن الموت هو نهاية الحياة، لكن الأنظمة القمعية تفضل الموتى الأحياء على طريقة فيلم ماتريكس، حين يصبح البشر مجرد بطاريات، ومن هنا فالثورة تبدو كلمة مستعصية على الفهم في عالم لا يحلم، بل يرى أن النوم موت، ويتحول فيه الموتى إلى أرقام بلا تقدير حقيقي لقيمة الإنسان الذي يموت في عبارة أو تحت صخرة جبلية، أو حتى دهسا بالمدرعات.
لم يكن فيلم ترومان شو
The Truman Show ، للمخرج بيتر وير، والفنان جيم كاري، إذن يطرح فرضا خياليا، بل هو الواقع، الذي نلجأ إليه لنهرب من كابوس نحياه يوميا، لكن يبدو السؤال الأهم هنا، ماذا لو لم تكن الحياة «ترومان شو»، بل كانت ما طرحه فيلم ماتريكس
The Matrix
للمخرجين آندي واكوسكي ولاري واكوسكي، حين يكتشف الجميع أنه مخدوع عن طريق برنامج تديره الآلة؟
الخداع هنا هو الحيلة التي نلجأ إليها جميعا، للخروج من حمى قهر الواقع، تماما كما نهرب من كابوسية الاستيقاظ، إلى حائط النوم، بحثا عن أحلام تربت علينا، حتى لو كانت هذه الأحلام ليست أكثر من انعكاس للواقع اليومي البائس.
إذا كانت السينما، رفضت فكرة صنع عالم من الحلم، المزيف، فلماذا إذن كانت العوالم الافتراضية، الحالمة في جزء كبير منها، مثل فيس بوك وتويتر، هي المهرب للكثيرين، حيث يقدم كل شخص وجها مختلفا عنه، وشخصية أخرى لا تشبهه، لكنه في الغالب كان يطمح أن يكونها أو أن يراه الناس عليها؟ وإذا كان يرغب في ذلك، فلماذا لم يكنها بالفعل؟
في ترومان شو، يكتشف جيم كاري، أنه مجرد فأر تجارب، في عالم مصنوع بالكامل، وأن كل من حوله ممثلون، في عالم يؤدي كل من فيه دوره بإتقان شديد، وأنه ليس أكثر من ممثل في أحد برامج «عالم الواقع»، وأن هناك من يتفرج عليه، وعلى زوجته، وعلى عمله، وأن كل ما يحدث ليس إلا جزءا من عالم افتراضي، وفي ماتريكس يثور البشر على برنامج الآلة، بحثا عن عالم أكثر واقعية، وتحقيقا للذات.
البحث عن الخالق، عن الحقيقة المطلقة، وراء هذا الوهم العظيم الذي نحياه، عمن يقف خلف الذين يحركون البشر والمصائر كعرائس الماريونيت، وهو ما يشبه ما نعيشه يوميا؛ حيث نفاجأ كل يوم بمصائر الأحياء تتغير، وكأنه مسرح، يغير فيه المخرج الأبطال والممثلين، في مشاهد دراماتيكية، لا يصدقها المشاهد.
الكتابة تصنع هذا في جزء منها، تتجاوز ما قبل به الذين يعرفون أنهم جزء من تمثيلية، للتعرف على ما وراء ذلك، هل الكتابة إذن هي محاولة للتصالح مع الذات، أم مع الخالق، أم مع العالم المحيط، أم محاولة لصنع عالم جديد، يخص الكاتب الوحيد؟ الإجابة أنها كل ذلك.
الكتابة ثورة، وربما تكون الملاحظة الأساسية، أننا أصبحنا نمتلك القدرة على الحلم بعد 25 يناير 2011، بالنسبة إلي لم أكن أتذكر أحلامي قبل اندلاع الثورة، كنت أراها تهاويم، ملامح سوداء ورمادية متداخلة لا أتذكر منها شيئا بعد أن أستيقظ. بعد الثورة أصبحت الأحلام واضحة تماما، ملونة، حتى لو كان العلماء يقولون غير ذلك، أتذكرها جيدا بعد الاستيقاظ.
ماتريكس، هو عالم افتراضي سلطوي، عندما قامت الآلات ببناء كمبيوتر ضخم جدا وربطت الأجنة البشرية الموجودة بالحقول بهذا الكمبيوتر للاستفادة من البشر كمصدر بديل للطاقة، وعاشت الأجنة البشرية وكبرت، ضمن حاضنات خاصة، وتمت السيطرة عليها عبر ربط برنامج تفاعلي للبشر يرسم الخطوط العريضة للحياة كما هي الآن، مع إمكانية تعديل العقول الموجودة في الحاضنات لهذا البرنامج التفاعلي. يطرح الأخوان واكوسكي في الفيلم عددا من الأسئلة العميقة والفلسفية حول عبودية الإنسان، وتحرره، وارتباطه بعالم تحت السيطرة الآلية، لا يمكن الثورة فيه، لأنك ترس في آلة، إن صدئت فهناك الكثير من التروس غيرك.
في فيلم ترومان شو، يسأل الابن ترومان، والده، أو المتحكم فيه: لماذا حبستني في العالم الوهمي منذ طفولتي حتى بلوغي؟ فيرد والده أنه لا يريد من ابنه أن يذوق طعم الألم في العالم الحقيقي، إلا أن ترومان لم يجد المنطق في كلام والده، لأن هذا هو المنطق الذي يتكلم به كل قاتلي الأحلام، وكل الأنظمة القمعية؛ لذا يسعى كاري إلى بلوغ النقطة الفاصلة بين العالمين، عالمه الحقيقي الذي يحلم به، والعالم القمعي الذي يحبسه فيه والده، في منطقة قرب السماء، وهو الأمر الذي يشبه تماما ذلك المشهد الأسطوري لميدان التحرير مساء 11 فبراير 2011، في السادسة وخمس دقائق بالضبط، عندما صرخ الشعب المصري صرخة واحدة عملاقة، سمع صداها العالم كله، فرحة بنجاح ثورته، وتحقق حلمه بالانعتاق من العالم الوهمي الذي صنعه النظام السابق، وبتكسير كل حواجز الخوف والقفز إلى مساحة جديدة من الألوان، تشبه تلك الألوان التي استخدمها كيروساوا في فيلمه «أحلام».
الثورة مرتبطة بشكل أو بآخر بالحلم، لأنها تأتي في الأساس على من افتقدوا الخيال السياسي، والقدرة على الحلم بالواقع الأفضل. الثائرون حالمون بطبيعتهم، ومن هنا يمكن القول إن هذا بعض ما يقوله فيلم الحالمون
the dreamers
للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي، الذي يتمرد على كوابيس الماضي من أجل أحلام المستقبل، ومن أجل تحويل هذه الأحلام إلى واقع. الفيلم يتحدث عن واقع مشابه لما نعيشه، وهو ربيع باريس عام 1968، حين حدثت ثورة الشباب على إغلاق جامعة السوربون والمطالبة بتعديل النظم الجامعية، ثم تطورت الأمور بانضمام العمال للطلبة وحدثت اشتباكات عنيفة بينهم وبين البوليس، واعتصم الطلبة في السوربون ومسرح الأوديون وتحولت إلى أضخم ثورة شعبية شهدتها فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى إصابة فرنسا كلها بالشلل التام حين عمت الإضرابات كل الخدمات العامة وارتفعت أصوات تطالب باستقالة شارل ديجول، وبغض النظر عن نتيجة هذه الثورة، فإن الحالمون بالتغيير كانوا هم من قادوها، ونقلوا حلمهم إلى واقع بدأ بتكسير التابوهات التاريخية.
لكن إذا كان برتولوتشي استطاع رصد تحول الحلم السياسي إلى واقع، فإن المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا استطاع أن يحول أحلامه إلى واقع، إلى شريط سينما، بل استطاع أن يحول أحلام الآخرين إلى واقع حينما استوحى لوحة حقول القمح والغربان للفنان فان جوخ في فيلمه أحلام
dreams ، والذي يروي فيه ثمانية من أحلامه الحقيقية، بدأها منذ كان طفلا، وحتى صار شابا .
الفيلم الذي يرصد مخاوف الفنان الميتافيزيقية، ربما كان حلما للفن بأكمله بتحويل الحلم إلى واقع، وهو ما جعل أربعة مخرجين كبارا يشتركون فيه، كيروساوا (صاحب الأحلام)، وستيفان سبيلبرج المنتج، وجورج لوكاس منفذ المؤثرات الخاصة، ومارتن سكورسيزي الذي لعب دور فان جوخ في أحد الأحلام. ويروي كيروساوا أن سبب الفيلم هو أنه تذكر نصا لديستويفسكي يقول فيه: «إن الأحلام هي أفكار عميقة مخبأة في القلب، وتخرج خلال النوم في جرأة وعبقرية.» ومن مبرراته أيضا: «الأحلام تعبير حسي عن الرغبة التي تخفيها في الأعماق، وفي لحظة شعرت برغبة جارفة في تسجيل أحلامي على الورق. بالضبط كنت أحس بفراغ كبير، بدأت أنهض صباحا وأسجل بانتظام أحلام الليل، بعد عدة ساعات أعطيت ابني وفريق التصوير ما سجلته ونصحوني أن أخرج منها فيلما، هكذا دون أن ألاحظ أن الذي كان في البداية أفكارا أقرب إلى البحث العلمي أصبح سيناريو فيلم.»
يذكر هذا أيضا بما فعله نجيب محفوظ في آخر أيامه، عندما كان يلجأ إلى تسجيل أحلامه في نصوص سردية بالغة العمق، في «أحلام فترة النقاهة»، لكن الأمر في فيلم كيروساوا، ومجموعة محفوظ، يتجاوز فكرة تسجيل الحلم إلى اصطياد الرؤية.
إذا كنا ندين للثورة بأنها كسرت حاجز الخوف والصمت داخلنا، فإننا ندين لها أيضا بأنها أعادت إلينا أحلامنا، ربما تروح الأحلام وتجيء حسب الدراما التي تعيشها، لكن الحلم أصبح واقعا، وأصبح ممكنا، بالرغم من المخاوف التي لا تنفد.
لا أحد يمكنه قمع الحلم، فقط يبقى على الحلم أن يدفعنا إلى الأمام، أن نصبح أكثر تصالحا مع أنفسنا، وتصبح شخصيتنا واحدة، تتماس وتمتزج، الشخصية التي في الحلم هي الشخصية التي في الواقع، هي الشخصية التي على فيس بوك وتويتر، لحظتها، لحظتها سيصبح الحلم واقعا، ونحطم عالم ماتريكس، ونخرج من رداء ترومان شو.
قتلة بالفطرة
في أول مشهد من فيلم «قتلة بالفطرة» الذي كتبه كوينتن تارانتينو، وأخرجه أوليفر ستون، يقتل الزوجان السفاحان «ميكي ومولي» جميع رواد المطعم ثم يتركان شاهدا واحدا، لأنه هو من سيوصل ما حدث للإعلام ، وهو ما ظلا يفعلانه في كل جرائمهما فيما بعد، في إدراك منهما لأن الصحافة ستحولهما إلى نجمين أكثر شهرة من أوبرا وينفري.
الفيلم الذي أنتج عام 1994 وأثار الجدل مطولا، يبدو هو الأقرب لوصف المشهد العربي الحاضر، من احتفاء بالعنف، سواء من الإعلام الذي يقوم بذلك، أو من القتلة أيا كان تصنيفهم، فبإمكان من يتابع وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومواقع إخبارية أو قنوات فضائية أو مواقع تواصل اجتماعي، أن يدرك كم الجرائم التي ترتكب من شائعات وخلق مجرمين، والمساعدة على أن يصبحوا نجوما يخطفون الأنظار، وأن يصبح الدم مشهدا عاديا عادية المياه في الحياة اليومية، لا يلفت الانتباه أو يثير الاهتمام.
ولأي لعبة قتل طرفان، قاتل وقتيل، لكن في هذه اللعبة يقوم الطرفان بالقتل الممنهج. يقومان به وهما يعرفان ما الدور الذي يقومان به، يعرف الصحافي أن ذلك سيساعده لكي يكون أكثر شهرة، ويعرف القاتل أن ذلك سيجلب له أتباعا، ومتابعين وتابعين، عشاقا، وخائفين، وأن صورته ستحل في الصفحة الأولى من الصحيفة إلى جوار الصحافي الشهير «الذي يبيع ويشتري الخوف» بحسب وصفه في الفيلم.
من أبرز الجماعات الراديكالية التي اكتشفت أهمية الإعلام، كان «تنظيم القاعدة» الذي كان حريصا على توصيل رسائل زعيمه الراحل أسامة بن لادن إلى قناة الجزيرة عقب أحداث 11 سبتمبر، ومن بعده سار تنظيم داعش على نفس الخط، وهو ما يفسره نشاطه الغريب، على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك وتويتر ويوتيوب)، وحرصه الشديد على نشر صور الرءوس المقطوعة، وإطلاق الرصاص على المدنيين العزل، وعمليات القتل الجماعي، والرجم، وقطع الأيدي، والإعدامات، ومن يراجع جل هذه التسجيلات فسيجد أن من قام بنشرها هو التنظيم بنفسه على خلفية أناشيد حماسية متوعدة، ولم يكتف التنظيم بهذا، بل أعلن عن نيته إطلاق قناة فضائية، كما لجأ أيضا إلى إصدار مجلة إلكترونية حملت اسم «دابق»، باللغة الإنجليزية، وهو ما يدعو للتساؤل لماذا يلجأ تنظيم يقول إنه إسلامي ويسعى إلى إعادة الخلافة إلى إطلاق مجلة بالإنجليزية وليس بالعربية، والإجابة طبعا في كلمة واحدة وهي «الإعلام ». فكما شاهدنا في فيلم أوليفر ستون الناس من كل أنحاء العالم وهم يتابعون جرائم السفاحين بشغف وحب لدرجة أن حولوهما إلى نجمين تتصدر صورهما أغلفة المجلات، لدرجة أن هذا الجمهور «يتظاهر» احتجاجا على اعتقال القاتلين، نرى على أرض الواقع «الجهاديين الأجانب» الذين ينضمون إلى داعش، والجهاديات اللائي يسافرن بحثا عن «رومانسية الحرب» بحسب تعبير إحدى الوكالات الإخبارية.
الأمر ليس متعلقا بما تفعله التنظيمات الراديكالية فقط، فما شهدته المنطقة العربية، ولا سيما الدول التي شهدت تحولات سياسية جذرية، خلال الأربع سنوات الماضية، يكشف أنه كانت للإعلام اليد الطولى في الأمر؛ في إقامة المظاهرات وإسكاتها، في الانحياز للنظام والصراخ ضده، في تحريك الشعوب وإخفاء صوتها. الصراخ الذي ينبعث من البرامج التليفزيونية يكشف عن أن كل ما يحدث من احتفاء بالدم أو سكوت عنه ليس إلا لعبة في يد أفواه تتحرك في أغلب الأحيان كعرائس الماريونيت، تتبدل المواقف والآراء في ذات اللحظة، فهكذا تقتضي اللعبة التي تحتاج إلى مهارة في التعامل، وقدرة على التقاط الموجة الرابحة، سواء كان هذا لصالح رأس المال، أو لصالح شخصي، أو لصالح سلطة ما، أو رغبة في استمرار إضاءة الكاميرات التي تضيء في كل مكان، بحثا عن تصريح لا قيمة له، من شخص يجلس ويخاطب الملايين، فلا يعرف «الجمهور»، مع التكرار اليومي، هل هو مجرد أراجوز أم خطيب مفوه.
في عام 2003 كنت أعمل صحافيا بجريدة الشرق الأوسط عندما احتلت الولايات المتحدة العراق، وكان عدد قتلى التفجيرات في العراق، يحتل المانشيت الرئيسي في الصفحة الأولى دائما، في الصحيفة التي أعمل بها أو الصحف المصرية أو الأجنبية، لكن مع استمرار الأمر، تضاءل الخبر، وانتقل إلى طرف الصفحة، ثم انتقل إلى صفحة داخلية، ثم اختفى في صفحة تكاد تكون غير مقروءة بأقل عدد من الكلمات؛ لأن الناس اعتادت الأمر، وأصبح عدد القتلى مجرد «رقم» ليس أكثر، ولأن الإعلام مل الحدث، وبدأ يبحث عن ضحية جديدة يسلط عليها الضوء. كل هذا رغم استمرار القتل في العراق بصورة يومية، تكاد أن تكون نمطية طوال تلك السنوات، ولكن دون اهتمام أو شغف إعلامي، إلى أن ظهر من جاء بالشغف بشكل جديد للقتل والتدمير والذبح والسبي؛ وهو تنظيم داعش، فعادت الكاميرات مرة أخرى تنظر إلى هناك.
الإشكالية هنا في احتفاء الإعلام الذي يحول خبر القتل إلى خبر عادي، لم يعد مثيرا للشفقة ولا للغضب، ولا حتى للاستياء، ولا لأي مشاعر، وهو ما عبر عنه أوليفر ستون في مشهد رائع، عندما كانت السفاحة «مولي»، تحكي عن طفولتها وكيف أن زوج أمها كان يغتصبها، لكننا على خلفية هذه الحكاية المأساوية نسمع في الفيلم تصفيق الجمهور وضحكهم كأنهم يشاهدون مسرحية وليس جريمة بشعة.
في آخر فيلم «قتلة بالفطرة» يساعد الصحافي السفاحين على الهروب من السجن لكي يحظى بسبق صحافي، ثم يقتله السفاح «ميكي»، فهو لا يحتاج إلى شاهد على جرائمه، مكتفيا بالكاميرا التي تتابع تحركاته، وهو ما يمكن تفسيره بدلالات كثيرة، لكن قبل حادثة القتل يدور حوار مثير، فيقول ميكي: «قتلك وما تمثله هو تصريح علني، ففرانكشتاين قتل مخترعه»، في إشارة إلى أن السفاح من صنع الإعلام. فيرد الصحافي: «أنا مجرد طفيلي، ألستما بقاتلين؟ أنتم لنا، للملأ والإعلام، هكذا هي الأمور.»
ما مضى ليس انتقادا لدور الإعلام في كشف الفساد وجرائم القتل، بل لدوره في جرائم القتل، لاحتفائه بالموت، بتحويله إلى حدث مسل وليس مأساويا، بتحويله إلى حدث اعتيادي لا حرمة له، بسكب الجثث من شاشة التلفاز على موائد الأطفال.
غياب الإعلام لا يعني غياب الجريمة والقتل، لكن استخدام الإعلام مرة في يد رأس المال، ومرة في يد القاتل، ومرة في يد السلطة، ومرة بحثا عن الشهرة والسبق؛ يساهم في زيادة كل ما مضى.
لم يطلب أحد من الإعلام أن يكون محايدا تماما، لكن الجميع يعرف أن الإعلام يجب أن يكون لديه ضمير، وإلا فلن نعرف الإجابة الحقيقة عن سؤال: «من هم القتلة بالفطرة؟» المجرمون أم وسائل الإعلام؟
كتابة
طوبى للغرباء
من إرسال متقطع لأثير الإذاعة، تنطلق أغنية قديمة كأنها قادمة من زمن آخر: «إيه يا بلاد يا غريبة، عدوة ولا حبيبة !» يدير جميع من في السيارة التي تقطع الصحراء وجوههم إلى النوافذ التي تجاورهم، تتماهى مع اللون الأصفر القاسي، لا يبقى من ملامحهم الحقيقية سوى حبات عرق تيبست، ربما دليلا على أن أحدا كان هنا.
1
يقولون: «في السفر سبع فوائد»، لكن الغريب لا يعرفها ولا يفكر فيها، يفكر فقط في وجهه الذي لا يشبه من حوله، في لسانه الذي لا يريد أن ينطق، في فنجان القهوة الذي ينفد واحدا تلو الآخر، في المقهى الذي يجلس منزويا في ركنه متوجسا من لا شيء، وعيناه معلقتان بتليفزيون لا يعرض شيئا، في الأرصفة الطاردة من شارع إلى شارع، في البنايات العالية الشاهقة التي تطل من عل كأنها تبتسم في سخرية، في السحابات التي لا تظل أحدا، وفي الليل الذي يمتد طويلا طويلا كغطاء تفرده المدينة على جسدها، تتحرك تحته الخفافيش صارخة بكلام غير مفهوم.
2
في ليل الغربة يضحي لكل شيء معنى، لكل التفاتة حكاية. التاكسي الذي توقف والباص الذي لم يتوقف، المطعم الرخيص الذي يغلق أبوابه مبكرا، والأضواء المنبعثة من ملهى يضج بما في داخله، ابتسامة نادل المقهى المتثاقلة، وضحكة العابر على الرصيف المقابل غير المفهومة، نوافذ البيوت المغلقة على ما فيها، والماء الذي «ينقط» من ملابس منشورة على رءوس المارة، الحكاية المبتورة للراكب المجاور في الباص، والمحطة التي مرت وأنت تخجل أن تنطق لتطالب السائق بالوقوف، العودة سيرا لتأمل الوجوه نفسها، الفاترينات نفسها، الملابس نفسها المغبرة المعلقة على مانيكانات عتيقة، تنظر بجمود نظرة تقول كل شيء ولا تقول أي شيء.
3
كل بيت يترك علامة؛ البيوت التي صعدنا إليها في المقطم، والتي هبطنا إليها في مصر القديمة، والتي سرنا إليها في القاهرة الفاطمية، والتي ركبنا لها المترو في حلوان. ثمة عنكبوت كان نائما في الركن، ثمة شرخ في الجدار امتد إلى الروح، ثمة جار قال كلمة وانصرف فبقيت الكلمة محفورة في الذاكرة إلى الأبد، ثمة بائع طرق الباب، ولما فتحنا لم نجد أحدا.
4
من الذي يسافر في الآخر؛ الناس أم المدن؟ أيهما الذي يهجر الآخر، يولي وجهه للجهة الأخرى؟ كل يترك في الآخر آثاره. هل كانت ستكون هناك مدن من دون هؤلاء الناس؟ أفكر في الرجل الأول دائما الذي قرر أن يهجر محيطه ويذهب إلى الفراغ؛ حيث لا شيء حوله سوى الصحراء أو الرمال، فيم كان يفكر وهو ينصب خيمته؟ كيف مرت عليه ليلته الأولى ولا شيء حوله سوى صراخ الرياح في الخارج؟ هل اكتفى في يومه اليوم بأكل العشب ثم سار إلى البحر باحثا عن الحياة؟ كيف استقبل ضيفه الأول، وكيف أقنعه بالبقاء؟ هل كان يفكر في لياليه الطويلة في «الونس»؟ كيف فكر نوح - عليه السلام - بعد أن حطت السفينة، ولم يكن هناك أحد سواه؟ وفيم فكر سام وهو يشد رحاله إلى بلاد بعيدة لا أحد فيها؟ ألف «كيف» و«لماذا» و«متى» و«أين» تتشكل على جدار الليل كبقع بيضاء في جدار أبيض، تتسع تدريجيا، تبهت، فيظهر خلفها البراح؛ البراح الطيب، البراح القاتل.
5
في الرحلة الأولى دائما نفكر في الآتي المجهول، ولا نفكر في الماضي الذي تركناه؛ خلفناه. في الرحلة الثانية نقسم أفكارنا بين ما ذهب وما هو قادم. في الرحلة الثالثة يقتلنا الحنين ونحن نخطو إلى الطائرة/القطار/السيارة. نطأ الأرض بقوة كأننا نطأ ذكرياتنا التي لا تنفك تلح مثل ضجيج في المقهى الشاغر إلا من غريب لا يعرف مصدره ولا كيف يوقفه، لكنه حتما يؤنسه.
6
كل الحكايات المخيفة عن الرمال التي تأكل الروح، والبنايات الشاهقة التي تقزم ما بجوارها تتجمع، كل الرسائل التي ترسلها الأرض والسماء تفك شفرتها بلا جدوى؛ فرغم ذلك نودع أمهاتنا، وأصدقاءنا في المقهى، وقبور آبائنا، وشمسا ظلت مبتسمة في وجوهنا على الدوام، ثم نشد الرحال. ماذا سيقلنا حتى نبتعد عن القرى التي تأبى أن تلفظنا لفترة طويلة؟ النوق أم الحمير أم المراكب البيضاء أم الطائرات؟ وهل يهم؟! وهل الدموع التي قد لا نراها تسيل لتبلل الثرى الولود لآخر مرة ستنبت غيرنا؟!
