خرج الثلاثة من الحصن وقد مالت الشمس إلى المغيب وليس في طريقهم إلى عين شمس إلا الغياض والبساتين من الكرم والجميز والنخيل وبعض الأبنية، ومعظمها كنائس وأديرة، وفي بعض هذه البقعة مما يلي جبل المقطم بنيت بعد ذلك الفسطاط والقاهرة.
وركبت بربارة المركبة وتناوب الجنديان الركوب على الثورين فمروا بتلك الحقول، وما زالوا يجدون السير حتى دنوا من عين شمس وكانوا قد عرفوا مكانها من مسلتها التي تشاهد عن بعد، والمدينة إذ ذاك قد تداعت إلى الخراب وتهدم سورها سوى جزء صغير منه، أما هيكلها الذائع الصيت فبعد أن كان مدرسة تتسابق إليها الأمم من سائر أقطار العالم لاقتباس علوم المصريين وفلسفتهم وكهانتهم أصبح خرابا بلقعا ينعق فيه البوم، ولم يبق منه إلا بعض الجدران والأعمدة، وأما المسلتان العظيمتان عند بابه فكانتا لا تزالان قائمتين شامختين تناطحان السحاب، يكلل رأس كل منهما تاج من النحاس قد صدئ واخضر، فلما نزل عليه المطر سال الصدأ على ما تحته، أما الأصنام الهائلة التي كان المصريون القدماء يعبدونها إبان دولتهم فكانت لا تزال قائمة، وقد غشاها الذل وغطاها التراب، على أن ضخامتها ما برحت داعية إلى الرهبة.
فلما بلغوا المدينة ترجلوا واجتازوا السور فإذا بالمدينة خالية خاوية، فأرادوا الاستفهام عن أمرها فشاهدوا بيوتا حقيرة قائمة على أنقاض السور من الخارج، فتقدم الرجلان إلى بيت منها وهما في لباس الجند، فلما رآهما أهل البيت ذعروا وفروا وتركوا البيوت وشأنها، ثم سمع الجنديان نباح الكلاب وشاهدوا كلبين كبيرين هجما عليهما ينبحان نباحا شديدا فناديا أهل المنزل فلم يظهر أحد، ثم سمعا خوار الثورين فالتفتا فإذا بهما قد ذعرا لنباح الكلاب، فخافا أن يفرا بالمركبة ويتيها بين الأشجار، فرجع أحدهما وأمسك الثورين وشدهما إلى شجرة بحبل من ألياف النخيل ، وعاد إلى رفيقه وبربارة وكانا قد مشيا وهما يحاذران أن يعضهما كلب، حتى بلغا بيتا منها فإذا بالباب مغلق، فطرقاه فلم يجبهما أحد فعجبا لذلك، وخافا أن يكون في الأمر خطر، فمضيا إلى بيت آخر والكلاب تنبح، فلاقاهما رجل شيخ يتوكأ على عصاه وقد حناه الكبر وكلله الشيب، وأرسل شعر حاجبيه على عينيه وتدلت لحيته على صدره، فتقدما إليه وسلما فحياهما وجلس إلى حجر يلتمس الراحة، فسألوه عن سبب ما شاهدوه من نفور الفلاحين وفرارهم فقال: «وهل أنتم من جند الروم؟» قالا: «بل نحن من جنود مولانا المقوقس، وما سبب سؤالك؟»
قال: «إن على سؤالي هذا يتوقف جوابي، أما وقد علمت أنكم من إخواننا القبط وتحققت ذلك من لهجتكم فأخبركم أن سبب نفور هؤلاء الناس منكم أنهم رأوكم بلباس الجند فظنوكم من جنود الروم. ولا يخفى عليكم ما آلت إليه حالنا من معاملتهم لنا بالقسوة والجفاء، وكم مروا بنا مثل مروركم هذا وكلفونا ما لا طاقة لنا به من الأثقال، حتى كانوا إذا رأوا عندنا متاعا أخذوه، أو حيوانا ساقوه، أو طعاما أكلوه، وآخر ما لاقيناه منهم منذ بضعة أيام إذ مر جماعة منهم يريدون قصر الشمع فلم يغادروا شيئا في طريقهم إلا أفسدوه، فداسوا الزرع، وساقوا الماشية، ونهبوا البيوت، ولما كلمهم ابني وتضرع إليهم أن يشفقوا على حالنا أوسعوه ضربا ولكما؛ فلا لوم على قومنا في الفرار، وأنا والله لولا عجزي عن الركض ما وقفت أمامكم، فالحمد لله على ما حصل، واعلموا أننا رهن إشارتكم في كل ما تريدون، فانزلوا على الرحب والسعة.»
