وفي صباح اليوم التالي جاءتهم الجواسيس ينبئونهم بنزول العرب بالفرما فبعث الأعيرج ابنه أركاديوس يتولى النظر في قطع الجسرين الموصلين بين الحصن والجزيرة أي بينهم وبين البر الغربي كما قدمنا، فلما عاد من مهمته أخذ كتاب أرمانوسة وأخذ في تلاوته، ففهم أنها في ضيق وتستنجد به، ولكنه لم يفهم سبب ذلك الضيق.
فخطر له أن يستطلع ذلك بالحيلة من صديقه أرسطوليس، فذهب إليه في المكان الذي اعتاد أن يكون فيه فلم يجده، فسأل عنه فقيل له إنه ذهب إلى أبيه بالأمس ولا يزال عنده في بعض جهات الحصن، والحصن بقرية كبيرة، فأخذ يسأل الخدم عنه حتى رآه قادما فاستقبله مسلما، وقال له: «لقد أطلت الغيبة علي يا أرسطوليس، وقد عودتني أن نلتقي كل يوم.»
قال: «كنت في شاغل مع سيدي الوالد بشأن أرمانوسة في هذين اليومين.»
فلما سمع اسم أرمانوسة كاد يتجلى الاحمرار في وجهه فاعتراه الارتباك والتعجب لسبب الاشتغال بها، فقال: «وما هو ذلك الاشتغال؟ لعله خير؟!»
قال: «هو خير إن شاء الله، فإن مولانا قسطنطين بن هرقل قد بعث وفدا ليحمل أرمانوسة إليه، وسيكون في انتظارها عند بحر الروم ليسير بها إلى القسطنطينية.»
فخفق قلب أركاديوس خوفا على أرمانوسة أن يفقدها، ولكنه تجلد وقال: «ثم ماذا حدث؟»
قال: «جاء لوالدي كتاب من قسطنطين في ذلك، فبعث إلى حاكم بلبيس أن يسلمها إلى الوفد، وكان بودنا أن يذهب أحدنا ليشيعها، ولكن اشتغالنا بالتأهب للحرب حال بيننا وبين ذلك.»
فلما سمع أركاديوس الخبر لم يعد يتمالك نفسه من الاضطراب والتأثر، وتعاظم الأمر عليه. وتحقق أن أرمانوسة قد استنجدته، فكيف لا يذهب لنجدتها، فتظاهر بأنه تذكر أمرا يستدعي سرعة ذهابه إلى غرفته، فودع أرسطوليس وخرج وهو يفكر في أمره وأمر أبيه ، فوصل إلى غرفته وقد شعر كأنما صب على جسمه ماء حار تارة وبارد تارة أخرى، ووقف في الغرفة صامتا تتقاذفه هذه العوامل، ثم هب بغتة إلى خوذته فلبسها وتقلد حسامه وهم بالخروج من الغرفة يريد الركوب إلى بلبيس، فرأى في عمله هذا خطرا ظاهرا، فأمسك وعاد إلى الغرفة ووقف إلى النافذة وغرق في بحار الهواجس لا يدري أيطيع عواطفه أم عقله، وبقي كذلك إلى المساء وقد نسي نفسه، فدخل عليه أحد الجند قائلا: إن رسولا بالباب، قال: «فليدخل.» ولما رآه علم أنه قادم من بلبيس، لما شاهد من أثر الغبار على وجهه وعلم أنه جاهد في سوق دابته في أثناء الطريق، وناوله الرسول كتابا فإذا هو من أرمانوسة تقول فيه:
إذا كنت تحب أرمانوسة فأسرع إلى بلبيس لإنقاذها؛ لأنها أصبحت بين مخالب الموت.
فلما قرأ الكتاب اتقدت نيران الغيرة والنخوة في عروقه، فنسي أباه وكل دولة الروم، وأسرع إلى جواده، فركبه وخرج من باب الحصن لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وأطلق لجواده العنان، وكان من خير خيل العرب العتاق حمله إليه صديق له من ضباط الروم في الشام.
Page inconnue