7
سنحصل على ألقاب جديدة، وأسماء جديدة، لكن أميزها «الغرباء». نسير به في الشوارع، ونستند عليه في طوابير التذاكر، ومكاتب العمل المزدحمة، نعلقه على صدورنا كالسجناء، على جبهاتنا كرصاصات تخترق رءوس أسرى الحرب، نهز الناس في عنف، ونصرخ في الحافلات والبنايات والمقاهي: «نحن غرباء.» غرباء، لكن هذا الضجيج سيصم آذانهم حتما. نختبئ؛ فتفضحنا وجوهنا، قمصاننا، لهجاتنا؛ فنسير ونحن نحاول أن ننسى الأحلام التي طالت السماء ثم ضربتها صاعقة فعادت إلى الأرض، وحكايات الحب القديمة، وصوت فيروز الذي ينبعث من مكان لا نعرفه، لكنه ينسل كخيط ضوء في شارع معتم: «يخرب بيت عيونك يا عالية، شو حلوين!»
8
أحيانا أشعر بالشفقة على هذه القرى والمدن والدول التي تربي، تنشئ وتطعم، وتربت على أرواحنا، وفي النهاية تختطف المدن الكبيرة منها فلذات أكبادها. عبر آلاف السنين تفعل المدن هذه الفعلة الشنيعة مع القرى، ورغم ذلك فإن القرى الطيبة لا تثور على المدن، بل تظل مكانها أكثر صبرا من «أبو الهول» واثقة من أنها ستنشئ أولادا لن يخونوا العشرة؛ أولادا لن يتركوها وحيدة ترتعش بينما صحراء تزحف، وجبال تتطاول.
9
يتغير مفهوم الغربة كلما انتقلنا من مكان إلى آخر، كلما تغيرت وسيلة المواصلات، من دراجة إلى سيارة إلى قطار إلى طائرة، من قرية إلى مدينة إلى عاصمة إلى دولة عربية إلى أخرى أجنبية، يتغير المفهوم مثل فيلم من أجزاء متتالية، جزؤه الأخير لا يمت بصلة إلى جزئه الأول. تتغير المفاهيم كما تتغير الذات، تسكن العين نظرة شفقة على القادمين الجدد، بينما في الداخل جرح لا يزال ينزف، حتى وإن غطته القمصان الجديدة، واللهجة التي تحاول أن تختبئ خلف مكتب فخم وابتسامة عارف واسعة، لكن ثمة حرف سيتسلل مثل ملاك رأى النور فقفز في الفراغ.
10
أخشى ما يخشاه المسافر أن يفقد إحساسه بغربته تماما. سيشعر وقتها أنه فقد ذاته. عندما كنت صغيرا كان الذين يسافرون للعمل في العراق يرسلون مشاعرهم مسجلة على شرائط كاسيت، لم يكونوا يقولون شيئا ذا بال، فقط «التحيات والسلامات على كل من عندكم.» لكن ثمة شيء لم يكن يقال؛ أنهم حريصون على هذا الطقس حتى لا يفقدوا ذواتهم. يعيدون الاستماع إلى الشرائط المرسلة إليهم، محاولين استخراج شيء منها يربطهم بما تركوه؛ ربما تهدج صوت، صياح ديكة في الخارج، ضحكة طفل، أغنية قديمة تدور في الخلفية. الذين ظلوا طويلا توقفوا عن هذا الطقس، ذابوا تماما مثل معتقل يلقيه سجانوه في حمض الكبريتيك المركز. الوجوه التي أراها لكثيرين جاوزوا الستين ما زال محفورا في ملامحها أنهم من بلاد بعيدة، بعضهم يحاول أن يحافظ عليها بزي شعبي، بلهجة تتعثر وتخشى السقوط، بحكايات قديمة يروونها لأي أحد، لكن البعض الآخر بهتت ملامحه فأصبح مجرد رقم مثل آلاف الأرقام غيره، مثل عود كبريت ينتظر فقط النار ليبدأ في الاشتعال.
11
يقول المسافر في الخارج بعد أن يكون قد نسي كل شيء عن بلاده واستغرق في حياة جديدة، وتقاليد جديدة: «أريد أن أدفن في بلادي.» رغم أن الأمر لم يعد يعنيه في شيء. أقصد: لا يعنيه ما سيحدث بعد الموت، لكن ثمة شيء في تراب بلاده، ينادي النطفة التي انطلقت منه، هناك سيكون أكثر راحة. هناك سيشعر أنه عاد إلى «علبته» التي خرج منها، واستطاع أن يعود ليرقد فيها. هل يمكن أن تفسر ذلك بأي شيء؟ هل ستقول لي إنه الحنين والنوستالجيا؟ قل ما شئت! فالغريب لا يهمه كل ذلك، لا يفكر فيه؛ فالوطن أصبح قابعا ما بين موت ينتظره وحياة فقدها ويريد أن يعوضها في ترابه، حتى ولو بعد موته.
12
تواصل الحافلة انطلاقها، تواصل الأغنية عديدها المكتوم. لا يجيب أحد عن سؤال مطروح، ولا دعوة للتواصل: «قول للغريب حضنك هنا، دربك قريب من دربنا ... حزن البشر ده حزننا.» تتماهى الملامح مع الرمال، مع البنايات، تذوي، تتلاشى، تغدو جزءا من جدار يريد أن ينقض ولا يجد من يقيمه. في الأفلام العربية، ستعود السيارة من حيث جاءت بحثا عن النهاية السعيدة المرضية. لكن من قال إن في هذه الحياة نهاية سعيدة؟!
أرواح مرت من هنا
أغمض عينيك، واترك نفسك للطريق تماما. دع الخيال يجمح، وادخل صورة من الصور القديمة التي تتصفحها في مجلتي «الاثنين والدنيا»، و«اللطائف المصورة». ترجل من السيارة، وامش إلى اليسار قليلا. لا زحام هنا، لا ذكريات؛ فقد تحولت إلى حقيقة، حتى المارة القليلون الذين يمرون حولك ليسوا إلا أروحا هائمة. هل هذه طفولتك؟ ذكرياتك؟ حلمك بأن تعيش في زمن آخر؟ رغبتك بأن تكون المدينة أجمل كما كانت في الصور البنية القديمة المهترئة الحواف؟ أهلا بك معنا. لقد وصلنا.
1
ما الذي يجذبنا إلى زيارة الشوارع القديمة؛ تلك التي تربينا فيها وصافحتها أقدامنا طويلا؟ ما سبب ذلك الحنين إلى البيوت القديمة التي «شخبطنا» على حوائطها بالطباشير والأقلام والألوان، ورسمنا على أسرتها ملائكة مجنحين؟ ما الذي نبحث عنه - حين نعود بعد غياب - في حيطانها؟
هل هي الرغبة في استعادة الأشياء التي فقدناها في الطريق، فنعود لنبحث عن «قطع غيار» لها في البدايات، مع وعود بأننا سنكون أفضل؛ وعود نتخلى عنها فور أن تدهسنا جرافة العمل اليومي؟ لماذا تبدو مرايا البيوت القديمة مكسورة، لا تظهر فيها وجوهنا كاملة، بل نصف وجه لكهل، ونصف وجه لطفل يهرول مرحا في جوانب البيت؟ لماذا نعجز عن القبض على تلك اللحظة، فنكتفي بابتسامة عاجزة، وغصة في الحلق، ونحن نتأمل كل شيء حولنا في صمت يليق بالجنازات وحدها؟
2
أجمل مكان في أي مدينة تزورها - كبيرة كانت أو صغيرة - هو «وسط البلد»؛ ليس لأنه مركز المدينة التجاري فحسب، بل لأنه كان البداية. تستطيع أن تقول إن ثمة بيتا وحيدا كان هنا في البداية، ثم قامت البيوت حوله، ثم اتسعت المدينة في دوائر أوسع وهكذا امتد العمران. في البداية فقط تستطيع أن تراجع نفسك، في البداية يمكنك أن تسائل نفسك عن كل الذي خسرته في رحلتك الطويلة تلك، كأنه عودة إلى الرحم الأولى، محاولة جديدة للبدء، أو استنشاق لرائحة الذين مروا من هنا، تركوا أرواحهم معلقة كمشانق ملونة تجذب المارين، وغادروا.
3
من صاحب البيت في البيوت المسكونة؟ ما الذي تعنيه البيوت المسكونة أصلا؟ مسكونة بمن؟ بناسها الحقيقيين أم بأغراب ضلوا الطريق فبحثوا عن مكان يسترهم من برد وعراء وعواء الليل ؟ في فيلم «الآخرون» لا تعرف من صاحب البيت الحقيقي إلا في آخر لحظة. لم تكن خدعة تشويقية من فيلم رعب نفسي، لكنها كانت سؤالا؛ عن الذين يزوروننا في أحلامنا، عن الذين يتحدثون عن البيوت المسكونة، عن الذين يهجرون بيوتهم، لكنهم يعودون إليها يوما، ربما بعد الموت، وربما آخر الحياة، كما نفعل نحن الآن.
4
بمجرد أن تضع قدمك في أول شارع طلعت حرب ستشعر بهذا، بالنقوش القديمة التي ستخطف عينيك، وتنقلها من نقش إلى آخر، من حكاية لم تنته في عمارة إلى حكاية أخرى، من رصيف إلى آخر، من روح تمر في خفة من هنا إلى هناك. أغمض عينيك، ودع قدميك تنقلانك من «طلعت حرب» إلى «قصر النيل» إلى «عدلي» إلى «26 يوليو»، ثم عد إلى «الشيخ ريحان»، و«جواد حسني»، و«هدى شعراوي»، ولا تنس أن تمر على «محمود بسيوني»، و«محمد فريد». زر «صبري أبو علم»، و«شريف»، و«عبد الخالق ثروت»، وحاول أن تمسك بالرائحة الأخاذة في يدك. اقبض عليها جيدا ودعها تسكنك، رائحة المكان أو رائحة الزمان ربما. ابتسم في وجوه الباعة، ولافتات السينمات القديمة، انظر بطرف عينيك إلى «جروبي»، و«النادي الدبلوماسي»، و«ريش». لوح لطالب لا تعرفه خرج من الجامعة الأمريكية ضاما إلى صدره ثلاثة كتب، أنصت لصوت عامل المقهى وهو يخبط الملعقة داخل كوب الشاي فيما يمر إلى «زبون» يتأمل قصر «شامبليون» أمامه، وربت على رءوس الأطفال المارين. اشتر صحيفة من بائع يجلس أمام «الأمريكين» واقرأ تاريخ صدورها جيدا؛ فربما كان قبل قرنين.
5
كأن «نداهة» تجذبنا إلى المدن القديمة، التي لم يتبق منها سوى بقايا جدران، ونقوش تدل على أن أحدا مر من هنا. ليس الأمر رغبة في زيارة الآثار، ولا ولعا بالأماكن القديمة. سيقول لك هذه الإجابة كل سائح يأتي من آخر الدنيا لكي يعبر تحت سقف الهرم محني الرأس مفتوح العينين والفم منبهرا، كل شخص رفع رأسه عاليا لكي يرى نهاية المسلة والمعبد. الأمر ليس إعجابا فقط بحضارات كانت، بل بأرواح كانت هنا ؛ تركت آثارها على كل مكان، حتى على التراب الذي نخطو عليه. لمسة يدك على الحائط تتلمس مكان يد عامل، وقدمك تسير على خطى كاهن مر من هنا، تشعر أن هذا المكان مختلف عن أي مكان آخر، أن شيئا غريبا لا تستطيع أن تحسه إلا هنا. من يسكن بيتا قديما يعرف ذلك؛ يعرفه وهو يجد آثار من سكنوا قبله، وأنفاسهم على الهواء. إنه روح المكان، وطأة قدم الزمن، روح الحكايات التي تبحث عمن يستعيدها، فلا تجد إلا ضجيجا - أشبه بكائنات أسطورية عملاقة - يلتهمنا جميعا.
6
أنت الآن تعرف السر، تعرف أين تجد نفسك، أين ستسير، وإلى أين ستصل، من ستقابل وماذا ستقول، أي روائح ستتبعها، وأي حكايات تاريخية ستراها تحدث أمامك، أين ستجد نفسك وكيف ستستعيد الطفل التائه منك. فقط أغمض عينيك، ودع الحياة تبدأ.
أحب الشتاء ... أكره الشتاء
«نوة إسكندرية»، المطر الخفيف الذي يضرب شيش النافذة، يداك في جيبيك ورأسك غائص بين كتفيك وتسير مبتسما، رجل يغطي رأسه بالصحيفة ويهرول تحت زخات خفيفة، ولد يغطي رأسه ويضع في أذنه سماعات يتسرب منها صوت منير: «اللي قضى العمر هزار، واللي قضى العمر بجد، شد لحاف الشتا من البرد.» ابتسامات متبادلة ومحاولة للاختباء أسفل أي شيء في انتظار الباص، مساحات سيارة تروح وتجيء كأنها تلوح للسحاب، النشرة الجوية تنهمر من الراديو لتعلن أن السحب متكاثفة وستمطر غدا مرة أخرى، باعة الآيس كريم في «طلعت حرب»، وأطباق العدس الساخنة في محل منزو في شارع شامبليون، بائع الصحف يغطي جرائده بأكياس نايلون ويختبئ أسفل شجرة، مشهد من فيلم قديم لحبيبين يرقصان تحت زخات المطر، على أنغام موسيقى تختفي وراء صوت تساقط المطر على الأسفلت، كأنها دقات عازف ماهر.
1
هناك ألف سبب لكي تحب الشتاء، وسبب واحد لكي تكرهه وتنسى تلك الأسباب؛ وهو «الموت». ثمة وجه آخر دائما للحقيقة. غائص في سريرك بين أغطية ثقيلة، تحاول أن تدفئ قدميك، وتقبض على كوب شاي ساخن بكلتا يديك، كإعلان تليفزيوني مبهج للشتاء، وتطالع على الإنترنت، أو تشاهد في التليفزيون أخبارا عن أطفال يموتون من الصقيع. لست مهتما بالخلفيات السياسية للأمور، وليس مهما لأية جهة تنحاز، لكنه الشتاء الذي أتى حاملا قناع الموت. يشارك أصدقاؤك صور الأطفال الموتى على فيس بوك وتويتر؛ وجوه مزرقة، وعيون مغلقة، وثلج في كل مكان، ملابس شتوية ممزقة، سماء غاضبة، وموت يرفرف في كل مكان بأجنحة سوداء قاتمة.
2
في الشتاء تحب أن تمشي على البحر، أن تشتري «حمص الشام» من البائع الجنوبي على الكورنيش، أن تلتهمه في صمت، مقتنصا سخونته والمذاقات المتداخلة فيه، فيما تتأمل النار الصاعدة تحت القدر، تستمع إلى «رجعت الشتوية» قادمة من مكان مجهول، لكن الصوت يصل إليك فيدفئك. نساء بمظلات ملونة ورجال بقبعات سوداء، أولاد بمعاطف المطر، وبنات بقفازات ضاحكة، الشوق لشمس الشتاء الخجولة، بائع الخبز يمرق بدراجته سريعا قبل أن تختفي الشمس، وبائع البطاطا الساخنة ما زال واقفا في مكانه. تدرك الآن أن هذا الوقت مناسب جدا للذكريات، للحنين، للبكاء، للضحك، للابتسام، للشجن، لإزاحة الركام عن أحاسيس منسية، مختبئة من حرارة الصيف ورياح الخريف وآن لها أن تخرج، لألف شعور متداخل لا يعني شيئا إلا أننا في الشتاء.
3
أضع صور الأطفال وهم يلعبون بالثلج، بجوار صور الأطفال الذين يموتون، عيونهم مغلقة، والثلج على أفواههم. أتذكر نفسي صغيرا في انتظار بهجة الثلج الذي سيضاف على العصير صيفا، ولوح الثلج الذي أحمله من العربة إلى مدخل البيت، كأني أحمل جمرة من النار. كيف يمكن أن يحمل الثلج كل هذا التناقض داخله؟ الحياة والموت، الظمأ والارتواء، الماء والنار. حكت الشاعرة «إيمان مرسال» ذات مرة عن تفاصيل دفن كانت شاهدة عليها في كندا، وكيف أن الرجال تعبوا كثيرا في إزاحة الثلج وإقامة حفرة للجسد في الأرض، وكيف انفجر جميع من في العزاء باكين عندما تصوروا مشهد جسد المتوفاة تحت ركام من الثلج، «لا بد أن خاطرا لا منطقيا من قبيل أنها ستكون باردة ووحيدة مر بخيال البعض. بدا لي أن الثلج أكثر وحشة من التراب.»
4
لسعة البرد الخفيفة في الصباح، البخار المتصاعد من أفواه طلاب المدارس وتشكله أحلاما، النظر إلى السحابات الرمادية والشمس المنزوية في الخلف، وسؤال: ها ... ماذا بعد؟ لمسة الاكتئاب الخفيفة، لحظة الشجن المقتنصة، بين هذا وذاك، «فيروز» صباحا على الكمبيوتر، و«أم كلثوم» مساء في الحافلات العامة، و«علي الحجار» ظهرا: «لما الشتا يدق البيبان».
5 «مصرع 270 مواطنا في أسوأ كوارث السيول بصعيد مصر، السيول تجتاح قرى بالصعيد، والأمطار تهدم منازل بالقاهرة وتصيب الحياة بالشلل.» كان ذلك مانشيت صحيفة مصرية في عام 1994، أذكر ذلك جيدا. كنا صغارا، لم نكن نعرف الثلج الذي يقتل، لكننا عرفنا السيول التي تغدر وتفرق وتشرد وتقتل، فاحتفظنا بمحبتنا للثلج وكرهنا السيول. تكرر الأمر بعد ذلك بدرجة أقل، جاء الموت خلال العامين الأخيرين ملتحفا بعواصف ثلجية ليقتل اللاجئين الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، ومن دفء حيطان تحاول أن تصد جيوش الشتاء. الموت هو الموت في النهاية؛ له غصة في القلب، ومرارة في الحلق، له ملمس بارد، كأنه الشتاء تماما.
6
هل لو ظلت «سنووايت» في الشمس قليلا ستحترق؟ هل ستصير ماء؟ كم ستملأ؛ كوبا صغيرا أم كبيرا ليشرب منه الأطفال العطشى؟ هل ستنتهي حكايتها إلى الأبد؟ ربما لا تكون المشكلة هي «الشتاء»؛ ففي كثير من بلاد الله تحدث السيول، ويهطل الثلج، لكن يبقى الموت بعيدا؛ لأن هناك جدرانا تحجزه وتبعده عن الأطفال. يبقى واقفا يترقب، لكنه لا يجرؤ على الاقتراب، ربما يعقد - مع الوقت - صداقة مع الشتاء ويذهبان إلى المقهى، في الليالي القمرية، يشربان كأسين من الفودكا، ويشكو الموت من قلة العمل.
7
أحب الشتاء، وأكره الشتاء. لا يبدو الأمر ملغزا، ولا عصيا على الفهم، لا يحتاج إلى شرح وتبيان، هو وجه العملة الآخر للموت، ووجه العملة الآخر للحياة، فقط ألق عملتك على الأرض ودعها تستقر لكي تعرف في أي جانب أنت. ألم أقل لكم؟ ليس الأمر إلا وجها غامضا جديدا من وجوه الحياة.
أفكر في النهايات
12
كل قصص الحب ستنتهي بالفشل، العشاق الواقفون على الكورنيش سيلقون بأنفسهم في النهر بعد قليل، الطيور المحلقة ستهوي بمجرد أن تفرغ بطارياتها ، كل الحكايات مرة والقصائد تخطو على زجاج مبشور. «الكيبورد» ستأكل أصابعي، ولن تترك سوى جثة تحدق في الشاشة، في انتظار النهاية.
11
ولدت في آخر يوم من عمري، كنت عجوزا، بلا وجه للبطاقة الشخصية وكارنيه التأمين الصحي، بلا تقويم على الحائط، بلا لفافة تبغ في فمي. تنهرني البدايات وتفتك بي، فأهرب للنهايات. أنادي السيارة لتصدمني، وأغني للطبيب: لا بد أنني مصاب بالسرطان. سينتهي الفيلم، وتسدل ستائر المسرح، ويهوي لاعب السيرك على رقبته. هذه الوردة ستذبل بعد قليل، وتلقى في سلة المهملات، ومصاص الدماء الخالد ستسقط أسنانه ويموت متسولا على الرصيف، هذا الطريق سينتهي بهاوية، أما النسيم العليل فمقدمة لريح صرصر عاتية، ربطة العنق ستكون مشنقة مناسبة، وعود الكبريت سيحرق الشقة ذات يوم. هذه الابتسامة ستتجعد مع الزمان وتخيف الأطفال، والأطفال أنفسهم سيصبحون كهولا محنيي الأظهر كقوس قزح. قوس قزح سيسقط في يد صياد ويرتدي الأسود، أما الصياد فسيصرخ في فم تنين يتسكع على النهر ولن يجد من ينقذه، فقط الموتى وحدهم أسفل الأرض، ينظرون إلى المارين فوقهم ويبتسمون في حكمة، حكمة من أدرك الحقيقة ولا يصرح بها.
10
ذات مرة كنت في قاع البحر، لم أفكر في النجاة، فكرت في الغرق. مرة كنت في السماء، لم أفكر في القفز، فكرت في النيران التي عانقتني. مرة كنت في البر، لم أفكر في الأطفال، فكرت في الموتى. أزور الجنازات وأكره الأعراس، أشد على أيدي المعزين وأبكي، أبش في وجوه الموتى، الموتى الذين يسيرون حولي في كل مكان؛ فقد عرفوا نهاية الطريق وسبقوني.
9
في هذا الشارع، هذه البناية، هذه الغرفة، هذا الحيز من الهواء، سبقني الآلاف، جلسوا نفس الجلسة، نفس التحديقة في الحائط، نفس التمدد على السرير وعدم فعل شيء، أي شيء. فكروا في النهايات وساروا إليها؛ ساروا كذئاب تطارد كلاب الراعي، ساروا كظامئ ظن السراب ماء، فلما دنا وجده فراغا فمات.
8
لم يكن بإمكاني أن أقول: نعم؛ لأن «لا» تقرب النهاية، تدنيها، تلمسها، تتحسس أصابعها وفمها وشعرها المشعث، تدفئها بإشعال النار في حقل الذرة ، ومراقبة الموت يقترب كصديق قديم ضل الطريق، فلما رأى النار خلع نعليه ودخل.
7
أخرج من باب الدخول من مراكز التسوق، وأهبط على السلم الكهربائي الصاعد لأعلى، أسكن الأدوار السفلى، وأتلمس الأرض، أحفر، أحفر، أحفر؛ فربما أجد نفقا يوصلني إلى هناك، إلى النهاية، حيث لا شيء، فقط النهاية، حيث نقف وجها لوجه، عينا أمام عين، ربما أجهش بالبكاء، ربما أفرح، أرقص، أغني، لكنها النهاية التي طالما حلمت بها. النهاية. النهاية.
6
ذات مرة أعطيت يدي لأسد فأكلها، وقدمي لتمساح فالتهمها، وعيني لصقر ففقأها، فقررت ألا آتمن العصافير على ما تبقى مني، لكن لماذا تأتي أصوات العصافير على شرفتي أشبه بالنواح، لماذا أطلق الرصاص على الفراشات وألوك الندم، لماذا أشعر بالألم كلما ابتسم طفل على كتف أمه وأتحسس قلبي.
5
لا أعرف كيف بدأ الأمر، ربما حين استيقظت صباحا فوجدت الدبابات فوق سريري، ربما حين سقطت غيمة على رأسي ولم ينبهني أحد، ربما حين ركبت قطارا لا يصل أبدا، ربما حين صرت طائرا، أرمق الجثث من أعلى وأغني للخلود، فصدقني المارة، وساروا ورائي إلى الهاوية.