قال أحد الجنديين واسمه مرقس: «أإلى هذا الحد تخافون رجال حكومتكم؟» فتأوه الشيخ تأوها عميقا ورفع نظره إليهما وقد بل الدمع عينيه، وقال: «كأني بكما لغضاضة شبابكما وحداثة سنكما لم تذوقا ما ذاقته هذه الشيبة، ولا قاسيتما ما قاساه هذه الشيخ، الحق أن حالنا مع هؤلاء الروم يتفتت لها الصخر، وقد مضى علي ثمانون عاما لم أذق فيها الراحة يوما، ولا سمعت خبرا مفرحا ، وقد وقعت في الخطر مرارا، وذقت العذاب ألوانا، وكم تمنيت أن يملك بلادنا هذه أهل البجة أو أهل الحبشة؛ فإنهم أقرب إلى الشفقة والرحمة من هؤلاء، ويلوح لي أن الزمن المنتظر قد اقترب.» وكان يكلمهما وهو مطرق لانحناء ظهره وهما مصغيان لكلامه حتى شغلا عن سيدهما والسؤال عنه، ولكن بربارة ذكرتهما بما جاءوا من أجله، فقال مرقس للشيخ: «لقد سرنا حديثك ولذ لنا كلامك الذي هذبته الأيام وحنكته السنون، ولكننا نسألك قبل إتمام الحديث عن ركب مولانا المقوقس، هل مر بكم من هنا؟»
قال: «نعم إنهم باتوا البارحة هنا وأصبحوا فجر هذا اليوم وأقلعوا شرقا، وهم الذين بشرونا بقرب الفرج.»
فلما رأى الجنديان ألا بد لهما من الذهاب إلى بلبيس مع بربارة، وأن الشمس قد مالت إلى المغيب، عولا على المبيت حيث هم، فإذا أصبحوا ساروا إلى بلبيس، فمكثوا وقد طاب لهم حديث ذلك الشيخ، وقال له مرقس: «هل تأذنون لنا بالمبيت عندكم الليلة؟»
قال: «على الرحب والسعة يا ولدي.» ونادى أولاده فظهروا من وراء الجدران حيث كانوا مختبئين، وأسرعوا مهرولين، بعضهم قد ركب على ثور ويجر خلفه حمارا يحمل بعض البرسيم، وآخر يسوق أمامه الماشية، وفيهم شاب قد ربط يده إلى عنقه، وكان مع ذلك يحمل بيده الأخرى عصا طويلة يسوق بها سربا من الإوز، فالتفت الشيخ إلى مرقس وقال: «هذا هو أصغر أولادي الذي أشبعوه ضربا كما أخبرتك.» فتقدم الأولاد وهموا بتقبيل يدي الجنديين وهم يرتجفون خوفا، فابتدرهم والدهم قائلا: «إنهما يا أولادي من رجال المقوقس، فلا تخافوا.» وأمرهم بأن يعدوا لهما طعاما ومقاما للمبيت، وأن يقدموا علفا للثورين ويربطوهما بعمود بالقرب من البيت.
فقال الجنديان: «هلم بنا يا شيخنا ندخل هذا الهيكل فنتم حديثنا هناك، وإذا تعبت أسندناك.» فنهض على عكازه وأعانه بعض أولاده فدخلوا جميعا من ثغرة في السور حتى بلغا الهيكل فإذا بآثار وطعام وأقدام، فعلموا أنها آثار المقوقس وحاشيته، ثم جلسوا على أحجار ملقاة هناك وكانت من أحجار الهيكل فسقطت وفي جملتها قطعة من مسلة، وقد قام في صحن الهيكل شجرة من الجميز هائلة تظلل ذلك المكان، فجلس كل منهم على حجر وأخذوا بأطراف الحديث والشمس قد آذنت بالزوال، وأخذ الشفق في الظهور واستولى السكون على تلك الخرائب حتى يكاد الرجل يخشى رهبة المكان، وإذا التفت حوله فلا يرى إلا أنصابا عظيمة تناطح السحاب، وأصناما ترعب قلوب الأبطال، ولولا ذلك ما دان لها الفراعنة العظام.
فلما استتب بهم المقام قال مرقس للشيخ: «رأيناك تبشرنا بقرب الفرج، فماذا عنيت؟»
Page inconnue