قال: «سأحث أباك أن يستقدمك من بلبيس عندما يتحقق خيانة يوقنا.»
قالت: «افعل ذلك يا أركاديوس، فأنا على العهد إلى أن يقضي الله بما يشاء.»
فهم بالخروج ولكنه عاد فقال لها: «فاتني أن أذكر لك سروري بالوسيلة التي أنقذت بها مارية من الإغراق في النيل.»
قالت: «لعلك تذكرني بجرأتي عليك واستعمالي خاتمك يا أركاديوس؟»
قال: «حاش لله، إني سلمتك قلبي أفلا أسلمك خاتمي؟! فاصنعي ما بدا لك، ولكن ألا ترين أن تنعمي على أركاديوس بتذكار منك؟»
قالت: «وما عسى أن أقدم لك وقد ملكت كل عواطفي؟ إن لدي تذكارا ثمينا أخذته من أمي لم يفارق عنقي منذ صباي، وهو أثمن ما عندي من الحلي، وهو هذا الصليب.» ومدت يدها إلى عنقها وأخرجت سلسلة ذهبية علق بها صليب ذهبي مرصع، قد نقش عليه اسمها بالقبطية، وناولته إياه فتناوله وقبله قائلا: «لا ريب عندي أن هذا الصليب سيدفع عني كل غائلة ويقيني من كل شر.» قال ذلك وعلقه في عنقه وخبأه بين أثوابه، ثم أمسك يدها وودعها وهو يقول: «اذكري أركاديوس ولا تنسيه؛ فأنه سيذكرك ما بقي حيا، ويستعيذ باسمك في حومة الوغى يوم تتقارع السيوف، وتتصادم النبال.»
ثم خرج بعد أن ودع بربارة، فأحست أرمانوسة أن قلبها قد انخلع من مكانه، وظلت تنظر إليه وهو يمشي في أرض الغرفة حتى خرج من الباب، فتحولت إلى النافذة تشيعه بنظرها وهو يتلفت لوداعها حتى توارى. •••
أسرع أركاديوس يطلب مرقس ليركب إلى الحصن، وقد أوجس خيفة من غضب أبيه، وكأنه كان في سكرة وصحا بغتة، فهرول يطلب مكان مرقس، فوصل إلى القرية ونظر يمنة ويسرة فلم ير أحدا، فدخل القرية وجعل يبحث عنه لعله يراه فلم يظفر به، فشغل باله، وهو لا يعلم أين يفتش عنه، ولا يعرف من يسأله عن أمره، ولا يعرف منزله، فجعل يطوف كالتائه، ولما لم يره خرج من القرية حائرا لا يدري إلى أين يذهب، فحدثته نفسه أن يسير إلى مكان المعصرة حيث فارقه لعله بقي هناك مختبئا، وبينما هو في سبيله رأى غبارا يتصاعد عن بعد، فوقف ينظر إلى ما وراء ذلك الغبار، فإذا به قد انكشف عن جيش جرار تتقدمه الأعلام والفرسان، فعلم أن جيش العرب قدم إلى بلبيس، فوقف متحيرا يحرق أسنانه لما أصابه في ذلك اليوم من فقد فرسه وسلاحه، ولبث يفكر في أمره، والجند يقترب نحوه، فخاف عاقبة وقوفه هناك وهو راجل لا يستطيع النجاة لو أدركه فارس من أولئك الفرسان، ولم يكد يفكر في ذلك حتى رأى فارسا يعدو نحوه بأسرع من لمح البصر، فلم تطاوعه أنفته وشهامته على الفرار، فبقي واقفا وقد تهيأ للدفاع، فإذا بالفارس أحد فرسان العرب، وعليه العمامة والشملة، وقد دنا منه وناداه بالعربية، فلم يفهم أركاديوس مراده، ورآه يهوي عليه بالرمح، فاستل هو الحسام وهجم عليه، وقد أدرك مقدار الخطر المحدق به، ولكنه نسي نفسه وموقفه في سبيل شجاعته، وضرب الفارس ضربة أصابت رجل جواده، فنزل الفارس إليه وجعلا يتقارعان، فأعجب الفارس بشجاعة أركاديوس وأكبر أمره، وأراد أن يسوقه أسيرا، ثم جاء فارس آخر، وتعاون الاثنان على أركاديوس، فطعنه أحدهما بالرمح فأصاب زنده، فسقط الحسام من يده. فهم به الاثنان وأوثقاه، وسارا به إلى المعسكر، وكان جند العرب قد وصلوا إذ ذاك وأخذ العبيد في ضرب الخيام وإنزال الأحمال ، ونصبوا خيمة الأمير في ميمنة المعسكر، وأنزلوا الهوادج، وجعلوا يشتغلون بتدبير شئونهم.
فحملوا أركاديوس إلى الأمير، وكان قد أوى إلى خيمته، وجلس أمراؤه بين يديه، ونصبوا علمه أمام الخيمة، وأركاديوس لا يفهم لسانهم، وقد عظم عليه الأمر كثيرا، ولعن الساعة التي خرج فيها من الحصن، ورأى أنه في موقف حرج قد لا ينجو منه.
فأدخلوه خيمة الأمير، فوقف بين يديه موثقا، وتقدم إليه وردان وسأله بلسان الروم قائلا: «أمن جند الروم أنت أم من رجال المقوقس؟»
Page inconnue