4
كنت أتمنى أن أكون هناك؛ على النهر، بين الغزلان والسماء القريبة، التي أصلح نجومها كل ليلة، أغير المنطفئة بأخرى جديدة، وألف القمر في ثوب ثقيل في ليالي الشتاء خوفا من العواصف، كنت أتمنى أن أكون هناك، حيث لا بدايات ولا نهايات، لا زمان ولا مكان، لا أرض ولا سماء ولا قمر ولا نجوم، حيث أكذب بالشعر وأهرب للنوم من الحب، حيث أصدق بالشعر وأهرب من النوم للحب، حيث لا نوم ولا حب، لا أفتش عن معنى للمعنى، ولا أسئلة للأجوبة البراقة كمرآة، لكنني هنا الآن، على رأسي إكليل الشوك، وأمامي حائط أسود، ويهوذا يضحك في وجهي، ويجرني من لساني إلى الحرب، وأنا هادئ تماما كمن تورط في الحياة رغما عنه، ولا يعرف ماذا يفعل.
3
أنا قاطع طريق الحياة، أساوم أم كلثوم على صوتها، وأنصب الفخاخ لنفسي، دفنت ساعي البريد بيدي، ورسائلي لم تعد تصل إلى أحد. أعرف الألم، أعرف الحزن، أعرف الفقد، أعرف الموت أكثر من أي شيء آخر، كصديق، كحبيب، كلعبة في فيلم كارتون، كرسم على كراسة طفل، كنهاية تطل من النافذة وتبتسم في وجهي، تمد يدها لترفع جانبي فمي إلى أعلى لأبدو كالمهرج. كنا طفلين، خطونا العتبة معا، ركبنا القطار والباص والطائرة معا، لوحنا للمودعين معا، ومن يومها لم نعد. أكتب الشعر ويحصد الأرواح، نلتقي آخر الليل على المقهى، أحصي هزائمي، ويخرج صرة الموتى من جيبه، أنتظر فقط اليوم الذي سيقلب لعبة النرد من أمامي ويقترب، ادن مني يا صديقي. ادن مني يا صديقي. ادن مني.
2
لم يكن أحد سواي هناك، و199 مقعدا فارغا في السينما، ننتظر كلمة النهاية منذ سنوات، أطفئ السيجارة ثم أشعلها، وأربت على المقاعد كأطفال يتامى، عامل السينما يمر على وجهي بكشافه كل يوم، ثم يواصل السير. اصطحبت ذات مرة قطة سوداء، فأخافتني، ومرة كيس شيبسي فامتلأ بالدود. ظلوا يراقبوننا طويلا، حتى مللنا فغفونا، صوب بطل الفيلم مسدسه فسقط جاري ميتا، رصاصة أخرى فتتت كيس الشيبسي، مدوا أيديهم وخطفوا القطة ... وهكذا، لا أعرف كم مضى من الوقت، لكنني أدرك أنه المشهد الأخير.
1
أوصد النافذة كي لا أرى العالم، أغلق قميصي حتى الزر الأخير لأحمي نفسي منه، لم أستطع يوما أن أقفز سور الحياة الواطئ، أجر عرجي ورائي وأنظر. لم أستطع أن أضغط زر المصعد، لم أمد يدي، أسحب شللي وأحملق؛ فقط وقفت هنا حيث لا شيء، أفكر في النهايات، أترك الشاي حتى يتجمد، والناقة حتى تطير، والزومبي حتى يغير أسنانه اللبنية، أعلق روحي من قدميها في السقف، وأدفئ قلبي بالمكواة، أنصت للريح التي تعوي في الخارج، وأقول ستصمت بعد قليل، لكنها تحطم نافذتي، ثم أضلعي واحدا وراء الآخر، وأنا جالس، مستسلم تماما للنهاية. كم خسرت؟ لا شيء، فلم أبدأ شيئا، أفكر في النهايات فأتهاوى، أفكر في النهايات فأسقط، أفكر في النهايات فأذوي، أفكر في النهايات فأتلاشى، لا يتبقى مني سوى شبح عجوز كنته دوما، يحني رأسه مثل جثة معلقة على الحائط، وأصابعها لا تصل إلى شيء، أي شيء .
0
أي شيء.
وكلما أتعبتني قدمي قلت ها قد وصلت
متى أصل؟ لا أعرف. لا يعرف أحد متى يصل أصلا، أو إلى أين يؤدي هذا الطريق، ما الذي يوجد في نهاية الخط. منذ اللحظة الأولى، منذ صرختنا الأولى في هذه الحياة للآهة الأخيرة والروح تستل كأنها دلو يسحب من بئر، لا أحد يعرف. لا نقوى على الحركة، نحبو، تتعثر خطواتنا، نسقط، نقف، نمشي، نجري، نهرول، نركب القطار، والطائرة، وصاروخ الفضاء، ثم نتعثر، فنسقط، فنحبو، فلا نقوى على الحركة، ولا نصل.
1
كانت جدتي تقول لي: «تاتا تاتا، خطي العتبة، تاتا تاتا.» أسمع صوتها في أذني، تصفق، أستند على لعبة خشبية بثلاث عجلات، أسقط، أنهض، أفرد ذراعي جانبي لتساعداني على التوازن، وأخطو خطوة أخرى، أسقط على وجهي، أنهض على وقع التصفيق، وأمشي، ما زلت أمشي.
2
كنت فوق حمارة بيضاء تشق الطريق المعفر بالتراب بينما أنا منهمك في قراءة كتاب فوقها. أنهي الكتاب، فأعدل الصفحات المطوية وأعيد قراءتها، مرة، مرتين، ربما عشرا. تواصل الحمارة طريقها وأنا أقرأ فيتسع الطريق، حتى حين سقطت من فوقها، وكسرت ذراعي، جبرتها وغطيتها بصفحة من كتاب النحو؛ قطر الندى وبل الصدى، شذور الذهب في معرفة كلام العرب، شرح ابن عقيل، ألفية ابن مالك. كنت أفكر أن اللغة هي الطريق، هي المفتاح الذي فتح الأبواب، كم بابا فتحته؟ لا أعرف، لكني ما زلت أرى مئات الأبواب المغلقة.
3
لسبعة أعوام متتالية كنت أركب الدراجة يوميا، دراجة زرقاء بلا ملامح خاصة، سوى أنها صغيرة وتشبهني، أقطع بها الطريق إلى مدرستي الإعدادية والثانوية، خمسة كيلومترات يوميا ذهابا، ومثلها إيابا. أتوقف في الطريق أمام المقابر على حدود البلدة كل يوم، أمام مقبرة بيضاء لم يكتبوا عليها شيئا، فيما اختصوا المقابر المجاورة بالأدعية والآيات القرآنية. حتى الآن، كلما قدت سيارتي إلى العمل، في مصر أو خارجها، يمر طريقي على مقابر ما، أخفف السرعة، أتمتم وأتذكر.
ثلاث مرات توقفت عن السير؛ مرة حين دخلت قدمي بين سلك العجلة الأمامية، وما زالت آثارها موجودة حتى اليوم، مرة حين كنت أعبر الطريق بالعرض، بينما تعبر السيارات الطريق بالطول، فطرنا - أنا والدراجة - في الهواء أمام سيارة مسرعة قبل أن نسقط على الأرض، لنجرب طريقة جديدة في السفر، وطريقا جديدا مبهرا لم أره ثانية سوى في لمحة واحدة، وآخر يوم قبل سفري. كنت أقود في الطريق بالعرض، رغم أنهم حاولوا إقناعي أكثر من مرة أن الجميع يسير بالطول، فجاءت حافلة أجبرتني على السير بمحاذاتها، وما زلت أسير، أسيرا.
4
كنت في مدينة بعيدة، أزورها لأول مرة، يتكلم أهلها لغة مختلفة. في يوم السفر، بعد أن ودعنا البيوت، والصور المعلقة على الحوائط، والغربان التي تنعق حولنا، قاد السائق المخمور السيارة، فيما يخرج صوت أحمد عدوية من سماعات السيارة مضطربا، بعد ساعة واحدة كانت السيارة مقلوبة، وكل الأمتعة المكومة في الكرسي الخلفي فوقي. أخرج من النافذة المكسورة، بينما ما زال عدوية يضغط على مخارج حروفه مجبرا الكلام على الخروج. لا أذكر تحديدا ما الذي حدث بعدها؛ ربما عدنا إلى المدينة المجهولة، ربما عدنا إلى البيت، لكنني لم أعد؛ ربما ظللت واقفا هناك، أتأمل دمي الذي نزف على الأسفلت مكونا طريقا جديدا، لمحته، فرحت به، وسرت فيه.
5
كان بيت الطفولة والصبا يقع بين الطريق السريع للسيارات وطريق القطارات، أطل من البلكونة الأمامية فأرى السيارات مسرعة في طريقها إلى موعد مبرم، محملة بعشرات الأمتعة للعائدين من السفر، وربما المغادرين. أطل من الشرفة الجانبية فأرى جنازة تسير بتمهل، «ربما كانت هذه هي الرحلة الحقيقية.» أقول، ثم أنتقل إلى البلكونة الخلفية، فأسمع صوت القطارات يأتي من بعيد، تمر سريعا لا تتوقف لتحييني، لكني رغم ذلك كنت أفكر في مسافريها؛ في المجند النائم في انتظار عودته إلى منزله، في الطالبة العائدة من الجامعة، في التاجر الذي أنهى صفقة عمره، في المحصل الذي يفكر في زوجته، في المراهق الذي يرغب في الانتحار، في قصص الحب والموت والثأر والكراهية القافزة من النوافذ المكسورة. غرف نومي تطل على القطار، أسمع صافرته كل ساعة وأنا أعمل وأقرأ وأذاكر وأنام، حتى تحول إلى غرفة نومي، لخمسة عشر عاما أصاحبه ذهابا وإيابا، في انتظار الوصول إلى نهاية الرحلة.
6
أول أربع أو خمس رحلات بالطائرة كانت إلى مدينة داخلية، لكن بعد ذلك تعددت الرحلات، كنت أفكر في أن هذا الطيران لو استمر، دون الهبوط، ربما نصل. النظرة الأولى من نافذة الطائرة تدرك معها حجمك الحقيقي، أنك لا شيء، أن كل هذا العالم مجرد نمل لا يرى بالعين المجردة، لا أحد، ماذا لو ابتعدت إذن؟ ماذا لو نظرت من خارج الكون كله؟ من أنت؟ وماذا تريد؟ في النظرات التالية تنسى ذلك؛ لأن الأسئلة المهمة تأتي دائما مع النظرة الأولى، لكن الرغبة في الوصول، في قطع الطريق، لا تنطفئ أبدا.
7
أتمدد على كنبة في البيت، أمام فيلم «أرض أخرى
Another Earth »، منتظرا تذكرة للسفر إلى كوكب آخر، أقرأ إعلانا على الإنترنت، عن حاجتهم لمتطوعين يقضون ما تبقى من حياتهم في المريخ. أفكر في الأمر بجدية، أسأل، أبحث عن استمارات لأملأها. أفكر في الوصول، هل تكون الإجابة هناك؟
8
تتعدد الطرق، ووسائل السير، من قارب إلى سفينة، من حمار لدراجة، لسيارة، من قطار إلى حافلة، إلى باص، إلى ميكروباص، إلى طائرة؛ متنقلا من بيت إلى بيت، من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة، باحثا عن إجابة سؤال الوصول، كقصص حب لا نعرف نهايتها، ونخشى منها، كمريض في سرير المرض لا يتحدث عن الغد. أفتح نافذة البيت الجانبية، فأرى جنازة مارة، كلما فتحت النافذة رأيت موتى، أحياء يشيعون ميتا وهم يهرولون خلف نعشه الذي خذلهم فلم يطر، وهم يهللون، وموتى يشيعون حيا عائدا لتوه من القبر. كان طريق المقابر هو الوحيد الذي لم أكن أرى نهايته من نافذتي، لكنه الوحيد الذي أعرف إلى أين ينتهي، الوحيد الذي أعرف نهايته الحقة، الوحيد الذي يضمن فيه المسافر أنه سيصل. أتابع الجنازة بعيني حتى تختفي، مثل قطرات زيت في مصفاة، فوق نار مشتعلة، مثل قطرات ندى فوق نافذة تتبخر مع ظهور الشمس، لكنني رغم ذلك أتابعهم بعيني، فربما أصل هذه المرة.
ثماني نصائح للغريب حتى يعود
وأنت تحزم حقيبتك للمرة الأولى، وأنت تضع فيها معجون الأسنان وديوان «سأم باريس» لشارل بودلير وصورا قديمة تحب أن تصحبها معك، تذكر أنك ستعود مرة أخرى، تذكر هؤلاء الذين سافروا قبل أكثر من أربعين عاما، وكل ما يريدونه الآن هو أن يعودوا ليدفنوا في أرض يعرفونها، رغم أنه لا فارق لدى الميت في ذلك؛ هل لأن الغريب هو الميت، والميت في بلاده حي؟ لا أعرف، لكن ما أعرفه هو أنه يجب أن تحافظ دوما على كونك غريبا، كي تستطيع أن تعود ذات يوم، كي يكون لديك أمل بعيد المنال لكنه قائم، وربما كي تحافظ على كونك حيا. (1) حافظ على غربتك
كن غريبا كي ترى وطنك في كل مكان. حافظ على لهجتك؛ حتى تتذكر موطنك عندما تسمع اللهجات الأخرى، وحتى تذكر من يسمع بنفسك، فيسألك «من أي البلاد أنت؟» لا تعقد صداقات مع الشوارع، لا تحفظ أسماءها، لا تتعرف على البنايات. كن ذلك الغريب الذي يسأل دوما عن العنوان، فيدله غرباء آخرون على المكان الخطأ، فيعود ليسأل مجددا، سعيدا بغربته، كطفل مولود لتوه، يتأمل وجوه من حوله في دهشة ويصرخ. (2) لا تصنع ذكريات
عندما تتعود على إشارة مرور ستصبح صديقتك؛ تحييها إذا مررت من أمامها كل يوم، تنتظر أوبتك من العمل لتلقي عليها تحية المساء. إذا حفظت شارعا، إذا راقبت كلبا يمر من هناك كل يوم، إذا وضعت حبا لحمام في نافذة غرفتك يوميا، إذا استنشقت هواء البحر وأردت أن تزوره مرة أخرى، فأنت لم تعد غريبا، أصبحت صاحب مكان، لديك حكايات وأصدقاء تشتاق إليهم. في هذه الحالة، ستكون قد كسرت الحاجز الفاصل بينك وبين المدينة التي تسكنها، سيعبر أحدكما إلى الآخر، وعندها ستذوب غربتك. (3) اسمع أم كلثوم
ليس لأن أم كلثوم تغني للحب؛ بل لأن ثمة وطنا يسكن في صوتها. اسمعها ليلا وأنت عائد في السيارة إلى بيتك، أنصت إلى المساحات الشاسعة في صوتها وتخيل نفسك طفلا يجري سعيدا في حقل قمح. عندما تستمع إلى الآهات كن هناك ، في المسافة ما بين انطلاق الآهة ونهايتها، وارو كل همومك. فتش عن الأصوات الخلفية في الحفل، الرجل الذي يقول «عظمة على عظمة يا ست»، أو التصفيق الحاد، أو صرخة معجب لم تكتمل بسبب وجع الشوق أو بعد أجهزة التسجيل. تخيل نفسك هناك، وسط هؤلاء الأشخاص الذين ينصتون إليها، مبتسما، ضاحكا، لا تشعر بالغربة، وحيدا كأنك الكل، تصفق في سعادة. (4) لا تنس المقهى
المقهى هو الوطن؛ الوطن هو ضجيج المقهى، اصطدام الملعقة داخل كوب الشاي أثناء تقليبه، نداء النادل وهو يسير بجلبابه الواسع، صداماته مع الزبائن، صوت إغلاق لعبة الطاولة مع ضحكات الفائز وغضب المهزوم، وقفة زبون مع صاحب المقهى ليعيد معه حساب عدد المشروبات، انتظارك صديقا أو انتظار صديق لك، الرجل الذي يجلس في الركن دائما لا يفعل شيئا إلا أن يقرأ الجريدة، السيدة التي تحضر عصر كل يوم لتطعم القطط الجائعة، باعة المناديل ومندوبو المبيعات، الجير المتساقط من الحائط وكتابة غير ظاهرة بطباشير قديم، صوت المارة في الشارع الذين يهرولون دائما كأنهم ذاهبون إلى موعدهم الأخير. المقهى هو تفاصيل الوطن، فلا تنسه، ولا تصادق مقهى آخر. ربما من الأفضل أن تتعرف على الأنواع الأخرى من المقاهي؛ حتى لا تنفك تذكرك بوطنك. (5) فتش عن وطنك
عن المطاعم التي تقدم وجباته، عن المقاهي التي تحمل اسمه، تابع قناة تعرض الأفلام الأبيض والأسود القديمة؛ فستسقيك ما تريد من الحنين. اضحك مرة أخرى على «غزل البنات» و«المليونير» و«سكر هانم» حتى لو شاهدتها كل يوم. لا تتابع الأخبار السياسية أو تتناقش فيها. فتش عن لهجتك في الشارع، قف في محطة الباص بجوارها، وأنصت إليها. غص في الحروف والتفاصيل، تعلق بالضحكات والحروف المترابطة. ابحث عن شوارع تحمل اسم رموز تاريخية في بلادك، واقطع الشارع من أوله إلى آخره بحثا عن معلم آخر، فإذا لم تجد، فلا تيأس، كرر البحث. اشترك في منتديات الإنترنت والتواصل الاجتماعي؛ لا تعلق ولا تتدخل ولا تناقش. أنت لست في حاجة إلى التورط، أنت في حاجة فقط إلى المراقبة وإنعام النظر، وصيد المشاعر الطائرة والفائرة. (6) صادق الغرباء
والغرباء وحدهم، الذين يشبهونك، الذين لا يفتأ كل واحد منهم يحلم بوطنه، بمكان نشأ فيه، وحارة هرول فيها عاريا وهو طفل. الغرباء سيذكرونك طوال الوقت بوطنك؛ لأنهم لا يتذكرون إلا أوطانهم. انظر في ملامحهم، وابحث خلف التجاعيد والثنيات والابتسامات المرهقة عن الحقيقة والحكايات التي تبهت مع مرور الزمن، أو تتوهج مع عذابات الحياة اليومية وألم الفراق؛ عن المرارة المختزنة في ابتسامة غير مكتملة، عن طعام لا تستسيغه وتزعجك رائحة احتراقه على البوتاجاز، لكنه يذكرك بأن هناك من ينتظر على الضفة الأخرى. لا تصادق أحدا؛ أنت فقط تريد أن تتعرف، أن تتمسك بيد تنتشلك من القاع، بقدم تسير بجوار قدمك إلى آخر الطريق حيث لافتة الحدود. (7) لا تقع في الحب
لأن الحب وطن، بيت وأهل وسكن، هو اشتياق للمحبوب وتعود على المكان وحب له؛ لأنه صار جزءا من الحكاية الجديدة، لأن الحب يصنع الذكريات التي تربطك بالمكان، والذكريات هي الوطن؛ لأن المحبوب سيصبح هو الوطن الجديد، بحكاياته وأماكنه وشوارعه ومقاهيه. الحب للمقيم، للساكن، لصاحب الدار، وأنت تمر من أمام النافذة، محاذرا من أن تقع عينك على ما في داخل البيت. (8) كن قلقا
تذكر دائما قول المتنبي: «على قلق كأن الريح تحتي.» فالريح حولك في كل مكان، تضربك من كل اتجاه، تزعزعك وتحركك من مكانك، الريح جنوبية، تأخذك إلى حيث جئت. اذهب معها ثم عد؛ كل يوم اصحبها إلى الأماكن التي تعرفها؛ فقط أغمض عينيك وسافر، أغمض عينيك وعد.
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
أحيانا يفضل الطبيب استئصال عضو مريض في الجسد، حتى ينقذ الباقي، لكن ما يحدث غالبا هو أن هذا العضو المبتور يظل دوما يشير إلى صاحبه؛ كذكرى لا تندثر، كخيبة، كهزيمة دائمة، يذكر الناس بما حدث له، وما مر به، حتى لو حاول استبدال عضو اصطناعي آخر به، فسيظل عضوا اصطناعيا، لا يحل محل العضو الأصلي إلا في الوظيفة لا في الشعور. هذا هو الفقد.
1
لأن الكلام عن الفقد يؤلم، أفكر أن أتوقف عن الكتابة؛ هل لأني أفقد مساحة البياض في الورقة، فأشعر أني أوغل أكثر في تلك المشاعر السوداء التي لا تشبه شيئا آخر؟ هل لأن السواد الذي تخلفه الكتابة فوق الورقة يشبه خطواتي على الأرض التي أجرها خلفي كدليل على أن أحدا كان هنا، خطوات لا تزول مع الزمن - مهما ابتعدت ونظرت إليها من بعيد - محفورة في الأرض كأنها من فعل الزمن، كأنها وشم على القلب لا يزول أبدا؟
2
التدرب على الفقد يشبه السير كل يوم في الطريق إلى القبر. جرب فقط أن تبدأ، لتجد أن كل طريق لا يفضي إلى شيء؛ أن الأيام متشابهة، تماما مثل الطرق؛ أن الطعام والشراب والضحك، كلها تحمل طعما واحد، هو اللاطعم. الطعام قطع بلاستيك نلوكها، المشروبات كلها بلا طعم، فقط تتحول إلى دموع في الجسد لتهبط من العينين، والضحك ليس إلا أصواتا معلقة في الهواء لا تدل على شيء، كأنها صافرات لقطارات منطلقة في طريق مجهول، كأنها صوت المنادي يخبر أهل القرية بميت جديد، كأنها صوت الرعد، الذي يحذر من برق تتبعه عاصفة أخيرة.
3
الفقد يعني أن ينفد البحر فجأة، أن تشعر أنه فارغ تماما، لكنك ترى المياه أمامك، كأنك في صحراء ترى السراب، وتعرف أنه السراب، لكنك تشد الخطى إليه؛ أن تختفي الجبال، تهوي أمامك، لكن ملمس حجارتها التي تسلقتها في يدك؛ أن تشعر أن لكل كلمة قيلت معنى، كل ابتسامة كانت ذات مغزى، كل رسالة، كل علبة دواء كانت تخفي حكاية، كل طريق إلى الصيدلية، إلى المستشفى، إلى البحر، ليس إلا دليلا يصلح لتعذيبك. الفقد أن تكون موجودا ولست موجودا، هنا وهناك، فوق الأرض وتحتها، داخل التابوت ومن يصرخ عليه في الخارج، الدافن والمدفون، الضاحك والمضحوك عليه، المغني والأصم الذي لا يسمع لكنه يصفق؛ ألا تكون شيئا، سوى مجرد كتلة من الثلج، تتدحرج بحثا عن هاوية مناسبة لتسقط من فوقها.
4
في الحب مثلا، أنت لا تنام تقريبا؛ لأنك تشعر بحضور الطرف الآخر طوال الوقت؛ قبل النوم وبعده، وفي الحلم، كأن هناك طريقا قطعتماه معا قبل النوم، ثم أكملته أثناء نومك، واستيقظت لترتدي ملابسك، لتكمل ما كان في الحلم. هنا يصبح النوم جزءا من الحياة. الأصح: أنت لا تنام، أنت لا تريد أن تنام، أنت تريد أن تظل مستيقظا دائما تفكر وتتعذب وتحلم بالقرب؛ أما في الفقد فأنت لا تفعل شيئا سوى أن تنام. أنت تهرب من الحياة إلى الموت الأصغر، تريد أن تنام كي لا تتذكر شيئا، لكن هيهات، فكل الأشياء ستطاردك هناك، ستتحول الأحلام إلى كوابيس، والطرق المفتوحة الممتدة إلى أبواب سوداء صماء موصدة، ستضحي الضحكات صراخا، والكلام صمتا، صمتا مؤلما وموجعا كأنه جلدات تهوي على ظهرك فتقسمك اثنين، بعد أن كنت تشعر أنك متوحد مع آخر، لكن ها أنت ترى، كل يمضي في طريق مختلف، وأنت لا تقدر على النطق.
5
في الموت مثلا، أنت تنتظر مكالمة هاتفية، لا تعرف لماذا جاءت، ولا لماذا رددت، ولا لماذا أنت بالذات، لكنك تعرف أنك تنتظرها. ها هي في يدك كالخطيئة. يومك هذا سيتحول إلى نقطة تحول في حياتك، لتظل طوال عمرك تتعذب بالفقد، وبالشعور بالذنب؛ الشعور بالذنب لأنك دائما تتأخر عما يجب أن تفعله؛ الشعور بالذنب لأنك دائما تتأخر أيضا عن احتضان أحبتك، وتقبيل أيديهم. ستقطع الطريق كله في الباص إلى المدينة البعيدة وأنت تفكر في هذا الفراغ الكبير الذي يملؤك، الفراغ الذي تهرول فيه منذ الصباح ولا تصل، لا شيء أمامك، فقط فراغ، وأنت لا تستطيع أن تتوقف. فقط هرول، هرول، هرول أيها الأحمق، لتدرك كم أن الفقد يعذبك. في تلك الغرفة الضيقة، حينما تقف على الباب وتنظر إلى الجثمان المغطى ببطانية ملونة، لن ترى شيئا، ستشعر بأن عظامك تذوب، أن دمك يهبط منك ويملأ الأرض، أنك مجرد جلد فارغ يقف محدقا وعلى خديه تنهمر الدموع. أنت مجرد مانيكان لا شيء داخله سوى الفقد، الفقد فقط.
6
في السفر مثلا، كل شيء سيقودك إلى هناك؛ حتى لو اخترت أن تسكن في مكان بعيد لا يذكرك بغربتك ، حتى لو فضلت أن تظل وحدك حتى لا تملأ حياتك بتفاصيل الآخرين، حتى لو اخترت أن تذوب داخل نفسك بدلا من أن تذوب في مجتمع لا تعرفه. هو الفقد إذن، الفقد الذي ستشعر به عندما يهاتفك صديق، وتسمع ضجيج مقهى في الخلفية، أو صوت بائع متجول، أو عندما يرسل لك صديق رسالة يذكرك بموقف ما حدث بينكما. الفقد يبدأ من اللحظة الأولى، كأنك الأعشى يقول:
هل تطيق؟ أنت قوي، لكنك لا تطيق ولا تقوى ولا تستطيع أن تنسى، حتى إذا تحولت إلى ماكينة تعمل ليل نهار، فثمة شخص ما سيلمس سطح البحيرة بإصبعه لترى الدوائر تتسع وتتسع، حتى تكاد أن تبتلعك دائما.
7
أنت لا تفقد الآخر، أنت تفقد ذاتك. الفقد يعني أن تكون وحيدا منبوذا مطاردا صعلوكا، تتصارع داخلك عشرات المشاعر، فتأوي إلى نفسك التي تطردك وتؤنبك وتعذبك وتلومك. الفقد يعني أن تشعر أن أجزاء جسدك وروحك تتطاير بعيدا عنك، تهرب منك، فتجري وراءها لتطاردها بلا جدوى، وتظل هكذا إلى الأبد فارغا تبحث عما فقدته. الفقد يعني أن تسير على حافة الطريق بأقصى سرعة كمن يريد أن يصل إلى شيء لا يعرف ماهيته، كمن يفر من شيء غير مرئي، تركض مغمض العينين، غير محاذر من المنحدر، فربما كان فيه الخلاص.
دقات قلبي تحطم زجاج العناية المركزة
... وكنت هناك، فوق ذلك الجبل، أنادي ولا أحد يرد. وكنت في ذات اللحظة في سجن على عمق 80 ألف فرسخ تحت الأرض، أرسل زفيري ولا يردون لي شهيقي. وكنت في ذات اللحظة على الحدود، تنغزني الأسلاك الشائكة، فيسيل دمي ويصنع جسرا إلى الضفة الأخرى. وكنت في ذات اللحظة، أعد من نافذة الطائرة البحور والمحيطات التي أعبرها، كطائر بجناح بلاستيكي وحيد، كطائرة بلا طيار، تقصف الذكريات ولا تعود، وكنت هناك، لكنني لم أكن قط هنا.
حين باغتتني الوحدة، ماتت يدي على الكيبورد، ولم ألحق الجنازة. ناديت بمائة ألف متجاورة هكذا «ياااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا» لكن لم يرد أحد من الضفة الأخرى؛ ربما لأني لم أعرف من أريد أن أنادي ، ربما لأنه ليس ثمة أحد على الضفة الأخرى، ربما لأنه ليس هناك ضفة أخرى، ربما لأنني لست هنا، ربما لأنني لست موجودا. لكنه صوتي نائما أسفل السور، وحيدا تماما مثل مدينة تحضن الغرباء ولا تعرف أحدا منهم، لا تلقي السلام ولا يردون التحية، يدحرجون الصمت على المناضد ككرة لا تجد من يصدها. مددت يدي لأسند الجدار الذي مال، رفعت رأسي لأثقب السقف وأعبر باحثا عن صوتي، حكيت للمارة فلم يسمع أحد، نمت، فنعست، ثم مت، حتى نمت الأشجار فوق جسدي، واستخرجوا من فمي البترول. لم أرد على إشارات السماء؛ لأنني لم تنبت لي يد بعد.
منذ ثلاث ساعات كنت طفلا، منذ ساعة واحدة كنت جنينا، قلت وقتها شيئا لا أذكره، فارتفعت حيطان الجامعة، وآلمني وجهي، وصدح الشيخ. كل الأنهار تجري إلى البحر وأنا أجري معها، لا أعرف من يسبق من، ولا من سيصل أولا، وكان الشعر طريقا يعبره المارة وهم يغمضون أعينهم، ثم يهللون في نهاية الممر. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. صببت خمرا ولبنا وماء ودموعا وعطشا، صببت حزنا وموتا وفقدا، والبحر فارغ حتى النهاية، ألمس القاع بيدي وأصعد إلى السماء على درج من هواء. منذ ساعتين كنت في خريف العمر، أهز الأشجار كي تسقط ورقها وتصبح مثلي، بلا ذكريات، فقط أغصان مشرعة في الهواء، مثل نافذة بيت مهجور مفتوحة على مصراعيها، تخيف المارة والسكان، والريح التي تعوي في الخارج. الآن، ربما لا أكون موجودا، ربما ينفجر جسدي في غرفة العناية المركزة، فيقتل الأطباء ويشفي المرضى، ربما توقظ دقات قلبي المجرمين فيعترفون بذنوبهم، ربما لا أكون هنا. إذا ذهبتم إلى سريري، فعدلوا الأغطية، وضعوا الوسادات، لكن لا تلمسوا الهواء كثيرا؛ فربما تصيبونني دون أن تنتبهوا.
فتاة صغيرة، طفلة كبيرة، ترتعش الورقة، وتحرك جسدك الرياح جيئة وذهابا، فتتحرك الجدران والنجف والمقاعد والأشواك والسكاكين والملاعق والطعام في الأفواه. الصوت الخافت على وتيرة واحدة، كسيارة تعبر الطريق لأول مرة. فستان أبيض، احتفاء بموتى في زيهم الرسمي. أين كنت أنت ؟ وأين كنت أنا؟ وأين صرنا ؟ ولماذا أكتب على سطر وأترك الآخر؟ هل لأنني أخاف دوما أن تتعثر قدمي في السلمة المكسورة؟
لم نكن نحن وقتها. أقصد، لم تكن قد نمت لحيتي إلى الداخل، ولا أصبحت بأربع عيون. لم تكن جدتي تدربت على الموت، ولا قلت لسائق التاكسي: «طريق المقابر يا أسطى.» لم أكن أعرف شيئا، سوى أن هذا الطريق مبهر، ولم أبصر هذه الهاوية إلا الآن.
أنت أيضا، لم تكوني أنت، القلوب المعلقة في المدرج فقأتها دبابيس المارة، وسالت الدماء على الأرض، واحتار العامل ماذا يفعل. المدينة التي علقت القلوب ذاتها على الكورنيش بدبابيس شعر تتكلم الآن عن الكراهية. لم تكن هناك ورود في الكف، ولا نبت مول كبير في حديقة منزلك، لم يعلق دخان السجائر في الهواء، ليتعثر فيه الأطفال؛ فلماذا إذن نقول: «لماذا لم نقل: مرحبا؟»
في مكان ما، وزمن آخر، سنفعل ذلك؛ نسحب الموز من أفواه القردة وندعوها للجلوس بأدب على الطاولات، نكتشف مدينة الإسكندر الأكبر، ونمدد البحر على جنباتها كهرة نائمة تتمطى، نستعير المسرح الكبير من فيلم «المصارع» حتى يستريح «راسل كرو» من الهرولة في الصحراء، نشاهد أفلام «توم هانكس» و«ميج رايان» ونتحدث عن السحب وأقدامنا تغوص في البحر، ثم نقف كصديقين التقيا صدفة في قطار، نتقاذف المدن مثل كرات البنج بونج، حتى نبهر الجنود والملوك، وتصفق الطيور بأجنحتها لتسير أسرع. وقبل أن نغادر سنقول أهلا، ونبتسم ابتسامة النصر.
إذا وقفت على السطح، ومددت صوتي سلما، فهل سأصل إلى السماء؟ إذا أخرجت قلبي ورفعته لأعلى، فهل سيتحول إلى مظلة تقلني إلى وسط البلد؟ إذا ناديت بأعلى صوتي من الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، فهل ستسمعونني؟
فمي المعطل
يختزل الصمت كل شيء، يخزن الأشياء داخله: الحزن والفقد والألم والفراق والوجع. أنت لا تحتاج إلا أن تكون صامتا كي تقول كل هذا. كأنه تمرد على اللغة، احتجاج على عجز الكلام، اعتراض على كل ما جذبك بعيدا عما تريده، تخف من المشاعر التي ينقلها الصوت أو لا ينقلها ؛ كأنه تحد - وربما إذعان - للعجز والقهر، كمن لا يريد أن يقول نعم أو لا، كأنه رد على إرباك بإرباك.
عندما تكون وحيدا يكون الصمت مؤلما كغرس سكين ببطء يسار الصدر. أما إن كنت تتحرك وسط مجموعة فسيكون قاسيا كنزع هذه السكين، كالفارق بين الدهس والهرس. في الحالة الأولى أنت لا تملك غير الصمت والذكريات، حتى اختيارك له تكون مجبرا عليه، فتنزع عنك نعمة الانتصار اللحظي على الحياة باعتراضك عليها بخرسك. تضحي بكل الأشياء التي تعودت أن تفعلها يوميا مرة، حتى لو كانت طعاما أو شرابا أو نوما. حركتك البطيئة في الشقة، رفعك كتابا لا تستطيع حتى أن تقرأ عنوانه وإعادة رميه ثانية كيفما اتفق، افتقادك رنين هاتف أو رسالة تخبرك أن ثمة أحدا في الخارج. أنت لا تنتظر شيئا من ذلك، تعرف أن لا شيء من هذا سيأتي، لا أحد يريدك، لا أحد ينتظر منك شيئا؛ لذا يمر الوقت بطيئا ثقيلا كسلخ الجلد عن اللحم. حتى لو رغبت في الكلام فلا شيء تقوله، ولا أحد تبوح له؛ إنه سجن بلا حراس ولا أبواب، لا تستطيع أن تغادر البقعة التي تقف فيها؛ لأنك لم تعد ترغب في غيرها.
في الحالة الثانية، عندما تتحرك وسط مجموع، ستكون مثل أعمى يتنقل وسط مجموعة من المبصرين، أو العكس؛ أنت لا تملك حتى القدرة على أن تكون جزءا ممن حولك، لكنك مجبر على ذلك؛ مجبر على الذهاب للعمل، ومناداة التاكسي، فيخرج صوتك متحشرجا، فتتذكر أن صوتك كان محتبسا قبل أيام كأن ذلك كان تدريبا على هذه اللحظة. لا شيء فيك ينطق، حتى عيناك انطفأتا، ولا تقولان شيئا. يدك التي كانت تتحرك، توقفت عن التلويح، تحملها كميت إضافي إلى قبرها الذي تذهب إليه بمجرد عودتك إلى البيت.
الصمت غضب مكبوت، طنين شديد مستمر بعد موسيقى صاخبة، يمتلئ بالضجيج، بآلاف الأسئلة المتراكمة بحثا عن إجابة، بعشرات الوجوه المتراصة في انتظار تعليق، بزحام شديد تهرب منه إلى التمسك بإغلاق فمك. الصمت يعني أن تتحول حياتك، ما مضى منها وما سيأتي، إلى كتاب كل صفحاته بيضاء، ربما سوداء لكنك لا تستطيع قراءتها، لا تستطيع أن تمسك قلما لتملأها، ولا حتى تملك الرغبة في ذلك، كأنه خط واحد على صفحة بيضاء بلا بداية أو نهاية، كأنه مؤشر نبضات القلب على جهاز مريض في غرفة العناية الفائقة، بعد أن يكف عن الصعود والهبوط، ويصير خطا واحدا طويلا، فينزع الأطباء أقنعة الأكسجين ويكفوا عن محاولة إفاقته، فقد أدركوا أنه اختار الصمت للأبد.
في الصمت أنت تفعل كل شيء؛ لك سيماء الأحياء ولا تملك روحهم، تباشر عملك، تقضي واجباتك، تفعل لكل شخص ما يريده، تنتهي من الأعمال التي كلفت بها كأنك موجود بالفعل، لكنك لست موجودا، لم تكن أنت من فعل ذلك، أنت لائذ بصمتك، وآخر - ربما لا يشبهك أبدا - هو من يقوم بالعمل. لحظتها ستكتشف أن الصمت أقوى وأعظم تأثيرا - عليك - وسط الجموع، وسط كل هذا الضجيج، كشخص يسير في ميدان واسع، مع السائرين، يحمله ضجيجهم إلى الأيام القادمة، لكنه لا يسمع شيئا، وإن كان يسير معهم؛ كأنك جزء من فيلم صامت، كأنك في قاعة سينما تشاهد ولا تسمع شيئا، فقط ترى الأقدام تتحرك، والأيدي تلوح، وكل ما تفعله هو انتظار كلمة «النهاية».
الصمت سؤال وإجابة، لماذا ولأن، نعم ولا، كشف وإخفاء، جبن وشجاعة، حب وتضحية، إيمان وكفر، زمهرير وقيظ، اعتذار عما لم نفعل وعما فعلنا، فعل ورد فعل، كأنك مصلوب بين شيئين تريدهما، وكل منهما يجذبك في تجاهه، كأنك الحبل في لعبة «نط الحبل»، كأن ألف شيء يدفعك إلى الحافة، حتى رفعت يديك مستسلما تماما، ومذعنا، لا تعرف إلى أيهما تهرب، فاخترت أن تصمت، قدماك تتحول إحداهما إلى صخرة، والأخرى على جرف هار تنهار به.
الصمت ملاذ. الصمت اجتناب. الصمت زهد واستغناء. الصمت قرين الاكتئاب. الصمت نذير انتحار. الصمت مقاربة الموتى. الصمت يعني أنك في جهة والحياة في الجهة الأخرى. الصمت رد على أصوات كثيرة في الداخل. الصمت لا ينتظر الغد ولا يعنى بذلك. الصمت يرى السراب ولا يجد السير إليه ؛ ربما لأنه ترك الواحة خلفه . الصمت بيت مغلق سقفه الليل. الصمت نهر جار من الصراخ لا يصل إلى بحر. الصمت يعني أنك آخر شخص على سطح الأرض، لا يوجد من تكلمه، ولا تفعل شيئا سوى انتظار موتك. الصمت بيت المتاهة الذي لا باب ولا مخرج منه. الصمت مصعد لا يتوقف صعودا ونزولا. الصمت قطار بلا محطة أخيرة. الصمت اختيار. أنا أختار الصمت.
بيوت بيضاء للموت
- كيف تريد أن تموت؟ - في حادث تصادم، في سقوط طائرة فوق جبال الألب، بعد إغفاءة طويلة لا أستيقظ منها، الآن وأنا أكتب. - كيف لا تريد أن تموت؟ - مريضا، على سرير في مستشفى، أنتظر نهاية لم يحدد موعد لها.
1
أكره المستشفيات، لا تعني بالنسبة إلي الشفاء والعلاج بقدر ما تعني الموت. لم أدخل مستشفى لأزور أحدا، إلا وغادرت دونه، وعيني ترمق الممر الخالي خلفي، منتظرا خبرا كالصاعقة يصطدم بوجهي. أرى نفسي دائما واقفا في ممر طويل، وحيدا أجلس على مقعد خشبي في انتظار ذلك الذي يبين شبحه من بعيد لكنه لا يتحرك. أول مرة ذهبت فيها إلى مستشفى كانت لرؤية «بكر»، آخر مرة رأيت فيها ذلك الصديق كانت في مستشفى، وكلما مررت بعدها أمام ذلك المبنى الأبيض «الحالك»، أحاول أن أسترق السمع منصتا إلى تلك الأنات التي ما زالت ترن في الغرفة الضيقة ذات الطلاء المتساقط، وأوهم نفسي أنها حقيقة، أن شخصا ما سيفتح النافذة ذات الإطار الصدئ ويلوح لي، وقد ينادي باسمي. لأيام عديدة ظللت أحلم بهذا؛ أني أقف أمام الشجرة التي على الكورنيش، وأن الصوت قادم في الطريق، لكن السيارات المارقة بسرعة بيننا تخيفه فيعود مرة أخرى.
2
الذين يرحلون فجأة يظلون في الذاكرة، لكن الذين يظلون طويلا في سرير المرض يدربون من حولهم على الفقد، ليس لأن أحدهما كان رحيما بالآخر، بل لأن الموت يتحول إلى «صديق العائلة»، يفتح الباب ويجلس على المقعد المجاور للسرير، بجوار المحاليل المعلقة وعلب الأدوية، يدخل المطبخ ويسخن الطعام، يفتح الثلاجة ويرفع علبة الدواء إلى فمه مرة واحدة. يصبح الموت واحدا من أفراد العائلة ، يعرف سريره في البيت، ومكانه المفضل على الكنبة الطويلة أمام التليفزيون، شيئا فشيئا يتحول إلى بديل للمريض، حتى إذا مات لا تعرف أيهما افتقدوا: المريض أم شبح المريض، وربما شعروا بالراحة لأن الخفاش الأسود القاتم الذي حط بجناحيه رفعهما فعادت إضاءة الشقة.
3
المستشفيات كالمقابر؛ بيضاء وجميلة من الخارج، موحشة وقاتمة من الداخل. المستشفيات قرينة الألم، عدوة البهجة، فرحتها مسروقة غير كاملة، يصحبها الخوف والقلق والتوتر، والضحكات المتكلفة، والألم المكتوم، والأمل المجامل الذي يعرف الجميع أنه مجامل. فيها يمشي المرض منتصب القامة ملكا متوجا، يزيح بيده اليمنى الأطباء والممرضات، وبيده اليسرى الأجهزة الطبية، وعلب الأدوية، وأشعة إكس، وأجهزة التحاليل، والروشتات الطويلة، وبرودة البلاط، ولسعة الخبر الذي ينتظره الجميع، والحائط الذي يستند إليه الجميع في يأس؛ ويواصل طريقه، يتسلق الحائط كقرد شقي، وينظر من أعلى للمريض المدفوع على كرسي متحرك، يقفز ويطل من الشرفة إلى طفل في حضانة يتأرجح بين الموت والحياة، يتنصت على الوصايا الأخيرة التي تقال خلف الغرف المغلقة، يتأمل خيوط الدموع الهابطة من الأعين، والصراخ الخارج من الفم دون وجهة، والأيدي الموضوعة على الأفواه كي لا يزعج نحيبهم الموتى الجدد، يطرق على زجاج العناية المركزة ثم يخبئ وجهه ساخرا من المريض الذي تتسارع دقات قلبه فيصرخ الجهاز بجانبه، كجدار ينهار، كصراخ سيارة إسعاف، دون أن يتمكن من أن يرفع قناع الأوكسجين للمرة الأخيرة.
4
يؤلمني صوت صراخ سيارة الإسعاف في الشارع، عربة دفن الموتى الواقفة خلف المستشفى، الوجوه المنكسرة الخارجة من الباب الأمامي للمستشفى دون أمل، الوجوه المرفوعة لأعلى أمام باب المستشفى الخلفي تقول «يا رب»، الجنازات المتأهبة، صراخ الأمهات، الغصات في حلوق الرجال، صراخ الأطفال وهم يمسكون عيونهم وأنوفهم وآذانهم، وهم لا يستطيعون أن يشرحوا ماذا ألم بهم، زجاجات الدواء الفارغة على المنضدة المجاورة التي تستبدل يوما بعد يوم، فقدان الأمل، وانتظار النهاية، تعليق الذنب في النجفة كي يضيء وجه الجميع، ورغم ذلك لا نعرف من المذنب. تؤلمني الحمى، الهذيان الليلي، النوم المتواصل، آلام الظهر من طول النوم على السرير، التحديق في السقف، الأرق الذي لا ينتهي، وسؤال «كيف النهاية؟»، الرغبة في الموت كراحة، والهروب من الموت بسبب احتياج من حولك إليك، غرف العمليات المظلمة، الممرضات المتجهمات، الأطباء الصامتون، ومصطلحاتهم الطبية الطويلة واعتيادهم الموت، الكرسي المتحرك الذي يحمل مريضا لا يعرف إلى أين سينتهي الطريق، أو حتى متى سينتهي.
5
أريد أن أموت مبكرا، عصر يوم هادئ، فجأة وبلا مقدمات، أجلس على المكتب، وعيني تلتهم كتابا بسرعة، يدي تجري بقلم على ورقة تكتب شيئا أخيرا، أصابعي تدق الكيبورد كمعاول تنحت في الجبل شيئا أخيرا، ثم عند آخر حرف يسقط رأسي أمامي، على الكتاب، على الورقة، على الكيبورد؛ ميتة مثالية، بلا ألم لي ولا للآخرين. لا أريد أن أموت في مستشفى، لا أريد أن يتحلق أحد حولي، لا أريد أن ينتظر أحد ميعاد دوائي ليهرول به إلي، لا أريد أن تملأ جسدي وخزات الإبر، لا أريد أن ينتظر أحد موتي، أريدهم أن يقرءوا آخر كتاب، آخر حرف على الورقة، آخر كلمة على شاشة الكيبورد، أن يقفوا طويلا أمام الجبل يتأملون ما نحته المعول، ثم ينصرفوا لا يلوون على شيء.
عبور الزمن
كتابي الأول
مثل شخص عثر على كنز صغير، مثل «أودري تاتو» عندما عثرت على صندوق الأسرار الصغير في فيلم «إميلي»، عندما سقط حجر من جانب الجدار فظهر الصندوق في مخبئه، هكذا نظرت إلى الكتاب الذي وجدته - ولا أعرف كيف أو من أين جاء - في أحد رفوف المكتبة مجددا.
ربما لم يسمع باسم الكتاب كثيرون، أو ربما لن يلفت انتباه الكثيرين أو يدفع أحدا للبحث عنه، لكنه يهمني بصفة شخصية؛ ربما لأنه هو من فتح أمامي عالم السحر والجمال والخديعة (التي اسمها الكتابة) كاملا؛ ففور أن قرأته أول مرة - قبل ربع قرن - وجدت مستقبلي يتشكل أمامي، ووجدت عالم الكتابة ماثلا بالكامل.
لا أذكر كيف وصلني الكتاب، لكنني أذكر نفسي وأنا أسير في شوارع قريتنا، وفي يدي كتاب «فوانيس الحياة»، للصحافي الراحل «علي أمين»، وعيناي تلتهمان صفحات الكتاب مرة تلو المرة. ما أذكره أنني قرأت الكتاب عشرات المرات حتى كدت أحفظه. كان كتابي الأول الذي تخيلت جميع حكاياته، وجميع تفاصيله، ورأيت نفسي بطلا لجميع مغامراته، ورددت مقولات مؤلفه داخل نفسي مرة تلو مرة.
لا أعرف كيف وصلني الكتاب وقتها في قريتي؛ فمعظم الكتب التي كانت تصل إلينا لم تكن من هذه النوعية، كما أن الكتاب كان صادرا عن «دار الشروق» التي لا تصل إصداراتها إلى الصعيد. كثيرا ما فكرت في كيفية وصول الكتب إلي، ولم أصل لحل غير أنني ربما اشتريته من بائع كتب قديمة. وكما وصلني الكتاب فجأة، اختفى فجأة بعدها بشهور قليلة، وكما اختفى فجأة وجدته فجأة قبل حوالي عامين وسط مكتبتي، وهو ما أدهشني أكثر، خاصة أنني تنقلت بين أكثر من عشرة بيوت خلال تلك الفترة، وفي كل مرة أحمل كتبي معي، وفي كل مرة أتخلص من بعضها حتى أستطيع أن أحتفظ بكتب أخرى، أو أستبدل بكتبي كتبا أحدث.
لم يكن «فوانيس الحياة» أول ما قرأت في حياتي، لكنه أول كتاب أذكر أنني قرأته؛ لذا أعتبره كتابي الأول، أعتبره «الفانوس» الذي أضاء لي حياتي فيما بعد. يبدو الكتاب موجها للصبيان، ومزينا برسوم صغيرة للرسام الراحل «مصطفى حسين»، وعلى صفحته الأولى تظهر صورة «علي أمين» المميزة، بصلعته والسيجارة الساقطة من فمه. كما يبدو محتوى الكتاب تجميعا لمقالات نشرها المؤلف في إصدار ما خاص بالأطفال، ثم ضمها بين دفتي هذا الكتاب.
أجمل ما يميز هذا الكتاب هو أنه يحرض على الحلم، خاصة أنه يتحدث عن أحلام مؤلفه عندما كان صغيرا، وكيف تحققت بالمثابرة والعمل والإصرار، يدلل على ذلك بالحكاية تلو الأخرى، مبطنا حكاياته بنصائح لا تشعر بها، مستخدما أسلوبه الشهير البسيط، وجمله السلسة القصيرة الواصلة إلى المعنى مباشرة؛ ففي إحدى حكايات الكتاب يروي أن أمنيته كانت الحصول على حديث من الكاتب الكبير «برنارد شو»، ولما سافر - أي علي أمين - إلى لندن قال له أصدقاؤه الصحافيون إن «برنارد شو» يرفض إعطاء أحاديث، لكنه لم ييأس وذهب إلى بيت «برنارد شو» الريفي وجلس يراقب الباب، ولاحظ أن للكاتب خادمة ترد على الجرس، ثم لاحظ أنها تطلق في بعض الأحيان صفارة يظهر بعدها الكاتب، وعرف أن الصفارة هي كلمة السر بين الكاتب والخادمة؛ فقرر «علي أمين» أن يشتري صفارة، وذهب إلى بيت «برنارد شو» ونفخ في الصفارة، وإذا بالكاتب الكبير يظهر أمامه، وما إن رآه حتى أغرق في الضحك وهنأه على سرعة بديهته، وأجاب بخط يده على كل الأسئلة التي قدمها له، ويختم «علي أمين» حاثا على المثابرة، وعدم الاستسلام، والبحث عن حلول جديدة؛ بالقول: إن «في الحياة صفارات كثيرة لو أنصت لها، تستطيع أن تفتح بها الأبواب المغلقة.»
ويظهر في كتاب «علي أمين» عشرات الأشخاص المشاهير الذين قابلهم في طفولته، بداية من «أم كلثوم» إلى «عبد الوهاب» و«طلعت حرب» و«سيد جلال»، و«أحمد شوقي»، الذي يروي كيف كان يعامله «سعد زغلول» باحترام شديد، بالإضافة إلى أم المصريين «صفية زغلول»، خاصة أن عليا ومصطفى أمين تربيا في «بيت الأمة»، وأول من نادى بتحرير المرأة «قاسم أمين» وزوجته، التي يصفها المؤلف بأنها كانت سيدة رقيقة ظريفة محافظة، و«التجديد الوحيد الذي رأيته منها هو أنها كانت تصر على أكل البامية مع البطيخ!»
ربما أجبت على معلم لي بعد قراءتي الكتاب لأول مرة بسنتين عما أريد أن أكون عندما أكبر ب: «صحافي» - في قرية لا تعرف هذه المهنة! - تأسيا بحديث «علي أمين» في كتابه ذلك، وربما قمت بكتابة «مجلة» وتصويرها وتوزيعها وأنا في الصف الرابع الابتدائي افتتانا بحديثه عن مجلة «التلميذ» التي أنشأها مع شقيقه «مصطفى أمين»، وربما هو ما أضاء لي بصيصا من النور في هذا الطريق الذي غير مستقبلي بأكمله؛ إذ يروي أنه قرر وهو في السابعة من عمره أن يكون صحافيا، فكان يقرأ كل الصحف والمجلات، ويحاول أن يقلد الكتاب الذين يعجبونه، وكتب مئات القصص والمقالات وأرسلها إلى كل الصحف والمجلات، فلم تر النور مقالة واحدة، وتصور أن مصلحة البريد هي المسئولة عن عدم وصول قصصه إلى الصحف والمجلات، وذهب بنفسه إلى هذه الصحف وحاول أن يقابل رؤساء التحرير، فكان البواب يمنعه من الدخول لأنه يرتدي بنطلونا قصيرا، ولما لبس بنطلونا طويلا منعه سكرتير التحرير من الدخول. لكن كل هذه الأبواب المغلقة لم تحوله عن حبه للصحافة، بل زادته إصرارا. وأخيرا اقترح «مصطفى أمين» أن يبحثا عن رجل بشوارب يثير احترام سكرتيري رؤساء التحرير ويكلفانه بتقديم مقالاتهما، ووجدا «حسن أفندي» الذي كان ينشر القصص والمقالات باسمه، حتى لمع اسمه في الصحافة وصارت المجلات تتخاطفه. وهكذا عمل «علي أمين» سبع سنوات في الصحافة دون أن يتقاضى مليما، ثم سبع سنوات أخرى دون أن يظهر اسمه في الصحافة، لكنه استرد ذلك كله فيما بعد، وأصبح واحدا من أشهر صحافيي مصر والعالم العربي.
وقصة الأسماء المستعارة والصحافة تتكرر في حكايات «علي أمين» الشائقة، فيحكي أن أمه كانت ترفض أن يدخل عالم الصحافة؛ لأنها - أي الصحافة - كانت وظيفة الساقطين في الامتحانات والمطرودين من الوظائف المحترمة والبلطجية؛ لذا قرر دراسة الهندسة في إنجلترا، وحصل على الشهادة، واشتغل مهندسا أمام أمه، لكنه كان في الخفاء يعمل محررا في مجلة «آخر ساعة»، بعد الظهر وحتى منتصف الليل. ولم تكن هناك وسيلة لإقناع أمه بأن الصحافة وظيفة الشبان المتعلمين لا الساقطين، وأنها وظيفة المحترمين وليس غير المحترمين، إلا أن يقنع حملة الشهادات العليا بالعمل صحافيين. وبعد سنوات، بعد أن رأت والدته أن بعض الوزراء يتمنون أن يصبحوا صحافيين، ورأت راتب رئيس التحرير يرتفع من خمسين جنيها في الشهر إلى ستمائة جنيه؛ أحبت الصحافة، فاستقال من وظيفته الحكومية ووضع على مقالاته لأول مرة توقيع «علي أمين»، بعد أن ظل خمسة عشر عاما يوقع باسم «السندباد البحري».
ومغامرات «علي أمين» مع الصحافة كثيرة، يحكيها واحدة تلو الأخرى في كتابه، وكلها تدور حول أحلامه عندما كان طفلا، وكيف استطاع أن يفتح الأبواب المغلقة، وألا يستسلم لليأس، وأن يصبح صحافيا مشهورا. ولعل من ألطف حكاياته عندما قرر أن يصدر مجلة «التلميذ» عندما كان طفلا، وكان من المقرر أن يبيع خروفا لكي يسدد بثمنه تكلفة طباعة المجلة، فهرب الخروف في السوق، فاضطر أن يبيع ساعته، وأن يبيع شقيقه مصطفى دراجته.
كان الكتاب حاضرا في تفاصيل طفولتي بشكل كبير. تأكدت من ذلك وأنا أعيد قراءة الكتاب قبل أيام مستمتعا ومستعيدا ذكريات طفولتي، ورابطا بينها وبين ما يقصه ويرويه علي أمين في كتابه؛ لأكتشف مجددا أن هكذا هو «الكتاب»؛ أي كتاب - حتى لو كان البعض يراه غير مهم، أو ليس مهما لكثيرين - قد يؤثر فيك ويغير حياتك إلى الأبد، إذا قرأته في وقت كنت تحتاج فيه إلى ذلك، فسيبدو في هذه اللحظة مثل «مغارة علي بابا» التي فتحت على كنوز الدنيا بعد أن سمعت عبارة «افتح يا سمسم!» وساعتها ستعتبر هذا الكتاب «فانوس حياتك»، وكتابك الأول، وربما الأخير.
العودة إلى الماضي
عندما كنت في سنوات الدراسة الأولى، في الأعوام الأخيرة من القرن الماضي، كان هناك درس في كتاب اللغة العربية يتحدث عن العالم سنة 2000، وما الذي سيحدث فيه.
كان الدرس يتصور كيف سيصير العالم في القرن القادم الجديد، ومما أذكره أنه كان يتحدث عن أن السيارات سوف تسير بعصير القصب. كنت صغيرا، أمسك بعود القصب بينما أنا جالس في الحقل، وأنظر إليه مفكرا في الآلية التي ستحوله إلى بنزين، ولم تخطر ببالي وقتها أسئلة من عينة: هل سيكون هناك قصب 80، وقصب 92، وقصب 95؟ وهل سيكون مدعوما أم سيرفع عنه الدعم؟ وهل سنطلب من البائع لتر قصب، أم «لبشة قصب»؟
كما أذكر أنني ظللت طيلة آخر يوم في ذلك القرن (31 / 12 / 1999) متوجسا مترقبا لما سيفصح عنه الغد، فيما تملأ القنوات التليفزيونية أدمغتنا بأن غدا قرن جديد، وأن العالم سيتغير في القرن الجديد، وأن غدا شيء يختلف تماما عما نحن فيه، وتصب الصحف في آذاننا كلاما عن أن يوم القيامة غدا، مع أن المسيح الدجال لم يظهر بعد. وبين هذا وذاك، حرصت في تلك الليلة على أن أنام مبكرا حتى أستطيع أن أكون موجودا في القرن الجديد من أوله، وعندما استيقظت في الصباح لم يكن هناك شيء قد تغير.
أفتح عيني، فإذا أنا في سريري المعتاد، أدور بهما في الغرفة فأجد كل شيء كما تركته من قبل، أخرج لأفطر نفس الإفطار الذي أفطره كل يوم، أفتح التليفزيون لأشاهد نفس المذيعات والبرامج تقريبا، أنظر من النافذة أجد السيارات القديمة تسير كما هي، أرفع عيني إلى السماء لا أرى غزاة قادمين من كوكب آخر؛ إذن فالقيامة لم تقم، ولم يحدث شيء يوم 1 يناير 2000، كما أوهمونا. في ذلك الوقت سقط أمامي أي مستقبل متخيل أو يحاول أحد إيهامي به.
ربما يبدو ما أتحدث عنه الآن ماضيا للقارئ، لكنه كان مستقبلا في ذلك الوقت بالنسبة إلي، تماما كما كان عام 2000 مستقبلا لصناع أحد أعداد مجلة الهلال سنة 1950، والذي تخيلوا فيه مصر بعد خمسين عاما - أي عام 2000 - وتخيلوا وقتها أن مصر ستقوم بإقراض بريطانيا أقوى دولة في العالم وقتها، أما فكري أباظة رئيس تحرير مجلة المصور آنذاك فكتب في مقالته التي يتخيل أنه سيكتبها في يناير 2000: «أعارض أشد المعارضة القرض الذي اعتزمت حكومة مصر أن تقرضه لبريطانيا؛ فالمبلغ جسيم، وحقيقة أن ميزانية الدولة بلغت خمسمائة مليون من الجنيهات، وبلغ الاحتياطي مائتي مليون إلا أن أمام مصر مشروعات في تعمير الأقاليم الجنوبية حتى خط الاستواء، فضلا عن أن الضمانات التي عرضتها إنجلترا ضمانات ضعيفة غير موثوق بها، ولقد كان بوسع أمريكا أن تعاون في هذا القرض لولا الأزمة التي حلت بها في السنتين الماضيتين.»
هذا الخيال الجامح من الأستاذ فكري أباظة أكمله الكاتب الكبير توفيق الحكيم في مقال بعنوان «تحديات سنة 2000»، قال فيه إنه «بإمكان الفرد أن يتنزه لا إلى حديقة الحيوان كالمعتاد، بل بإمكانه أن يؤجر سفينة فضائية ويذهب ليزور خالته على سطح القمر.» طبعا يبدو أقرب تعليق بلغة هذه الأيام على ما مضى مقولة الفنان عادل إمام الشهيرة: «ناس طيبين أوي!»
لكن بعيدا عن عام 2000، ودرس اللغة العربية الذي لا أذكر منه شيئا آخر، وعدد الهلال التنبئي، كان عام 2014 بالنسبة إلي عاما فارقا لسببين؛ الأول: أن إحدى سلاسل الخيال العلمي التي كنت أقرؤها طفلا «ملف المستقبل» وصدرت عام 1984، بدأت أحداثها في عام 2014، وكانت تتحدث عن مخابرات علمية موجودة في مصر - لماذا تضحك؟ - كما أن أحد أفلام الخيال العلمي الشهيرة «العودة إلى المستقبل
Back to the Future » دار جزؤه الثاني في نفس العام.
وبعيدا عما قدمته سلسلة روايات الجيب المصرية التي صدرت تقريبا في نفس عام صدور الفيلم - منتصف الثمانينيات - فإن أطرف ما يتعلق بهذا الفيلم أنه قدم حذاء يربط نفسه حول قدم بطل الفيلم، وهو ما أعلنت شركة «نايكي» أنها ستطلقه قريبا - حسبما ذكر موقع صحيفة «دايلي ميل» البريطانية - معلنة أن الحذاء يحظى بأربطة تلقائية تقوم بربط نفسها بنفسها، وسيحظى بمصابيح مشابهة للتي تعرض في الجزء الثاني من الفيلم.
في الفيلم الذي أخرجه روبرت زيميكس، يمكن فتح الأبواب ببصمات الأصابع، وتظهر الإعلانات التليفزيونية على المباني، كما نراها الآن، ويتحول المقهى إلى آلي، وهو ما يذكرنا باستغلال بعض المحال الغربية - القليلة - للروبوتات والطائرات من دون طيار لتوصيل خدماتها.
ورغم كم الخيال الذي يقدمه الفيلم، فإن ما يلاحظه المشاهد هو أن شيئا واحدا غاب عنه فجعله ينقصه الكثير؛ ألا وهو تقنيات الاتصال الحديث؛ من كمبيوتر، وهواتف نقالة، وإنترنت، إلى الخدمات التي تقدمها أنظمة الأندرويد والآي أو إس، وهو ما يجعلنا نفكر في مدى تأثير هذه التقنيات في تغيير حياتنا بشكل شبه كامل، لكن في المقابل قدم الفيلم أفكارا تحققت بالفعل.
دروس كثيرة مستفادة من الحكايات المتشابكة الماضية، لعل أهمها أننا كنا ذات يوم نملك أحلاما، لم يتحقق منها شيء لأسباب كثيرة نحن في غنى عن ذكرها الآن. في المقابل قدم الفيلم الأمريكي «العودة إلى المستقبل» أحلاما أيضا، لكنهم نجحوا بالفعل في تحقيق أجزاء منها، وسبقهم الواقع في أجزاء أخرى. وربما بهذه المقارنة البسيطة يمكننا أن نفهم أشياء كثيرة.
في معنى الزمن الجميل
أكثر ما يمكن أن تطالعه الآن على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الكتب الصادرة حديثا، هو حكايات وقصص وصور وأغنيات ومقاطع فيديو تنتمي كلها إلى ما يطلق عليه «الزمن الجميل»، مصحوبة برثاء لتلك الأيام الراحلة، وصب اللعنات - بالتوازي - على الزمن الحالي.
يقول المولودون في تلك الفترة إن فترة الثمانينيات كانت هي الأجمل، ويشاركون نكاتا من مسرحيات «العيال كبرت»، و«المتزوجون»، و«شاهد ما شافش حاجة». يشاركون صور «عمو فؤاد»، و«شريهان»، و«بوجي وطمطم». يشاركون أغنيات ل «حسن الأسمر»، و«علاء عبد الخالق»، و«حسام حسني». يشاركون مقاطع فيديو من «فوازير نيللي»، و«تاكسي السهرة»، و«بقلظ وماما نجوى». كل شيء يصبح قابلا للمشاركة، حتى صور الألعاب التي انقرضت، وأغطية زجاجات الكولا، وأغلفة الحلويات، وشكل الملابس، والحنين؛ الحنين الذي لا ينفد إلى تلك الأيام.
لكن على الجانب الآخر، هناك من يتذكر شيئا آخر في الثمانينيات؛ يتذكرون الشباب الذين هاجروا بالآلاف ليصبحوا جزءا من «المجاهدين الأفغان»، يتذكرون الإرهاب الذي ضرب مصر بداية من اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات مرورا بسرقة متاجر ذهب الأقباط، وتكفير الدولة، وآلاف الاعتقالات للأبرياء، ولم تنته إلا مع مبادرة وقف العنف عام 1997، التي تلاها بعد فترة قصيرة حادث مجزرة الأقصر؛ هناك من يتذكرون التصحير الثقافي الذي حدث لمصر في تلك الفترة، مع زحف الوهابية والسلفية، كثمرة بارزة لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي شهدتها مصر؛ هناك من يتحدثون عن بداية تراجع حضور مصر الثقافي، وبداية انغلاقها على ذاتها.
يقول البعض إن الزمن الجميل كان في الخمسينيات والستينيات، بعضهم ينتمي إليها وجدانيا وسياسيا، وبعضهم عاش فيها صباه؛ شاهدوا عبد الناصر وهو يخطب في ميدان المنشية، وشاهدوا الدور الأعظم لمصر في تلك الفترة وهو يمتد من المحيط إلى الخليج، ومصر وهي تساعد دول أفريقيا في التحرر من الاستعمار؛ شاهدوا صعود نجوم مصر الأبارز: نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وطه حسين، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم. شاهدوا قوة مصر الناعمة وهي تمتد وتؤثر، شاهدوا الحلم العربي والقومي وهو يتصاعد ويعلو، ومصر الحديثة وهي تبنى عبر مئات المشاريع والمصانع. كثيرون ما زالوا يحلمون بأن يعيشوا في تلك الفترة.
لكن البعض الآخر يقول إن ذلك الزمن لم يكن جميلا تماما، يستشهدون على ذلك بتهاوي الحلم في 5 يونيو (حزيران) فيما عرف باسم «النكسة»، يتحدثون عن خروقات حقوقية، وعن تعذيب في السجون واستهداف للمعارضة وتجاوزات لأجهزة المخابرات، وصراع بين رجلين قويين في سقف السلطة، وديكتاتورية باسم الشعب.
البعض الآخر يعتبر أن فترة الثلاثينيات والأربعينيات هي الأفضل، هي الزمن الجميل الذي لن يتكرر، ويتذكرون بدايات كل شيء جميل في مصر: بدايات السينما، والإذاعة، وجامعة القاهرة، والوحدة الوطنية، و«الشياكة» في الزي، والشوارع الهادئة النظيفة، ونجوم مصر الأبارز في السينما والمسرح: يوسف وهبي، وأمينة رزق، وسليمان نجيب؛ وفي الكتابة مثل: العقاد، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد. يتحدثون عن ليبرالية حقيقية وتعددية حزبية حقيقية ولدت في ذلك الزمن، وكان يمكن - إذا استمرت - أن تضع مصر في مصاف الدول الديمقراطية.
لكن البعض الآخر يعتبر أن ذلك لم يكن الزمن الجميل إطلاقا، وإلا ما قامت ثورة 23 يوليو ضد الظلم والفساد، يتحدثون عن استئثار فئة فاسدة بالحكم، وعن صفقة الأسلحة الفاسدة في حرب 48، عن التعليم الذي لم يكن يظفر به إلا الأغنياء، أما الأكثرية الفقراء فكانوا ضائعين ما بين تفشي الأوبئة والجهل، عن الصورة الجميلة في قصور الحكم والفقر المدقع في باقي البلاد، عن التواطؤ الذي أضاع فلسطين في نكبة 1948، وعن فساد القصر الذي أضاع البلاد بأكملها، وعن مصر التي تم جرها وتوريطها في الحرب العالمية الثانية دون أن يكون لها يد في ذلك.
ما الذي يعنيه كل هذا؟ إنه لا يعني إلا أن كل زمن هو جميل وقبيح في نفس الوقت، فقط يرتبط الأمر دائما بزاوية نظرتنا إليه، بحنيننا إلى الماضي، باللحظة التي كانت بين أيدينا وذهبت ولن تعود أبدا، يرتبط برفضنا لواقعنا.
مفهوم الزمن الجميل يرتبط في الأساس بحنيننا لطفولتنا؛ فلو أن لدينا أسرة مكونة من جد ولد في الثلاثينيات وأب ولد في الستينيات وحفيد ولد في الثمانينيات، فسيرى كل منهم في طفولته أنها هي الزمن الأجمل على الإطلاق؛ لأنه في طفولته لم يكن يرى إلا الجانب الأجمل من منظور البراءة التي كان عليها، ولأنه في هذه الفترة - فترة طفولته - تشكل وعيه وأفكاره وذاكرته التي ستقوده إلى مواجهة العالم بجانبيه الأبيض والأسود اللذين سيواجههما فيما بعد.
أعرف بلادا ما زالت تصنع الزمن الجميل كل يوم، كل يوم تضيف شيئا جديدا إلى تراث الإنسانية، وأعرف أشخاصا يصنعون سعادتهم بأنفسهم، وزمنهم الجميل كل يوم، حتى لو كان ساعة في اليوم أو في الشهر أو في الأسبوع. الجميع يصاب ب «النوستالجيا» والحنين إلى الماضي، لكنه يكثر في المجتمعات التي تعيش على عظام أجدادها، وعلى ما صنعه الآباء والأجداد، لا على ما سيصنعونه هم.
كل زمن هو زمن جميل، فقط يتوقف الأمر على زاوية رؤيتك له، كل زمن هو زمن سيئ، فقط اعرف كيف تنظر إليه وكيف تعيشه. حتى هذا الزمن الذي نحيا فيه الآن، وننتقده بدواعشه ومجازره وتحولاته الجذرية، بعولمته وهوية أوطانه الممزقة، سيكون أفضل لأطفال هذا الزمن الذين سيكبرون بعد سنوات ويشاركون صورا ل «بن تن»، و«نانسي عجرم»، و«أندرويد» وهم يتحدثون عن الزمن الجميل الذي ولى ولن يعود؛ ربما لأن الزمن الجميل - كما قلت من قبل - دائما يرتبط بفترة الطفولة، وربما لأنها النوستالجيا التي تطاردنا ونقاوم بها قبح ما نحيا، وربما لأن القادم - دائما بالنسبة إلينا - أسوأ.
سؤال الزمن
يدور أحد اسكتشات مسرحية «قهوة سادة» - التي أخرجها «خالد جلال» في عام 2009 - في المستقبل القريب؛ حيث يترحم بعض الأشخاص على زمن الغناء الجميل، متذكرين أيام أغنية «العنب»، و«الست». و«الست» هنا ليس مقصودا بها «الست أم كلثوم»، ولكن أغنية انتشرت في ذلك الوقت اسمها «الست لما».
فعليا، تحققت نبوءة الاسكتش الهزلي، وأصبحت هاتان الأغنيتان الآن - بعد سنوات قليلة - من «التراث الغنائي الشعبي» إذا اعتبرنا كل ما قدم في الماضي - غثه وسمينه - من التراث، وإذا نظرنا أيضا إلى ما يتم تقديمه الآن تحت مسمى «المهرجانات الشعبية»، وإن كان ذلك يطرح سؤالا مهما: هل كل ما مضى عليه الزمان يعتبر تراثا، ويضاف إلى ذاكرة الشعوب ويعبر عن تاريخها وثقافتها؟
قبل أن أحاول اقتراح إجابة عن السؤال، أود أن أذكر بحالة النوستالجيا التي تنتاب الكثيرين تجاه كل ما قدم في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من مشاركة ونشر لأغان وبرامج وصور ومسلسلات وأفلام لتلك الفترة، والتي إذا أزحنا منها جانب «الحنين إلى الماضي»، فسنكون في كثير من الأحيان أمام أعمال ضعيفة فنيا.
قد يجيب البعض بأن أعمال تلك الفترة أفضل فنيا من أعمال المرحلة الحالية، وقد يكون هذا صحيحا، لكن هل الأفضل أن نقارنها بالأسوأ أم بالأفضل؟ بما سبقها أم بما تلاها؟ وهل هذا يعني أيضا أن كل ما تلاها سيئ؟
أتذكر في التسعينيات المقالات التي كانت تدبج في الصحف والمجلات لمهاجمة ما أطلق عليه وقتها «الأغنية الشبابية»، وكان بعض الكتاب الساخرين يسمونها «الأغنية الهبابية»، ساخرين من إيقاع «الطبلة» و«التصفيق» الذي يصاحب تلك الأغنيات القصيرة التي لم تخرج من عباءة «التراث الموسيقي العريق». بعد حوالي عشرين عاما من هذه التسمية وهذه السخرية، تحول مقدمو هذه الأغاني إلى مطربين كبار، وتحولت هذه الأغاني بالفعل إلى كلاسيكيات في نظر من يستمعون إليها الآن، أو في نظر الأجيال الجديدة التي تستمع إلى نوع آخر من الموسيقى، أو بحكم الزمن.
ينطبق هذا الكلام بالمناسبة على الأفلام التي قدمت في بداية الألفية وأطلق عليها: «السينما الشبابية»، وتحولت مع الوقت إلى أفلام قديمة. وما تجدر الإشارة هنا إليه أنه مع سرعة إيقاع العصر، ومع كثرة ما يقدم، أصبحت «المواد الفنية» تذهب إلى «مفرمة» الزمن والتاريخ بشكل أسرع، وإن كانت مواقع الفيديو والفضائيات الكثيرة حفظتها قليلا من النسيان.
هذا يطرح سؤالا آخر: هل يكشف هذا أننا أمام تراجع مستمر فيما يقدم من أعمال فنية، وربما لهذا نحن نرى أن الماضي - رغم سوئه - أفضل من الحالي؟ ربما إذا أجبنا عن هذا السؤال ب «نعم» فيمكننا الاستدلال - ما دمنا تحدثنا عن الأغاني - ببعض ما يقوله محبو محمد منير وعمرو دياب، من أنهم يفضلون سماع أعمالهم القديمة لأنها أعلى قيمة وأكثر تعبيرا عنهم، على عكس الأغاني الجديدة التي يرون أنها أقل فنيا. الطريف أن هذا الكلام كان يتردد في أواخر السبعينيات أيضا عن عبد الحليم حافظ، الذي رآه البعض تخلى عن الأعمال الأصيلة التي كان يقدمها في بداياته، وهو ما يطرح سؤالا آخر حول ما يقدمه الفنان عموما في بداياته وخواتيمه، وأيهما أكثر تعبيرا عنه.
هذا الأمر تكرر مع عدد من المطربين القدامى الذين حاولوا العودة لجمهورهم، وتقديم أعمال جديدة في التسعينيات، مثلما فعلت وردة، أو محاولة محمد رشدي ومحمد العزبي إعادة توزيع أغان قديمة، بحجة «مواكبة العصر»، وفي ظني أن هذه الجملة تحديدا يمكن أن تجيب عن كثير من الأسئلة المنبثقة فيما مضى، وهي أن العصر يفرض متطلباته، وكل جيل يفرض ذوقه. لكن هل بالضرورة أن كل جيل جديد يكون ذوقه أقل من الجيل الذي يليه؟ أم إنه يستجيب لما يقدم له منذ صغره؛ فيكبر عليه ويكون ولاؤه له، فلا يقبل تغييره ويشعر بالحنين إليه عندما يكبر؟ «الذوق»، حسبما أطرحه هنا، هو جزء من الثقافة العامة. وإذا كان ثمة ما يقدم للوعي الجمعي بانتظام، فإنه هو ما يشكل «الذوق العام»، وهو ما يصنع الثقافة العامة، وهذا دور مؤسسات تقدم أعمالا وأخرى تقيم. ويمكنك أن تربط هذا الكلام بما يحب الكاتب محمد حسنين هيكل تسميته «القوة الناعمة لمصر»؛ أي تأثير مصر الثقافي في محيطها، والذي - لا شك - تراجع مع تراجع المنتج الثقافي المقدم من مصر، بعد تراجع اهتمام المؤسسات المعنية بالثقافة بهذا الدور. وإذا كان المحيط المصري العربي أوجد بدائل لهذه «القوة الناعمة» - قد تكون منتجات داخلية، أو من ثقافات أخرى - فهو في النهاية ليس مجبرا على تلقي ما يقدم في مصر إذا لم يكن جيدا، فإن المتلقي المصري ظل حبيسا داخلها، تدفعه وتدفع ذوقه إلى مزيد من التدني والانحدار.
أود الإشارة هنا إلى مفارقة: إنه على الرغم من تراجع القوة المصرية الناعمة لأسباب كثيرة، فإن جزءا من تراجع السينما المصرية في الثمانينيات والتسعينيات، كان ما سمي ب «السوق الخليجية»؛ إذ لجأ عدد من المنتجين إلى تعليب أفلام في شرائط فيديو - أطلق عليها اسم «أفلام المقاولات» - وبيعها مباشرة إلى السوق الخليجية دون أن تمر على قاعات السينما المصرية، ويمكن مشاهدة بعضها وملاحظة انعدام القيمة الفنية بها، عندما تعاد الآن في بعض القنوات الفضائية التي تقدم أيضا صورة أخرى للتردي الإعلامي.
بالتأكيد قدم جيل الثمانينيات - وأخص بالذكر حميد الشاعري - مشروعا موسيقيا، حتى لو كان مرفوضا في عصره، تماما كما فعل عبد الحليم حافظ الذي كان مرفوضا في بدايته، وأعتقد أن كل شخص يقدم شيئا جديدا يحاول أن يسبق عصره أو يواكبه سيرفض في البداية، لكن هل هذه قاعدة أم استثناء؟ سؤال آخر: هل كل ما مضى عليه عدد من السنوات يتحول إلى تراث؟ وبأي ذوق إذن نحكم على الفن ما دام كل شيء - حتى الفن نفسه - يتطور؟ حسنا؛ هذه أسئلة يمكننا أن نجيب عنها إذا عرفنا ماهية الفن، وماهية الزمن.
زمن التدوين الجميل
قبل أكثر من عام ونصف العام، أعلنت شركة «ياهو» إغلاق مدونات «مكتوب» الشهيرة المملوكة لها؛ وهو الأمر الذي مثل صدمة لعدد كبير من المدونين، لدرجة أنهم اتهموا الشركة بتدمير المحتوى العربي. لكن لو نظرنا للأمر من زاوية أخرى، واعتبرنا «ياهو» مجرد شركة تجارية تبحث عن الربح، وأدركت أن مشروعها التجاري لم يعد مربحا، فإن هذا سيجعلنا نطرح سؤالا مهما: هل انتهى بالفعل زمن التدوين؟
لا يمكن الإجابة بالنفي عن هذا السؤال، ولا بالإيجاب أيضا؛ لأن هناك عددا من الشركات الداعمة للمدونات لا تزال تعمل؛ مثل: «بلوجر»، أو «وورد برس»، أو «تمبلر»؛ وإن كان المحتوى نفسه وطريقة التعاطي معه وتأثيره قد تغيرت كثيرا. وربما لو عدنا إلى البدايات وتتبعنا مسار الأحداث، لأمكننا أن نستنتج بسهولة ما حدث.
عرف العالم المدونات في بدايات العقد الماضي، مع الحرب على العراق تحديدا؛ إذ استغلها صحافيون أجانب لنشر حقائق ما يدور، وبدأت بعد ذلك في الانتشار عربيا على أنقاض المجموعات البريدية والمنتديات (التي أصدرت «ياهو» أخيرا قرارا بإغلاق بعضها أيضا)، بل يمكن أن نقول إن هجرة كبيرة حدثت من المنتديات إلى المدونات حيث خصوصية أكثر، ومساحة أكبر للبوح، بعيدا عن رقابة المشرف على المنتدى.
كانت المدونات بمنزلة النافذة التي فتحت على البراح باب الحرية الأول، الذي يتيح لأي شخص أن يقول ما يشاء بعيدا عن الوجبات سابقة التجهيز التي تقدم في الإعلام الرسمي، أو الرقابة المفروضة على كل وسائل الإعلام. وربما لهذا السبب برزت المدونات السياسية في البداية، والتي لعبت دورا محوريا في الحراك السياسي الذي شهدته مصر خلال عام 2005. كان المدونون ينزلون الشارع، يصورون، يكتبون، يرصدون ما حدث، ثم يعودون ويرفعون ما صوروه وكتبوه على مدوناتهم؛ وهو الأمر الذي جلب لعدد منهم العديد من الجوائز؛ فانتشرت تسمية «الصحافة الشعبية» على ما يقدم.
إذا كانت المدونات قد ركزت في البداية على السياسة، وكانت تكتب باللغتين العربية والإنجليزية، مع غلبة الأخيرة، فإنها مع انتشارها بدأت تعود إلى معناها الحقيقي، وهي فكرة «التدوين»؛ أي أن يدون المرء يومياته وتفاصيل حياته، ثم انتشرت المدونات الثقافية، والفنية، وتنوعت وازدهرت بشكل مبهر، وكانت هي المتنفس الحقيقي لآلاف الشباب للتعبير عن آرائهم، قبل ظهور المواقع الإلكترونية المصرية، وخاصية التعليق على الأخبار، وبالطبع مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.
كانت المدونات هي بداية فكرة «التشبيك» الحقيقية التي ازدهرت فيما بعد في فيس بوك وتويتر؛ حيث يتلقى المدون التعليقات على ما كتبه من مدونين آخرين، يبادلهم التعليق على ما كتبوه، وشيئا فشيئا تكون مجتمع المدونين، وهو ما برز - على سبيل المثال - في الحفل الذي أقاموه في نقابة الصحافيين المصريين منتصف عام 2006، تحت عنوان «غني يا بهية»، والذي غطته وسائل إعلام مصرية وأجنبية، وهو ما تكرر فيما بعد، وهذه القوة الإعلامية هي التي جعلتهم في المقابل يطالبون بحقوق الملكية الفكرية لمدوناتهم التي تتعرض للسرقة من بعض الصحف.
كان ذلك العام هو ذروة مجد المدونين؛ إذ أنشأت بعض الصحف صفحات خاصة - أول من فعل ذلك كانت صحيفة «الدستور» في إصدارها الثاني - لنشر التدوينات، واستكتبت بعضهم، واجتذبت دور النشر المدونات، حتى إن دار نشر عريقة مثل «الشروق» قررت أن تصدر كتبا للتدوينات، لعل أبرزها كتاب «عايزة أتجوز» الذي كان نشر في مدونة بالاسم نفسه؛ وهو الذي تحول إلى مسلسل درامي فيما بعد، كما جمعت الروائية «نهى محمود» تدوينات من مدونتها «كراكيب» في كتاب حمل الاسم نفسه، وأصدرت دار العين كتاب «عندما أسمع كلمة مدونة أتحسس مسدسي»، والذي جمع فيه الروائي «محمد كمال حسن» عددا من أبرز التدوينات الثقافية في ذلك الوقت، لمدونين تحولوا إلى نجوم في مجالاتهم الآن، بل إن عددا من دور النشر نشأت خصوصا في ذلك الوقت لنشر ما يكتب على المدونات، وتحويل «المدونين» إلى كتاب.
هذا الصراع بين صورة «المدون» على الإنترنت، وصورة «مؤلف الكتاب» أدى بالتبعية إلى انتصار «الصورة التقليدية»، وهرولة عدد من المدونين إلى إصدار «مدوناتهم» في كتب؛ وهو ما جعل الغث يختلط بالسمين، وباعد أيضا بينهم وبين مدوناتهم.
شعر المدونون بثقلهم النسبي، وتحولوا إلى نجوم على الفضائيات، وكتاب أعمدة في الصحف، وساهمت المدونات في تحققهم وانتشارهم، فتغيرت من ثم نظرتهم إلى مدوناتهم؛ لأن ثمة فارقا بين أن تكتب وأنت تعتقد أن لا أحد يراقبك ويعرفك وتعرفه وينتظر منك شيئا، وبين أن تكتب وتبوح بما داخلك لأنك تفعل ذلك، ويمكن اعتبار أن هذه الأسباب كانت بداية نهاية العصر الذهبي للتدوين.
في عام 2007، بدأ انتشار التدوين المصغر في «فيس بوك»، ثم «تويتر»، وهو ما وجد فيه عدد ممن لجئوا للتدوين لمجرد التواصل فقط، الفرصة لأن يهاجروا إلى كوكب أوسع وأشمل وأكثر «اجتماعية»، كما أن مشاهير التدوين اتجهوا أيضا إلى هناك؛ بحثا عن عدد أكبر من «المتابعين» على تويتر، أو «مجتمع مغلق قليلا» في فيس بوك، وتحول التعريف على شاشات الفضائيات من «مدون» إلى «ناشط على وسائل التواصل الاجتماعي».
خفت بريق التدوين قليلا مع الوقت، ربما لرحيل نجومه عنه، أو من جعلهم التدوين نجوما، خاصة مع التأثير الكبير الذي أحدثه «تويتر» و«فيس بوك» إبان ثورة 25 يناير 2011، لكن مع ذلك يدرك من يتابعون المدونات أن هذا العالم لم ينته، ولن ينتهي.
الأمر أشبه بالحديث عن «هل أدى ظهور التليفزيون إلى إلغاء الإذاعة؟» والإجابة: «طبعا لا.» وهو ما حدث أيضا مع المدونات، التي تحولت في عدد كبير منها إلى مجلات ثقافية وفنية وتكنولوجية، وبدائل لمواقع شخصية للكتاب، ينشرون عليها نتاجهم الإبداعي، دون انتظار كبير ل «لايك» أو «شير»؛ هؤلاء ينتمون حقا للمدونات، ويعرفون أنها صرخة في وجه العدم، ومساحة أوسع للبوح، دون ضجيج ودون حاجة ل «النجومية»؛ ولهذا كانت - وستظل - المدونات.
ندوة «جبريل»
يتحدث كتاب جيل الستينيات في مصر دائما في حواراتهم وندواتهم وسيرهم الذاتية عن فضل الروائي «عبد الفتاح الجمل» عليهم، وكيف استقبلهم في ملحقه بجريدة «المساء» وقدم كتابا مثل: إبراهيم أصلان، وبهاء طاهر، وعبد الرحمن الأبنودي، ويوسف القعيد، ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، وربما آن للجيل الذي أنتمي إليه، وأجيال سبقتني وأخرى لحقتني أن تتحدث عن فضل الروائي «محمد جبريل» - وندوته في جريدة «المساء» أيضا - عليهم.
كان ذلك منذ زمن طويل نسبيا، ربما ستة عشر عاما، حين التقيته أول مرة، وما زلت أذكر ذلك اليوم جيدا؛ إنصاته باهتمام، ترحيبه بشخص أول مرة يقابله، ملامحه الطيبة، ووده الشديد. داومت على الحضور في الندوة التي كانت أقرب لورشة كتابة (قبل أن تنتشر ورش الكتابة المعروفة الآن) منها إلى مجرد ندوة تقرأ فيها النصوص وتنتظر من يصفق لها. في الندوة التقيت بأبرز كتاب الجيل الذي أنتمي إليه؛ مثل: محمد صلاح العزب، وطارق إمام، وأحمد شافعي، ومحمد عبد النبي، والطاهر شرقاوي، وهاني عبد المريد، ومحمد الفخراني، وكتاب من أجيال سابقة؛ مثل: مجدي عبد الرحيم، وسيد الوكيل، ومحمود الحلواني، وسعيد نوح، وهويدا صالح ... وكثيرون غيرهم.
لم يكن فضل جبريل على الكتاب الذين كانوا يعيشون في القاهرة ويحضرون ندوته في النقابة أو الجريدة فقط، بل إن ثمة دورا مهما لجبريل يعرفه كتاب الأقاليم؛ فقد فتح صفحته الأسبوعية بجريدة المساء لكتابتهم، ولتقديم أعمالهم، بل وتقديم تقييم شهري لهذه الكتابات التي نشرت من خلال ناقد يقرأ النصوص التي قدمتها الصفحة؛ لذا كنا نفاجأ في الندوة كل أسبوع أو أكثر بوجه معروف لنا كاسم من كتاب الأقاليم يحضر بيننا، حتى بالنسبة إلي؛ فقد سمعت بها وبالأستاذ جبريل (وكنت بعد في المرحلة الثانوية أعيش في أقصى الصعيد) ممن سبقوني إلى هناك، وأعتقد أن هذا تكرر من كثيرين غيري؛ فتوارثنا محبة محمد جبريل وندوته جيلا بعد جيل.
تغير مكان الندوة أكثر من مرة، وفي كل مرة كنا نرحل وراءها كسرب نمل يسير بانتظام إلى طريق يعرفه جيدا، أو كمسحورين يسيرون إلى حيث يشير الساحر، من مقر نقابة الصحافيين القديم في شارع الجلاء في الدور الثاني، إلى مقر النقابة الجديد في شارع عبد الخالق ثروت، مرة في الدور الثاني، ومرة في الدور الثالث، ومرة في الدور الثامن، ثم إلى مقر جريدة الجمهورية الجديد في شارع رمسيس.
كان ثمة طقس نتبعه في تلك الأيام: نلتقي عصر كل خميس في أحد المقاهي القريبة من مقر عقد الندوة، نتناقش فيما قرأنا وكتبنا، ثم نتوجه للندوة التي تبدأ الساعة السابعة. نجد الأستاذ جبريل قد سبقنا بالوصول، وجلس بكتاب في يده لم يكن يفارقه مطلقا، بل كان يحمل أكثر من كتاب في حقيبته؛ حتى إذا أنهى واحدا بدأ في الآخر مباشرة. يطلب شايا بالحليب (مشروبه المفضل) ويدعونا إلى مشروب، ثم يصر أن يدفع حساب مشروبات جميع الحاضرين كل مرة. يجول بعينيه في وجوهنا، فإذا شعر أن العدد كاف للبدء، يقرر بدء الندوة التي يستمر توافد الوجوه الجديدة عليها حتى الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف.
كانت هناك ندوات أدبية كثيرة ثابتة تعقد في تلك الأيام، حتى في مقر نقابة الصحافيين التي نحضر فيها ندوة الأستاذ جبريل، ولأننا كنا نملك طاقة ووقتا فقد مررنا في البداية على كل تلك الندوات التي كانت تستغرق جل الأيام - كان ذلك قبل «موضة حفلات التوقيع»، والمكتبات الكثيرة التي تقيم ندوات متقطعة في وسط البلد - لكننا في النهاية قررنا أن نستقر في ندوة الأستاذ جبريل ونكتفي بها؛ لأنها كانت تتميز بأنها الأكثر انحيازا للكتابة الجديدة الشابة المتمردة؛ ففي حين كانت الأخرى يسيطر عليها الانحياز للقصيدة العمودية مثلا وتهاجم من يكتب قصيدة النثر، أو تنحاز للقصة التقليدية وتهاجم من يجرب أن يكتب شيئا مختلفا، كانت ندوة جبريل تحتفي بكل جديد، وكان الأستاذ جبريل نفسه يساعد على ذلك. ولعل أكثر ما كان يميزها هو التقارب العمري بين حضورها؛ فقد كنا جميعا - تقريبا - في أعمار متقاربة، بل إن الأستاذ جبريل نفسه كان يجلس بيننا حول الطاولة المستديرة كأنه واحد منا، بل كان في كثير من الأحيان يطلب من بعضنا إدارة الندوة ويكتفي هو بالجلوس، كما أن الأكثر أهمية هو أنه كان يرفض التدخل بالتعليق أو توجيه سير الندوة والتعليقات على النصوص المقروءة في اتجاه معين، أو فرض رأيه، أو حتى بقراءة نص له؛ إذ كان يرفض ذلك تماما، بل كان ينصت باهتمام شديد لكل التعليقات. قد يتدخل بكلمة هنا أو هناك لضبط الإيقاع كعازف ماهر، وإذا بدأ كاتب قراءة نصه رفع وجهه إلى أعلى، وأغلق عينيه، وأرهف سمعه جيدا. كان بالرغم من عمره، وبالرغم من كل ما قدمه كتابة ونقدا، يجلس بيننا كواحد منا، شديد الاهتمام بكل كلمة تقال، لا يتعالى على كاتب حتى لو كان يقرأ أول نص كتبه، يشعر كل واحد بأنه كاتب مهم، وأنه يقرأ ويقول شيئا مهما حتى لو كان مختلفا معه.
كان يتدخل في حالات نادرة؛ إذا شعر أن جميع من في الندوة قرروا مهاجمة كاتب في بداية طريقه، وأن هذا قد يشكل عقدة له، فيتدخل ليتناقش ويعطي أملا جديدا، ويطلب من الكاتب أن يحضر نصا آخر في المرة القادمة، دون أن يشعر أحدا من الحاضرين أنه تدخل، ودون أن يجبر أحدا على تغيير رأيه. كان يدخل للنقاش وللدفاع عن صوت قد يحتاج إلى من يدافع عنه في تلك اللحظة.
أعرف محمد جبريل جيدا، أعرفه ككاتب كبير وكإنسان. زرته في بيته الذي فتحه لي وللكثيرين غيري من جيلي ومن أجيال أخرى، عشرات المرات. أعرفه كزاهد في الحياة الثقافية بضجيجها ومعاركها التافهة، أعرفه كراهب اختار أن يكتب فقط، ويعيش بعيدا عن كل تجمعات القاهرة الثقافية، مكتفيا بمحبته التي منحها لأجيال كثيرة، ودوره الذي لعبه في تشكيل ثقافتهم ومحبتهم للكتابة، ومكتفيا بمحبتهم له التي تعطيه طاقة، حتى وإن لم يظهروها فهي موجودة وراسخة. المشهد الرئيسي في بيت محمد جبريل هو الكتب فقط، لدرجة أن من يزور البيت أول مرة يتخيل أن هذه مكتبة، بنيت حيطانها من الكتب، ثم وضعوا داخلها الأثاث، ووسط هذا يجلس محمد جبريل على مكتبه يقرأ ويكتب، أو على كمبيوتره يحذف كلمة أو يضيف حرفا.
لم يدخل جبريل في معارك جانبية مع أحد، ولم ينشغل كما يفعل الكثيرون بالنميمة وتمضية الوقت في الكلام. اكتفى بدوره في صنع عالم من الكتابة آمن به؛ بكتابته، وبالمساهمة في صنع أجيال من الكتاب من خلال ندوته أو صفحته الأسبوعية بجريدة المساء، وإذا سألت العشرات، بل المئات ممن مروا على ندوته، فستجدهم يحملون له الكثير من الحب على صنيعه معهم.
أسأل صديقا لي - وأنا خارج مصر - هل لا يزال يذهب إلى ندوة الأستاذ جبريل، فيجيبني بأن الندوة توقفت، فتتداعى الذكريات، عن الدور الذي لعبه في تشكيل وعيي ووعي الكثيرين غيري؛ بدوره المهم في كتابته وفي ندوة استمرت قرابة الثلاثين عاما. ربما لم يقدم أحد منا له الشكر على ذلك، وأعرف أنه لا ينتظر ذلك من أحد؛ لأنه كان مؤمنا بما فعله، لكنني أود أن أقول له إنني أحمل له كل العرفان والمحبة والامتنان.
نهاية الذكريات
مشهد (1):
دم يسيل، رائحة موت في كل مكان، شخص يتسلق لافتة إعلانات ضخمة يهدد بالانتحار، بعد دقائق يترنح جسده جيئة وذهابا من حبل معلق في اللافتة العالية. في الأسفل ترتفع عشرات الأيدي تراقب ما يحدث عبر شاشات الهواتف التي تسجل ما حدث وما يحدث بالصوت والصورة، كأن الموت الذي زكم الأنوف في عالم آخر، في زمان آخر، في مكان مواز، تفصله عن الزمان والمكان والعالم شاشة الهاتف المحمول.
مشهد (2):
طقس عائلي جميل، ثلاثة أبناء يتحلقون حول أب وأم يقلبان ألبوما للصور، يتذكران تاريخ كل صورة، مكان التقاطها، حكاية كل ضحكة، نكتة عن كل انحناءة غريبة، أسماء الموجودين في الصور ومصائرهم. تتوالى اللقطات لتحكي تاريخ عائلة وأصدقاء في محطات واضحة حددتها نظرة الكاميرا ، تتقاطر الحكايات مثل عربات قطار ملون لا ينتهي، شغف بلا نهاية يجعل العائلة تلتف كل فترة حول الألبوم لتستعيد الحكايات والذكريات.
ما بين المشهدين؛ الأول والثاني، تقف الإنسانية عاجزة الآن ولا تعرف ماذا تفعل؛ فلم تعد الصورة ذاكرة إضافية للإنسان، تحفظ له بعض الذكريات السعيدة من النسيان، تهون عليه مر الأيام كلما عاد إليها لتذكرها؛ فالكاميرا التي أصبحت في كل هاتف في يد كل شخص تقريبا، امتهنت هذه الذكريات السعيدة، ليس هذا فقط، بل حولت «اللقطة» - مع كثرتها - إلى مجرد حدث عادي، لا يستحق الاحتفال.
قبل عشرة أعوام لم يكن الأمر هكذا، كان ثمة طقس بين الأصدقاء في المناسبات، وبين الأسرة في الأوقات التي يراد إضافتها إلى أرشيف العائلة، يتطلب الذهاب إلى «استوديو التصوير» ارتداء أجمل ما لديهم، الوقوف في وضعيات خاصة يطلبها المصور، الذي يقترب كي يعدل انحناءة رقبة، أو يغير اتجاه نظرة، أو يرفع خصلة شعر سقطت من مكانها، أو يضبط ياقة قميص، ثم يعود مرة أخرى إلى مكانه، يقول كلمة أو كلمتين، يرفع يده، ويضم إصبعا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم يضيء المكان بضوء الكاميرا المبهر. يضحك الجميع، ويبتسم المصور الذي يقف بين مظلتين، وفي يده كاميرا، كأنه صانع بهجة من نوع خاص، ومن عالم آخر.
تراجع كل ذلك، قل المارون أمام استوديوهات التصوير، أصبحت المهنة بالنسبة للعاملين فيها «قليلة الرزق»، مجرد تصوير أفراح قليلة، وصور صغيرة للجهات الحكومية. «السيلفي» الآن في كل يد، في كل مكان، على المقهى، في الجامعة، في الحافلة، في الطريق، في السرير، في المقابر. «السيلفي» يلتهم الروح، يلتهم جمال الإنسانية، لكن لا شيء يوقف «السيلفي» الذي تأتي صوره من البر والبحر والفضاء وكل مكان.
تحولت الصورة إلى دليل إدانة لمن يصورها، وليس لمن قام بالجريمة؛ ففي كل موضع ألم، مكان كل حادث، في محيط كل انفجار، تجد العشرات يرفعون هاتفهم المحمول؛ ليسجلوا اللحظة الفارقة، ليسجلوا الألم والحزن، لكي ينشروه لأصحابهم، لكي يميلوا على أصحابهم في المقهى بشاشة الهاتف، وهم يقولون: «انظروا أين كنا، ومع ذلك لم يحدث لنا شيء.» انبهار الأصدقاء بالصورة يوازيه انهيار في إنسانية من التقط الصور، الذي ترك «الألم والحزن والموت» يحدث، واكتفى هو بالتقاط الصورة، كأنه يظن أن شاشة الكاميرا تفصله عن عالم مواز دار فيه هذا الحادث، كأنه يجلس في السينما ويشاهد ما يحدث عبر نظارة
3D
يرى كل شيء يحدث حوله، لكنه يعرف أنه في مأمن.
أفقدت الصور المتتالية الكثيرة الناس الإحساس بالحدث، أفقدتهم الشعور بالسعادة بما يحدث؛ لأنهم يهتمون بتوثيق الصورة أكثر من اهتمامهم بالحدث نفسه، يهتمون بصورة جميلة يضعونها على «فيس بوك» تجلب الإعجابات والتعليقات أكثر من أي شيء آخر، كأن كل شيء يحدث من أجل هذه الصورة ليس أكثر.
تعلمنا في الصحافة أن الصورة أحيانا تكون خيرا من ألف كلمة، لكن مع هذا الكم الهائل من الصور يقول العلماء إنها تساعد على ألزهايمر، تلتهم الذاكرة؛ لأنه استعاض عن ذاكرته بذاكرة الهاتف وذاكرة الكمبيوتر.
الإشكالية الحقيقية هنا هي أنه لن نشعر بالحنين فيما بعد لأي شيء؛ لأن كل اللحظات تساوت في الصور، لأن كل شيء أصبح متاحا في الذاكرة الاصطناعية. الأمر لا يتعلق بالصورة فقط، بل بالفيديو الذي يحمله موقع «يوتيوب» على كتفيه، كل شيء أصبح متاحا، لن نشعر بالحنين فيما بعد إلى أغنية قديمة أو جديدة، إلى برنامج عرض من عام أو عشرة، لن تكون هناك «نوستالجيا»؛ فكل شيء تحت أيدينا، بضغطة زر؛ ضغطة واحدة، ويأتي كل ما نريده. ما حاجتك إلى ذاكرتك إذن؟! ما حاجتك إلى ذكرياتك؟! ما حاجتك إلى الذهاب إلى استوديو للتصوير؟! ما حاجتك إلى جلسة عائلية حول ألبوم صور؟! ما حاجتك إلى ألبوم صور أصلا؟! ضع ما تريده في خانة البحث وجد ما تريده، لكن حاذر من الفوضى؛ فوضى كراكيب الذكريات، التي يلتهم بعضها بعضا، فماذا تفعل تفاحة فاسدة في جوال تفاح طيب؟!
تتسارع وتيرة الزمن، ويغدو ما حدث من عام - مع كثرة ما مر، مع كثرة مقاطع الفيديو والصور - كأنه مر من زمن بعيد، يضحي تاريخا، يأكل التاريخ بعضه ، ولا يتبقى أي شيء.
هل أنا غاضب من التكنولوجيا؟ هل أنا ناقم على الصور؟ لست غاضبا ولا ناقما، لكن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. فتش عن إنسانيتك، وتمسك بها.
الخوف من التكنولوجيا
يسمونه «التكنوفوبيا»، أو «رهاب التكنولوجيا». ظهر لأول مرة خلال الثورة الصناعية، ويصيب من يخافون التقدم التقني؛ لذا يحجمون عن التعامل معه. قد يكون هذا منطقيا مع بعض الذين آثروا الابتعاد عن كل ما أنتجته يد الإنسان، وفضلوا النأي بأنفسهم، مستخدمين ما أنتجته الطبيعة فقط، لكن ماذا عندما يصيب هذا «الرهاب» أحد «آلهة» التقدم؟ هل يدفعنا هذا للقلق مثله على مستقبل البشرية؟ «ستيفن هوكينج» هو أحد أشهر علماء البشرية، صاحب نظرية إمكانية «السفر عبر الزمن»، له أبحاث نظرية في علم الكون والعلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية، كما أن كتابه الأشهر «تاريخ موجز للزمن» باع ملايين النسخ، فضلا عن تخصصه في الفيزياء النظرية. هو لمن لا يعرفه لا ينطق ولا يتحرك، لكنه يستخدم كرسيا متحركا ويتكلم مستعينا بجهاز كمبيوتر بصوت صناعي بات مميزا له، هوكينج يدين بحياته للتكنولوجيا، لكنه رغم ذلك يرى أنها السبب في قرب فناء الجنس البشري، وربما لهذا السبب يجب أن نستمع له.
في مقابلة أخيرة له مع بي بي سي، حذر ستيفن هوكينج من أن تطور التقنيات الذكية قد يكون مؤشرا على قرب فناء الجنس البشري، ورأى أن هذا النوع من التقنيات يمكن أن يتطور بشكل سريع وأن يتجاوز طاقات البشر، في سيناريو يحاكي أفلام الخيال العلمي. وقال: «إن الأشكال البدائية للذكاء الاصطناعي التي بتنا نملكها أظهرت فائدتها الكبيرة، لكني أعتقد أن تطوير ذكاء اصطناعي كامل من شأنه أن ينهي وجود الجنس البشري.»
قد يرى البعض هذا الكلام مكررا، قد يكون مثاليا لمن حذروا من امتلاك القنابل الذرية قبل أكثر من سبعين عاما، وقد يسعد الذين يرفضون تناول الأغذية المعدلة وراثيا؛ لأنهم يرون أن الإنسان خرب الطبيعة، لكن ربما إذا وضعنا ما قاله هوكينج إلى جوار ما كتبه «ماركوس فيلدنج» - وهو ضابط كبير في الجيش الأسترالي وخبير مختص في الدراسات الدفاعية - في مقال له قبل أسبوع في مجلة «ذي ناشونال إنترست» عن استخدام الروبوتات في الحروب؛ يبدو الأمر مختلفا.
الضابط الأسترالي يرى أنه لا مفر من ذلك في الصراعات مستقبلا، وأن ذلك سيؤدي إلى نقلة نوعية في طبائع الحروب، ومنبها إلى أن النقاش قد بدأ بالفعل حول كيفية تطوير وتطبيق هذه الإمكانات؛ فالروبوتات أصغر وأذكى وأقل تكلفة وأكثر انتشارا، والروبوتات القاتلة باتت أكثر فتكا وأكثر قدرة على التمييز، كما أن درجة الاستقلال ستكون عاملا أساسيا في دور الروبوت في الصراعات، مرجحا أن تتطور الروبوتات في ثلاثة أجيال: الجيل شبه المستقل، والمستقل المقيد، وأخيرا الجيل المستقل بالكامل.
الجيل شبه المستقل موجود بالفعل، وربما تكون الطائرات من دون طيار أحد تجلياته، لكن جيل الروبوتات المستقل بالكامل، يشبهه فيلدنج بفيلم «المدمر
Terminator »، إنتاج 1984، لكن في الواقع سيتخذ الروبوت القاتل المستقل بالكامل شكلا وظيفيا بدلا من ذاك الشكل البشري المتخيل في الفيلم.
العالم البريطاني يبدو خائفا، والجنرال الأسترالي يبدو سعيدا. وهذا هو الصراع الحقيقي الذي سنراه في المستقبل، بين العلم والسلطة، خاصة إذا وضعنا في حسباننا ما أشار إليه عالم الاتصال الكندي «مارشال مكلوهان» من أن «التكنولوجيا الرقمية هي القوة الحقيقية.»
ربما ما ينقص مشهد الرعب الذي ذكرناه فيما مضى، المجنون الذي يريد السيطرة على العالم، ربما يكون هذا المجنون دولة، أو إرهابيا، أو حتى مجرد «هاكرز»، مثل القراصنة الذين نقرأ بانتظام عن الحملات التي يشنونها على مؤسسات كبرى أو عن استيلائهم على محتوى بيانات تخص الكثيرين، مثلما حدث مع «آي كلاود» في الفترة الأخيرة، وهو ما يدفعنا دائما للتساؤل: ماذا لو سيطر مجنون على الإنترنت؟ ماذا لو قرر هذا المجنون إيقافه، ويجعلنا نعيد التفكير في الشركات التي تسيطر على كل بياناتنا الشخصية - «أندرويد»، و«آبل» - وتعرف عاداتنا وعلاقاتنا الشخصية، وتتجسس علينا؟ ماذا يعني أن هناك مليار مشترك على فيس بوك؟ ماذا يعني أن تملك شركة واحدة بيانات تخص عادات وأفكار مليار بشري؟ هذا القلق انتاب البرلمان الأوروبي أيضا من قبل عندما حذر من أن محرك البحث «جوجل» يسيطر على 90٪ من عمليات البحث في أوروبا؛ مما يجعله مهيمنا على الاتحاد.
إذا مددنا الخيوط السابقة على طولها، وإذا وضعنا شكل هوكينج، وصوته المميز، وتحذيره في الحسبان، إذا استعنا بالفيلم الذي ذكره الجنرال الأسترالي في مقاله؛ فلربما وجدنا أننا في فيلم خيال علمي أمريكي جديد، لكنه واقعي هذه المرة. هذا الفيلم سينتهي بإحدى نهايتين؛ إما بنهاية كوكب الأرض وسيطرة الآلات والروبوتات الذكية التي بدأت تنتشر في كل الوظائف على مصير البشرية - وهو ما قدمته السينما بالفعل في أفلام كثيرة - أو بتدمير الكوكب تماما على يد أحد المجانين الذين سيطروا على كل معلوماتها، وهنا يتحقق قول «فيكتور هوجو»: «الخوف ليس أن تموت، الخوف هو ألا تعيش حياتك.»
لا ريب أن التكنولوجيا المتقدمة تعيد صياغة مفهوم القوة، ومشهد سيطرة الآلات أو الكمبيوترات على الأرض الذي كان يمكنك أن تراه وأنت جالس مطمئن في قاعة السينما، مستمتع بمشاهدته، وبأن شاشة السينما تفصلك عن العالم الذي يدور فيه، يبدو أنه اقترب من الواقع وحطم حاجز الإيهام؛ لأنه بحسب قول ستيفن هوكينج: «تمكن البشر من تطوير ذكاء اصطناعي قائم بذاته، قد يتطور مستقلا عنهم وبشكل متسارع، ولن يكون البشر المحكومون بقواعد التطور البيولوجية البطيئة قادرين على مجاراته.»
هل أنا مصاب بالتكنوفوبيا؟ ربما.
في انتظار الوباء القادم
خفت الحديث عن وباء «إيبولا» قليلا، بعد أن ظل قرابة العام يحصد الأرواح وينشر الرعب في أفريقيا وفي العالم الذي لم يحدد بعد كيف سينتهي: بالحروب أم بالأوبئة.
لكن «خفوت» الحديث عن «إيبولا» لا يعني انتهاء الوباء الذي تسلم الراية من وباء سبقه هو «فيروس كورونا»، وسبقه «إنفلونزا الخنازير»، ومن قبله «إنفلونزا الطيور»، وقبله «جنون البقر»، وقبله «الإيدز»، وهكذا لا تسقط الراية أبدا، بل تنتقل من فيروس إلى آخر، من وباء إلى آخر أشد فتكا. وحسب الإحصائيات الحديثة، فإن ما يقرب من الأربعين نوعا من الأمراض المعدية الجديدة أطلت على العالم خلال الثلاثين سنة الماضية لأول مرة.
لكن يبدو أن الوباء القادم هو الأعنف ، وعلى العالم أن يجهز نفسه له؛ ففي رسالة وجهها أحد كبار رجال المعلوماتية في العالم؛ مؤسس شركة مايكروسوفت بيل جيتس - قبل أيام - إلى العالم، حذر من الموجة القادمة من الأوبئة، ومن الكارثة التي سوف تحملها موجة عالمية مقبلة من العدوى؛ استنادا إلى دروس «إيبولا».
جيتس كان شريكا في «صندوق ميلندا وبيل جيتس»، واستنادا إلى تجربته في هذا الصندوق قال: إن موجة «إيبولا» أثبتت أنه ما لم يتأهب العالم بشكل مناسب؛ فالكارثة التي تسببها عدوى ما في المستقبل ستكون فادحة تماما، مذكرا بأن وباء الإنفلونزا قضى على قرابة 30 مليونا بين عامي 1918 و1920.
لكن لماذا هناك موجة جديدة من الأوبئة، رغم ما وصل إليه الطب من تقدم، ورغم ما وصل إليه العالم من علم وتكنولوجيا، ورغم أن أسباب الأوبئة القديمة، من انعدام الرعاية الصحية، لم تعد موجودة؟ ستجد ألف مقال وكتاب يجيبك عن هذا السؤال بأن هناك من يصنع الأوبئة في سباق الحرب على الثراء والسيطرة. وسواء أكنت ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة أم لا، فالأمر في حاجة إلى التفكير بالفعل في الأسباب التي يبديها من يتهمون أجهزة مخابرات وشركات أدوية ودولا بخلق أجيال فيروسات جديدة، وأسلحة بيولوجية وجرثومية، مدللين - على سبيل المثال - بما تردد عما يسمى «الجمرة الخبيثة»، عقب أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، والتي كما بدأ الكلام عنها فجأة خفت فجأة أيضا.
لكن بغض النظر عن نظرية المؤامرة، وصحة هذا من عدمه، فإن ما أعتقده هو أن صناعة الأوبئة في عصرنا الحاضر هي صناعة بشرية، حتى وإن كانت بشكل غير مقصود؛ فهناك من يرى أن هناك آثارا خطيرة للتلوث الصناعي، وتداعيات هائلة سببتها الشركات الرأسمالية المتوحشة؛ لذلك فمن الطبيعي أن يحدث تلوث يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض الغريبة، كما أن هناك من يرى أسباب انتشار الأوبئة القديمة قد عادت مع عودة الحروب بشكلها الهمجي، وتهجير ملايين الأشخاص من بيوتهم، وما يتبع ذلك من فقر وجوع، وانهيار للنظام الصحي الكفيل برعايتهم، بل انعدامه تماما، وهو ما يؤدي بشكل تلقائي إلى انتشار الأوبئة. وهنا أيضا لا يمكن أن نبرئ الأسلحة الكيماوية وما تسببه.
ترتبط الأوبئة بالفقر، ويرتبط الفقر بالحروب بشكل أو بآخر، وهذا يستحضر أسباب الأوبئة الأولى مرة أخرى، ويخلق بيئة حاضنة لها. وربما ما لا يدركه «المتورطون» في صناعة الأوبئة - بإرادتهم أو من دون إرادتهم - أن الموت الناجم عن وباء لا ينتقي أحدا؛ فيكفي أن ينتقل مريض حاضن للفيروس في طائرة من قرية فقيرة بأفريقيا إلى أحد أغنى أحياء نيويورك لينتشر الوباء. ويذكر هذا برواية «الطاعون» لألبير كامو؛ حيث تنتشر الجرذان الميتة في كل مكان في مقدمة الرواية، في مشهد مخيف، وعندما يصيب الوباء «البوابين» يظن سكان المدينة أنه يصيب الفقراء فقط، لكن الطاعون ينتشر ويتمدد ويقتل، ولا يفرق بين أحد.
وإذا كان عدد من الأفلام الأمريكية قد توقع نهاية العالم بانتشار وباء يقضي على البشرية، لعل آخرها
World War Z ، للنجم براد بيت، وسبقه
I’m Legend
لويل سميث، وهناك أيضا
Contagion
و
Twelve Monkey
وغيرها الكثير، فإن التاريخ يقول إن الكرة الأرضية أشرفت على الفناء أكثر من مرة في تاريخها بسبب الأوبئة، من أشهرها طاعون جستنيان الذي ظهر في صعيد مصر وانتقل إلى تركيا، وضرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو الإمبراطورية البيزنطية، بما في ذلك العاصمة القسطنطينية، في السنوات 541 و542 ميلاديا. والسبب الأكثر ترجيحا عند المؤرخين هو مرض الطاعون الدملي. وكان الطاعون يقتل ما يصل إلى 10000 شخص يوميا في المدينة. وبسبب الجهل، كان الناس يحتضنون بعضهم بعضا؛ ظنا منهم أن ذلك هو العلاج الأمثل للطاعون، بعد أن انتشرت إشاعة بينهم بهذا المعنى. ويقال إنه قتل ما يقارب 175 مليون شخص؛ أي أكثر من نصف سكان أوروبا في ذلك الوقت.
في موسوعته المهمة «قصة الحضارة»، يشير «ويل ديورانت» تحت عنوان «الموت الأسود» إلى أن «وباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى؛ فقد أزعج أوروبا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر، وإحدى وأربعين سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر، وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان.» لكن رغم تقدم الإنسان، فإنه لم يقض على الأوبئة، بل صار يصنعها؛ تارة بشكل مقصود، وتارة بجهله وإصراره على الدفع بالحياة إلى فوهة نهاية العالم بإشعال الحروب، وكأن هناك سباقا مقصودا: من الذي سينهي العالم أولا؛ الحروب أم الأوبئة؟ رغم أن الإجابة واحدة: الإنسان الذي يصنعهما؛ فإحداهما صارت ناجمة عن الأخرى.
عيون مفتوحة على اتساعها
في نهاية 2006 اختارت مجلة «تايم» الأمريكية شخصية العام
You ، وشرحت ذلك بقولها: «أنت. نعم أنت. أنت الذي تسيطر على عصر المعلومات. أهلا بك في عالمك»، تزامن ذلك الاختيار مع الصعود الصاروخي لمواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيس بوك، وانتشار مدو للمدونات واستخدام الإنترنت وصعود نجم الصحافة الشعبية و«المواطن الصحافي»، وانتشار آلية التعليقات على مواقع الإنترنت، والتي جعلت من قامة القارئ مساوية لقامة الكاتب الكبير.
الآن، بعد 8 سنوات من عدد «تايم» ذاك، يمكن القول إن هذه كانت أكبر كذبة صحافية شهدها العالم، ف «أنت» لم تكن فاعلا، بل صرت مفعولا به بجدارة، بعد أن سقطت في فخ زمن المعلوماتية، الذي يسجل كل ما تفعله ويؤرشفه ويستخدمه إذا اقتضت الحاجة سلاحا ضدك، وليس غريبا أن نعرف أن مكتبة الكونغرس تؤرشف كل يوم جميع التدوينات على موقع تويتر، غثها وسمينها. «أنت» يمكن ببساطة أن يتم حشدك عبر صفحات فيس بوك للتحرك في الشوارع، وتحريكك كما حدث في
v for vendetta
بالضبط، يمكن تسجيل كل ما حولك عبر «التابلت» في يدك، وشاشة الكمبيوتر أمام عينيك، ويمكن معرفة مكانك بالضبط عن طريق الهاتف الذي تحمله في يدك.
هذه دوامة لا يجدي التحذير منها، لا مخرج منها، فمن يخرج منها فسيخرج من النظام العالمي الجديد في النهاية؛ فالكثيرون يعرفون بالثغرات الأمنية في موقع فيس بوك، لكن لم يتوقف أحد عن التعاطي معه، الجميع يسمع بالاتهامات ل «أبل» بتسريب بيانات عملائها للمخابرات، لكن لم يتوقف أحد عن شراء «آي فون» و«آي باد». لقد تحول الأمر إلى إدمان، وخوف من الخروج من السباق.
لم يقدم إدوارد سنودن خدمة للبشرية حينما كشف تنصت الاستخبارات الأمريكية على زعماء بعض الدول بمقدار ما قدم خدمة لهذه لأنظمة التي حذرها من التجسس عليها، وفي النهاية سيبقى الفرد، شخصية العام 2006،
You ، أنت، منتهكا، مسروقا، تحت رحمة هذه الأجهزة، والعيون التي تراقب.
اهتمت السينما الأمريكية بالتجسس على الآخرين، وانتهاك الخصوصية، لعل أبرز فيلم تناول ذلك كان فيلم شارون ستون الشهير
silver ، وفيلم دانيال كريغ «الفتاة ذات وشم التنين»، فضلا عن الفيلم الأشهر في هذا المجال وهو «المحادثة» (1974)، جزئه الثاني «عدو الدولة» الذي قدم عام 1988، غير أن هذه الأفلام تحدثت عن اختراق شخص لخصوصية شخص آخر، ولم تتحدث عن اختراق المنظمات لخصوصية الأفراد، بعد أن تجاوز الأمر مجرد كاميرا مزروعة في شارع أو غرفة نوم أو تنصت على مكالمة هاتفية. غير أن السؤال الأهم طرحه المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي، في فيلم «الأحمر»، أحد أجزاء ثلاثيته الشهيرة عن الألوان، عندما سألت بطلة الفيلم رجلا يتجسس على جيرانه ليقومهم: «هل تظن نفسك إلها؟»
الإجابة عن هذا السؤال يقدمها العصر الراهن بعد أن اعتبر البعض أنفسهم يتجاوزون دور الآلهة، بعد أن صارت أجهزة استخبارات ودول ومنظمات وشركات عابرة للقارات، تسعى للسيطرة على العالم، وبعد أن استغنت عن عمل الجواسيس والاستطلاعات السرية بامتلاك المعلومات عن طريق التكنولوجيا.
يظن الكثيرون أنهم لا يعنون أجهزة الاستخبارات في شيء، لكن الحقيقة أنهم جزء من منظومة تكون رأيا عاما، تكون صورة واضحة لجزء كبير من مكان، أنهم تفصيلة ضمن تفاصيل كثيرة إذا تجاورت أصبحت الصورة كاملة. «أنت» لم تعد منذ الآن تملك جهازك المحمول ولا حسابك على تويتر وإنستغرام، بل صار هو من يملكك؛ لأن جهاز الأندرويد يعرف أين ذهبت من خرائط غوغل، وحسابك في إنستغرام يعرف الصور التي التقطتها ومن هم أصدقاؤك، وحسابك على فيس بوك يعرف أي الصفحات تفضل ويسجل آراءك السياسية وتفضيلاتك حتى في المطاعم، وحسابك على تويتر يعرف حالتك المزاجية، وحسابك على لنكدإن يعرف تاريخك الوظيفي، وحسابك على «جي ميل» يعرف مراسلاتك السرية، وصفحتك على غوغل تعرف عن أي الأشياء تبحث وماذا تخبئ، وحسابك على غوغل درايف يملك مستنداتك السرية، وهاتفك يملك قائمة اتصالاتك، بل إن بعض تطبيقات الهاتف تقيس حالتك الصحية، وحتى متصفحك على كمبيوترك الخاص يعرف كل ما تفعله على كمبيوترك، وأنت لا تستطيع الفكاك من كل هذا، لا تستطيع التخلي عن هاتفك لساعة واحدة، فماذا يملك إذن من يملك كل هذا؟ يملكك.
الكمبيوتر الذي كان مرسوما على غلاف المجلة الأمريكية نهاية 2006، لم يلبث أن تعددت شاشاته، ليصبح «لاب توب»، و«تابلت»، و«تليفون محمول»، و«جهاز ألعاب أون لاين»، و«تليفزيون متصل بالإنترنت»، وأخيرا «غوغل غلاس»، وما زلنا في انتظار «غير ووتش»، وغيرها ممن يجمع كل حركات وسكنات من يستخدمها.
لم يعد من يستخدم هذا الكمبيوتر هو شخصية العام، بعد أن سقط في عبودية زمن المعلومات، وأصبح مجرد رقم في منظومة كبيرة، تتعامل مع الملايين، تجمع البيانات، وتحلل، تقوم بعمل الجواسيس القدامى، لكن هذه المرة من مكان بعيد، من خلف الكمبيوتر الضخم، حيث الصوت العميق القادم من «الأخ الكبير»، الآمر الناهي الساخر العالم ببواطن الأمور، المفتوحة عيناه على اتساعهما، شخصية العام، وكل عام.
عيون ناقصة
الوقت يقترب من منتصف الليل، فيما الميكروباص يشق شارع فيصل، أغنية لا أفهمها تفجر الكاسيت، تتحدث عن العبد والشيطان، أواصل انكفائي على كتاب في يدي قد يقطع ملل الطريق، فيما صوت السائق يردد متصاعدا: الأستاذ أبو نضارة.
انتبهت فجأة إلى الصوت الذي تكرر، أتلفت، كانت السيارة خالية إلا مني، لم أهتم كثيرا بصوت السائق الذي تابع:
سلامة السمع، الآخر يا أستاذ.
فقط انتبهت إلى أنني «الأستاذ أبو نضارة».
كان قد مر عام تقريبا منذ ارتديت نظارة طبية لأول مرة في حياتي، لكنها كانت المرة الأولى التي يناديني فيها أحد بهذا اللقب «أبو نضارة»، وألتفت إلى أن الأمر يلفت اهتمام الناس إلى هذا الحد.
ما قاله الرجل كان طبيعيا، غير الطبيعي كان هو اهتمامي المبالغ، لدرجة أن أعود إلى المنزل وأنظر إلى نفسي في المرآة: هل أنا بنظارة فعلا؟
حين ذهبت لطبيب العيون للمرة الأولى، بعد ألم طال طويلا، وزغللة في العينين، قال لي: «المفروض كنت لبست نضارة من زمان.»
لكن حينما تسلمت النظارة من البائع، وسرت بها لأول مرة في الشارع، شعرت أن هناك فاصلا بيني وبين الحياة، أن ما يجري في الحياة من خلف النظارة شيء، وأنا وعالمي الذي يتزاحم خلفها، شيء آخر. وحين عبرت الشارع المزدحم لأول مرة بها، كنت مترددا كطفل يخطو خطواته الأولى، أو خائفا من أن أخطئ حساب المسافات من خلف النظارة فتصدمني سيارة.
أحد الأصدقاء الطيبين قال لي: «ده شيء طبيعي، لكن هتتعود بعد كده.»
في مرحلة ما من العمر كانت النظارة من مكملات «الشياكة»، وأذكر أنني في الصف الثالث الإعدادي اشتريت نظارة بخمسة جنيهات، حتى أكون شبيها بالكتاب الذين أقرأ لهم، كنت أطمح لأن أصبح واحدا منهم فيما أقضي جل يومي في القراءة، لكنني أدركت بعد فوات الأوان، أنه ليس شرطا أن يرتدي الكاتب نظارة حتى يصبح كذلك.
ما أذكره أيضا، أن النظارة كانت تتحول في قريتنا، التي ترقد في جنوب البلاد، أحيانا إلى سبب للمعايرة، بأن لابسها قد فقد بصره، أو كاد. أذكر أيضا أن أحد أعمامي ضعفت عيناه بسبب السن، ونصحه الطبيب بأن يرتدي نظارة، لكن خوفه من كلام الناس جعله يرفض ذلك، فماذا يملك الرجل في الريف سوى صحته وعينيه، لكن مع تراجع البصر اضطر إلى لبس نظارة، لكنه كان يلبسها فقط حين يكون في البيت بين أبنائه، ويخلعها إذا خرج ليجلس على المقهى.
لم أفرح بالنظارة، ولم أعلقها في جيب القميص كما كان يفعل بعض الزملاء في المرحلة الثانوية، أو أضعها في الجراب، وأضع الجراب أمامي كما كان يفعل الكثيرون في الجامعة؛ لأنني ببساطة، أكتشف ذلك الآن، لا أرتدي نظارة شمس، بل عندما أنظر إلى الذين يرتدونها الآن أكاد أقول: يا لكم من مرفهين!
بعد عام ونصف تقريبا، من ارتدائي النظارة، ذهبت لإجراء كشف صحي، طلبوه مني في العمل، فاكتشفت أن الدوائر غير المكتملة عند طبيب العيون عادت لتهتز مرة أخرى، ولا تبين نهاياتها، أحكي للأصدقاء فينصحونني بالذهاب مرة أخرى إلى الطبيب؛ لأنه من الطبيعي أن أغير النظارة كل عام ونصف .
أبحث عن رقم الطبيب، لا يرد، في اليوم التالي يرد الممرض بعد ممانعة: من فضلك دي عيادة دكتور فلان؟ - ... - طيب أنا كنت كشفت من سنة وعاوز أعيد الكشف. - ... - قصدي عاوز أكشف تاني، عشان نظري ضعف أكتر.
يقول الممرض إنه من الممكن أن أكشف عند ابن الطبيب، فهو متخصص في العيون أيضا.
أسأله: طيب بالنسبة إلى الدكتور فلان؟
يرد بحيادية: تعيش إنت.
البصر الذي يذهب رويدا أكتشف أهميته وأنا أحدق في شاشة الكمبيوتر وأكاد لا أرى، أو حين أضطر للنوم من الثامنة مساء بسبب ألم حارق في العينين، أو حين أضطر لترك متابعة فيلم أحبه لأنني لا أميز الوجوه جيدا، أو حين يناديني سائق ميكروباص: الأستاذ أبو نضارة.
اصمت حتى أراك
ربما لو قيض لسقراط أن يعيش بعضا من هذه الأيام، لأعاد التفكير في عبارته «تكلم حتى أراك»، وأدرك أنها أصبحت لعنة، مع شلالات الكلام المنهمرة من كل مكان؛ من الفضائيات والصحف والإذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي والكتب؛ كلام ... كلام ... كلام لا ينتهي.
جملة سقراط الشهيرة قالها - كما قيل في الأثر - عندما كان في جلسة روحية مع عدد من طلابه يتناقشون حول قضية من القضايا، وجاء أحدهم وهو يتبختر في مشيه، يزهو بنفسه، وسيما بشكله، فنظر إليه سقراط مطولا، ثم قال جملته الشهيرة التي أصبحت مثلا. لكن يبدو أن الجميع الآن قرر تنفيذ وصية سقراط وبدءوا في كلام لا ينتهي، جملة طويلة واحدة لا أول لها ولا آخر، الجميع يتكلم في نفس الوقت، ولا أحد يسمع حتى يحكم أو يرى أو يقيم من يتكلم.
وربما أكثر ما يعبر عن اللحظة الراهنة القصيدة الشهيرة التي قالها الشاعر المصري الراحل بيرم التونسي قبل عقود عن الغناء، لكن يمكن تطبيقها الآن على كل كلمة تقال:
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا ... دقيقة سكوت لله
داحنا شبعنا كلام ما له معنى ... ويا عين ويا ليل ويا آه.
وما قاله بيرم ينطبق على كل ما يقال الآن، جرب مثلا أن تدخل على موقع تويتر، أو موقع فيس بوك ، وانظر بعين ناقدة إلى ما يقال، آلاف الكلمات التي تسكب لكنها لا تقول شيئا، كلام لإشباع غريزة الكلام فقط، لكنه لا يقول شيئا. كل شخص يسعى للكلام ليقول إنه موجود، دون أن يتحقق مما يقوله. كل شخص يحجز مكانا في هذا العالم بالكلام، وليس بمعنى الكلام. ليس مطلوبا من كل شخص أن يتحول إلى حكيم وفيلسوف وشاعر ومبدع، لكن مطلوب منه أن يتوقف قليلا ويراجع ما يكتبه أو يقوله، إنه كلام لتمضية الوقت، لقتله، لقتل القيمة الحقيقية للكلمة، رغم أن هناك عشرات الأمثال العربية والأجنبية التي تتحدث عن أن الكلام من فضة والسكوت من ذهب، ولسانك حصانك، وأن الله خلق لنا أذنين وفما واحدا لنسمع أكثر مما نتكلم، وإلى آخر هذه الأمثال التي لا مجال لها الآن.
وإذا كان هذا الأمر بالنسبة إلى الأشخاص العاديين، فما بالك بالأشخاص المسئولين! لا أقصد بهم السياسيين فقط، ولكن أقصد من يملكون جمهورا - ولو قليلا - أيا من كانوا، فعندها تتحول الكلمة إلى حكم بالإعدام على شخص، وتقييم لأي شيء وكل شيء، هنا تتحول الكلمة إلى رصاصة.
آفة الكلام ليست فقط في عدم تدبر ما يقال، لكنها في عدم الاستماع إلى الآخر؛ لأنه لا مجال لأن تستمع إلى شخص وأنت تتكلم. أما الآفة الثانية فهي أنه مع كثرة كلام الشخص لا يصبح لكلام الآخرين معنى؛ ولهذا كثرت المزايدة في مجتمعاتنا؛ كل شخص يملك «لسانا» يعتقد أنه أفضل من الآخر؛ لذا لا يمانع في أن يهاجم ويشتم من يعارضه، مع أن «اللسان» خلق للنقاش، وليس «للقتال».
الأمر لا يتوقف على من لديهم جمهور يتابعهم، بل إن الجمهور ذاته أصبح يدلي بدلوه، يصدر الأحكام القطعية، ادخل إلى أي موقع على الإنترنت، واقرأ تعليقات القراء على مقالات القراء وأخبار الصحف، ستجد نفسك أمام نوعية أخرى من الكلام، نوعية تصدر أحكاما فورية بالخيانة والعمالة والغباء والجهل، دون تدبر أو تمهل أو تقييم حقيقي لما يحدث. كيف حدث هذا؟ كيف بدأ شلال الكلام هذا في انهماره حتى كاد أن يغرقنا ، إن لم يكن أغرقنا بالفعل؟ «ملء الهواء » هو مصطلح يعرفه من عمل في الفضائيات المصرية، ويقصد به أن كل فضائية تبث 24 ساعة كل يوم عبر الأثير (الهواء)؛ لذا تحتاج إلى أن تملأ هذا «الهواء» بمواد برمجية؛ مسلسلات أو أفلام أو برامج تذاع على الهواء مباشرة، يخرج فيها المذيع لمدة ثلاث ساعات يتكلم حتى «يملأ وقت الهواء» المخصص له، فيقول كل شيء ويصدر أحكامه القطعية ليزيد جمهوره، ليس مهما ما يقول، لكن المهم أن «يملأ الهواء»؛ ألا تشعر القناة بعجزه عن تمضية الوقت بالكلام. مئات الفضائيات تملأ الهواء بكلام، كلام فقط، مجرد كلام فقط ليس له معنى. الأمر نفسه ينطبق على الصحف، التي يجب أن تسود صفحاتها كل يوم حتى تصدر للقارئ، ليس مهما ما الذي ستقدمه، لكن المهم ألا تقدم صفحة فارغة للقارئ.
وقديما قال ابن مالك في ألفيته الشهيرة، واصفا الجملة المفيدة، وسانا قاعدة لغوية ومعرفية بسيطة:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم وفعل ثم حرف الكلم
لكن المشكلة الآن أن اللفظ المفيد، والجملة المفيدة، تبدو جملة فارغة لا تقول شيئا، قعقعة بلا طحن، ولا تضيف شيئا؛ لأنها كلام، محض كلام، تماما مثل ألفية ابن مالك ذات القيمة العالية في شرح علم النحو، لكنها في النهاية نظم وليست شعرا؛ لأنها أخذت شكل الشعر وليس جوهره. وهو ما يفعله الكلام الآن، يأخذ شكل الكلام، صوته، طريقته في النطق، لكنه عبارة عن فقاقيع صابون فارغة، دخان ما يلبث أن يتبدد في الهواء.
حتى هذا المقال مجرد كلام، حروف متراصة تصنع جملا، تصنع مقالا، تنضم إلى موقع، تصنع فضاء إلكترونيا، يزخر بآلاف ومئات وملايين المقالات الهائمة في هذا الفضاء السيبري، يخرج معظمها دون أن يفكر في إضافة شيء إلى قارئ، لكنها فقط تطفئ ظمأ الرغبة الجارفة، والشهوة الحارقة إلى الكلام، كلام إلى جانب كلام، إلى جانب كلام، كلام أكثر من الهواء، أكثر مما تحتمل وتريد الحياة ذاتها.
ربما تكون الجملة الأكثر إفادة الآن هي: «اصمتوا»، اصمتوا قليلا، لحظتها ربما نكتشف إنسانيتنا الضائعة تحت أطلال الجمل المتراكمة، ربما نلتفت قليلا إلى الأطفال الذين يموتون، والمرضى الذين لا يجدون العلاج، والمدن التي دمرتها الحروب، استمتعوا بلحظة الهدوء، انعموا بالسكينة. اصمتوا قليلا حتى نستطيع أن نراكم وترونا، أيها الضائعون مثلنا في متاهات الكلام التي لا تتوقف أبدا.
رجل طيب يموت بسرعة
في مشهد من فيلم «لينكون»، يحكي الممثل دانيال دي لويس - الذي قام بدور رئيس الولايات المتحدة أبراهام لينكون، وفاز عنه بأوسكار أفضل ممثل عام 2012م - أن محاميا كان لديه ببغاء، يوقظه كل صباح، يصرخ: «اليوم هو اليوم الذي سينتهي فيه العالم كما تنبأ الكتاب المقدس.» كل يوم يفعل الشيء نفسه، وفي يوم ما أطلق المحامي النار على الببغاء من أجل السلام والهدوء، كما افترض. وبذلك تحققت النبوءة للطائر على الأقل.
1
هل ثمة علاقة بين الموت والنوم؟ في الحالتين أنت ممدد على أرض منبسطة، تملك وحدك أن ترى، ثمة من يقودك إلى عالم آخر، يبدو كالمتاهة لمن يقف في الخارج لكنك تراه أمامك، مئات الأبواب تفتحها بفرح، تلج كل باب بحثا عن شيء، عن وعد، عن حكاية اختزنتها ذاكرتك وأعادت حكيها. في الحالتين أنت مغمض العينين، لا تتحرك إلا قليلا، ثمة من يلقي غطاء على جسدك. بين الحالتين أنت «الجمال النائم» حتى لو لم يكن هناك ملك وملكة وقصر وجنيات طيبات وشريرات وقبلة حياة في انتظارك. في الحالة الأولى أنت لا تتنفس، في الحالة الثانية تقاوم وتضحك وتبكي وتنتظر ولا تتكلم وتصرخ لكن لا يخرج منك صوتك. في الحالة الأولى لم يعد أحد ليحكي لنا عما وراء ذلك الباب المسحور، في الحالة الثانية أمامك بابان: أحدهما للأحلام والآخر للكوابيس، فاحترس جيدا وأنت تمد يدك للمقبض. في الحالة الأولى - كما يقول من يتحدثون عما بعد الموت - ما سيحدث هو نتيجة لما حدث في حياتك، في الحالة الثانية، سيكون معظم ما يحدث انعكاسا ليومك، وتفسيرا له، وإخراجا لانفعالاتك، وربما انعكاسا لمستقبلك، كأن ترى نفسك معلقا تأكل الطير من رأسك. بين الحالتين رابط طفيف، اسمه الروح؛
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي .
2
ليس شرطا أن تكون في سريرك كي تنام؛ هناك نائمون يتحركون حولك في كل مكان. انظر في وجوه من حولك في العمل وفي المقهى وفي الحافلة، الضاحك والباكي منهم، واسأل نفسك: أيهم على قيد الحياة/اليقظة حقا؟ هؤلاء «السائرون نياما» - بحسب تعبير سعد مكاوي الذي استخدمه لروايته الشهيرة - اختاروا النوم مستيقظين؛ لأنه لا مهرب آخر سوى مواجهة الحياة نوما.
البعض يهرب إلى حياة أخرى متخيلة، البعض يهرب إلى وسائل تواصل اجتماعي لخلق عالم متخيل عن ذاته وعن ذوات الآخرين، البعض يهرب إلى المستقبل، البعض يهرب إلى الماضي، من لا يملك شيئا من هذا يهرب إلى النوم، يهرب من المرض والشر وآلاف التجاذبات التي تجعلك مصلوبا بألف طرف؛ لذا لا ينام بطل رواية «شقيق النوم»، للروائي النمساوي روبرت شنايدر، ليس رغبة في الانتحار بقدر ما هو ولع بالحياة؛ لأن النوم في رأيه شقيق للموت.
راحة النوم، طمأنينة وسلام وهدوء النوم، حرية النوم إن أردت الدقة، تغري اليائسين أحيانا بالانتحار، مشهد النائم الذي يعجز الآخرون عن التواصل معه ولا يأبه بأسئلتهم يبدو مثاليا؛ لذا يبدو النوم/الموت/الانتحار مهربا جيدا، وتحقيقا للرؤية، واستجابة للنداء، وتنفيذا للنبوءة، كما حدث مع ببغاء لينكون.
3
الكثيرون يجيدون النوم في القطارات، لكنني لست منهم. كل رحلاتي كانت طويلة، من الصعيد إلى القاهرة، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، لكنها بلا نوم. أتأمل وجه الغريب، الهارب من شيء ما، النائم جانبي ورأسه يميل على كتفي، فمه مفتوح قليلا فتبين أسنانه، تنفسه منتظم، وبداية شخير يتأهب للخروج. يستمر المشهد طويلا وبشكل متكرر، أعدل رأسه الذي سقط فوق كتفي تماما وأنا أعتذر، فيعتذر بصوت نائم ويواصل النوم. وهكذا أعد أعمدة النور المارقة في الظلام بجوار النافذة وأنا عاجز عن فعل شيء، مثل بطلة رواية «نعاس» لموراكامي، لا أطارد النوم ولا يطاردني، ولا يرى كل منا الآخر. حينما يكون كل من حولك موتى/نائمين يمر الوقت بطيئا، تعجز عن إضاءة المصباح حتى لا تزعجهم ، تلقي رأسك إلى الوراء ولا تفكر في شيء . حدث ذلك كثيرا، لكن ما أتذكره هو تلك المرة حين كانت الحافلة تقطع الطريق من طابا إلى القاهرة والجبال في الخارج تناديني في دأب. السفر يبدو لي نوما أو استيقاظا معنويا طويلا أستيقظ منه، أو أنام بعده عند وضع قدمي في المطار، حتى لو كان لسنوات طويلة. النوم في السفر فن لا يجيده مدمنو الأرق. أغلق عينيك وفكر في الموت، يتأرجح النعش، تماما مثلما يحدث الآن. لا تلق وجهك على رأس المشيعين؛ فربما يكونون موتى مثلك.
4
الأحلام بالأبيض والأسود؛ لهذا لا تشبه الحياة. الحياة ملونة؛ لذا تخدعنا كثيرا. لا نعرف اللون الحقيقي لما يحدث حولنا؛ لذا نهرب منها إلى أي باب مفتوح. الأشياء الأقل عتمة تضيء في الظلام، وهكذا ستتعود على «لا ألوان» الحلم. في النوم أنت تقف على الحياد، وتترك نفسك للأمر كنائم على البحر يترك نفسه للموج وهو مستسلم تماما. في النوم أنت تفشل في طي عنق الأحلام كما تريد، لا تستطيع أن تستيقظ وتواصل نومك لتعود مرة أخرى لتكمل ما بدأته مرة أخرى، لا تستطيع أن تصل عالمي النوم واليقظة - حدث ذلك في الفيلم الفرنسي «علم النوم»، لكنه مجرد فيلم - لكن النوم يأتي أحيانا بأجمل الهدايا؛ فكرة، حل، «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، قصائد جديدة لمن يبحث عن مهرب آخر، طريقة مثلى لنهاية العالم ولو لساعات قليلة.
5
أسوأ ما في النوم أنني لا أستطيع أن أتدخل، أراقبني وأنا أموت أو تطاردني الثعابين أو أسقط في الحفرة، أو في غرفة العمليات ولا أستطيع الحراك، ثم أقول سأستيقظ في النهاية، غير أنني أدرك أنني لن أستيقظ. لا أعرف إذا كنت عالقا بين عالمين. هل كانت قدمي على الهوة وجسدي معلق في الهواء فلم أعرف أين أنا؟ من أين يأتيني هذا الغبار فيما يداي مربوطتان إلى جسدي بشكل أفقي؟ الغبار يأتي من كل مكان، من سماعة الهاتف، من حوافر الجياد في التليفزيون، من الصنبور، من صورة في الكمبيوتر. الغبار يطاردني، يحيطني، يحطم نظارتي، يعرقلني، يسقطني على السرير لأتمدد إلى الأبد . الغبار، الغبار، الغبار، الغبار في كل شيء، وأنا هنا لا أعرف هل هذه سيماء الحلم فأقاوم، أم طبيعة الموت فأستسلم.
Page inconnue